المقالة

مسئولية المـثـقـف(1)

الى السيد حسن الامين مع التقدير

 

احمد معيوف

(اميس انتمورا )

 

لاشك ان جل المثقفين على بينه بما تنسجه الادارة الامريكية “خصوصا” والادارة الغربية “عموما” من مخططات ضد شعوب العالم ودوله، ومن المؤكد ان من عاش او يعيش في الغرب على علم تام ومعرفة اكيده بما تخطط له السياسات الغربية، وما تسعى هذه السياسات الى تحقيقة من مكاسب في هذا العالم، ويختلف موقف المثقف العارف لهذه السياسات بين معارض لها يجاهر بهذه المعارضة وبين مراقب لا مبالي. موقف المعارض لهذه السياسات يبني على ضو احد قاعدتين، القاعدة الاولى هي قاعدة اخلاقية، قاعدة القيم الاخلاقية والانسانية التي يرى المعارض وجوب تكريسها، ام القاعدة الثانية فهي قاعدة ايدلوجية، قاعدة مبنية على التوجه الايدلوجي الذي يسلكه معارض هذه السياسات، كالتوجه القومي او الديني او الفكري الذي يرى في هذه السياسات ممارسات عدائية من منظور قاعدته الايدلوجية. بينما يعود موقف اللامبالي من ايمانه بان الحياة تحركها المصالح، وان واجب الحكومات يكمن في تحقيق مصالح شعوبها حتى وان كان على حساب شعوب اخرى، لكن ليس على حساب مواطنيه.

امريكا، لانها تمتلك مفاتيح لعبة المصالح…… لا تخجل من هذه الممارسات، وان حاولت في بعض الاحيان تسويقها مغلفة بقيم انسانية سبق وان قلنا فيها( ) انها تبريرات لذر الرماد في عيون مواطنيها الذين تحركهم ضمائرهم الانسانية، وليس خوفا ممن تمتد اطماعها اليهم. وهذا فارق كبير بين ان تخشى مواطنيك وتعمل لصالحهم وتقدر مشاعرهم او ان تخشى الاخرين الذين تتقاطع مصالحهم بمصالحك.

من المفارقات ان الغرب الذي يريد ان يدوسنا تحت قدمية ومستعد لان ينزع اللقمة من افواه اولادنا، هو نفسه الغرب الذي يدافع عنا وينتقد سياسات حكوماته. ومن الاقلام الرائدة في نقد سياسات الولايات الامريكية هو اللغوي الفد والفيلسوف دائع الصيت والناشط السياسي البارز نعوم تشومسكي. ولد تشومسكي من ابوين يهوديين في عشرينيات القرن الماضي وبدا انتقاده للسياسات الخارجية لبلده امريكا مبكرا خلال حرب فيتنام، اعتبرته جريدة التايمز اللندنية احد صناع القرن العشرين، ومنحته هذا اللقب لما له من تأثير بيين من خلال نشاطه السياسي وادبياته، وكأحد الكتاب الرئيسيين في القرن العشرين، وهو لقب لم يحضى بنيله رئيس دولة من دول العالم الحر في حدود علمي …. ناهيك عن دعي من ادعياء السيادة في الدول النائمة بالهمزة التي تسبق الميم.

قال عنه حسنين هيكل في مقدمته لكتاب تشومسكي ـ ماذا يريد العم سام ـ ترجمة عادل المعلم :(تشومسكي، مثقف …. واسع الاطلاع على علوم زمانه، شديد الاهتمام بقضايا عصره، ثم هوــ وهذه هي الخاصية الاولي في المثقف ــ صاحب موقف بكل ما يعنيه الموقف من حق ومسئولية).

يستطرد حسنين هيكل (إن تشومسكي … اكبر ناقد للسياسة الامريكية في حلمها بالسيطرة على العالم، وفي وهمها بإمكانية امتلاك مقادير غدا وبعد غد.)

ويقول في نفس مقدمته (…. لكنه ـ وهو اليهودي ـ كان اعلى الاصوات في الولايات المتحدة وخارجها في انتقاد السياسة الاسرائيلية وفي الانتصار للحق الفلسطيني، ولم يكن موقفه هنا سياسيا، وإنما كان علميا، وتلك قيمة. ذلك أن دور المثقف هو حريته وشجاعته عندما يمارس حقه في الاختيار. والحرية لا تكون حرية الا في زمانها وفي اوانها. والشجاعة لا تكون بأثر رجعي امام القبور وليس امام القصور).

لقد اجاد حسنين هيكل في ابراز صفات هذا الانسان، فقاري تشومسكي لا يصعب عليه ان يلمس مواقفه الشجاعة التي تتسم بالمسئولية الرصينة، مسئولية المثقف الذي يحمل هم الانسان اينما وجد هذا الانسان، وكيفما كان.

الحقيقة ان امريكا تعيش حلم المقدرة على السيطرة، وتعيش وهم امكانية صنع غد مميز لابنأها على حساب حلم الاخريين، ووهم دوام القوة التى تركن اليها في دوام حلمها ووهمها. لهذا لم تغب في وصف هيكل لتشومسكي هذه الحقيقة، وادرك ان مواقف تشومسكي هي مواقف علمية مبنية على حقائق يؤكدها الواقع، وليست حسابات سياسية تتغلب فيها الاهواء والمصالح الانية، وهنا تكمن اهمية المثقف الواعي بدوره الانساني.

لعل هذه القيمة التي تميز بها فكر تشومسكي تتجلى في عنوان مقال كتبه لمجلة النقد النيويوركية للكتب( ) ـ The New York Review of Books ـ عن مسئولية المثقفين (The Responsibility of Intellectuals)، كان الحافز له في كتابة هذا المقال هو سلسلة مقالات كتبها دوايت ماكدونالد( ) عبر فيها عن قلقه مم سماه مسئلة اثم الحرب، واثم الحرب الذي يعنيه هو مسئولية المواطن العادي المتمثل في الشعب عن الفظائع التي ترتكبها حكوماته؟. يرى تشومسكي ان مسئولية المثقفين تكمن في فضح اكاذيب حكوماتهم، وفي تحليل الحوادث بناء على اسبابها ودوافعها والنوايا الخفية التي تكمن ورائها.

في المقال ايضا يُحمل تشومسكي المثقف الغربي المسئولية الاكبر باعتبار ان المثقف الغربي يتمتع بقوة تمنحها له السياسات الليبرالية وسهولة الحصول على المعلومات وحرية التعبير.

يقول ايضا في هذا السياق: للأقلية المتميزة (ويقصد بها الطبقة المثقفة في الغرب)، توفر الديمقراطية الغربية الوقت والتسهيلات والتدريب المناسب (عن طريق مراكزها البحثية وهيئاتها الاكادمية) في البحث عن الحقيقة المخفية خلف ستار التشويه والتحريف الذي تمارسه في ابراز أيديولوجياتها ومصالحها، وتعرض من خلالها أحداث التاريخ الحالي بالنسبة لنا.

مسؤولية المثقفين في الغرب، إذن حسبما يراها تشومسكي، أعمق بكثير مما يسميه ماكدونالد “مسؤولية الشعب،” بسبب الامتيازات الفريدة التي يتمتع بها المثقفين.

من كتابات تشومسكي التي تصدى بها لسياسات بلاده الكتاب السابق ـ ماذا يريد العم سام ـ حيث ابرز العديد من الوثائق التي تفضح السياسة “القذرة” للولايات المتحدة في امريكا الجنوبية والتى كانوا يسمونها امريكاتنا اللاتينية لاهميتها كمصدر خامات اولية، كما يقولون عن البترول العربي انه بترولهم ظهر في ارض العرب. وقد بين كيف ان سياسات امريكا تعتبر مصالح وسلامة العالم هي أمور عارضة وليست جوهرية في مخططاتهم، فتحدث عن مبداء منرو( ) الذي يرى :ان تهتم الولايات المتحدة بمصالحها الخاصة. أما سلامة الدول الاخرى فهي أمور عارضة وليست اهذافا في حد ذاتها.

من الخطاء ان نعتقد ان امريكا عملت على تحرير ليبيا من نظام القذافي من اجل مصلحة المواطن الليبي، الذي دفعها الى ذلك هو التقاء مصلحتها مع مصلحة الشعب، مصلحة الشعب الليبي كان امرا عارض وافق مصالح الغرب، الا ان هذا الامر لا يعني ان لا نمنح امريكا والناتو امتياز تحريرنا من ربقة اعتى نظام دكتاتوري عرفه الانسان. لا يجب ان نتنكر للعون الذي قدم لنا، فمصلحتنا كشعب كانت تتطلب هذا العون، على امل ان نعيد رسم سمة وطننا بشكل يناسب ما يستحقه المواطن الليبي.

في الباب الثاني من نفس الكتاب اشار تشومسكي الى دراسة قام بها اكاديمي بارز ومتخصص في حقوق الانسان خلاصة دراسته “المساعدات الامريكية تميل للزيادة مع الحكومات التي تمارس التعذيب مع مواطنيها”. كما اشار الى دراسة اقتصادية اجراها عالم اقتصادي متميز كشفت عن “تلازم وتيق بين التعذيب والمساعدات الامريكية في العالم كله”، وفسر هذا التلازم لضرورته في تحسين مناخ الاعمال الخاصة التي يستفيد بها المستثمر الامريكي( ).

وفي نفس الباب هناك تفاصيل كثيرة حول دعم العسكريين في الدول النامية، لانهم افضل ادوات التغيير لمجابهة اي خطر يهدد المصالح الامريكية في تلك الدول. ويقول تشومسكي:”من وجهة النظر القانونية، هناك ما يكفي من الادلة لاتهام كل الرؤساء الامريكيين منذ نهاية الحرب العالمية، بانهم مجرمو حرب، أو على الاقل متورطون بدرجة خطيرة في جرائم حرب”.

في لعبة المصطلحات، يقول تشومسكي في الباب الثالث من الكتاب “مصطلحات السياسة لها معنيين، أحداهما معناها المعجمي المتعارف عليه، والثاني معناها الذي يخدم ايديولوجية الاقوى”( ).

من البديهي ان كتابات تشومسكي ومن نحى نحوه جديرة بالقراءة والبحث. واهمية الاطلاع على خبرات هؤلا الكتاب، لا تكمن في فضح سياسات الغرب كما يفعل السدج والتافهين، ضانين …. بان ابرازهم لهذه السياسات الامريكية القذرة ربما تنجح في اضفاء طابع الوطنية على شخوصهم، وتلميع صورهم امام شعوبهم، وانما الهذف من القراءة الالمام بابجدية الواقع الذي يعيشه انسان هذا العصر، بل وكل العصور. لعبة المصالح ليست حديث عهد بالتاريخ الانساني، وليست حكر على شعب دون غيره، فنحن نعرف من تاريخ العرب الجاهلي مثلا ان غزو قبيلة قوية لقبيلة ضعيفة وغنم مورادها والسطو على ممتلكاتها من اجل توفير قوت اهلها هو من الشهامة. نفس اللعبة تتكرر اليوم بفارق ان القبيلتين المعتدية والمعتدي عليها تعمل على حماية افرادها وجماعتها، بينما انتكبت العديد من دول اليوم بانظمة وتنضيمات همها تكريس سلطانها على حساب مواطنيها وانظمة اخرى تعمل من اجل رفاهية شعوبها حتى وان تنكرت لانسانيتها.

امثال الكاتب العظيم تشومسكي واعمالهم هي محاولة توفيقية بين تغول الانظمة التي تضطهد مواطينها في سبيل استطالت اعمارههم في سدة الحكم وبين تغول الانظمة التي تعمل كل ما في وسعها لتحقيق رفاهية تعود على مواطنيها بالرفاهية والامن، انها التوفيق بين المصلحة والقيمة الاخلاقية.

مسئولية المثقف إذا، خاصة في الفترة الراهنة التي تمر فيها بلدننا بمرحلة التحول، وتعيش فيها بين مطرقة الامل وسندان الواقع، مسئوليته ان يتخلص من التبعية الايدلوجية التي تشده للحزب والقبيلة والفكرة، ليتماهي مع الواقع الذي يفترض في المثقف ان يتسلح بسلاح الوطنية، فيساهم في بناء وطن يسع الجميع بغض النظر على انتمائتهم او تفكيرهم، وطن اختارنا ان نكون ابنائه، فمن المخجل ان نكون عاقين له.

لا يوجد نظام في ليبيا يمكن تحميله مسؤلية الفشل المستمر، فسيطرة بعض التيارات على المؤتمر الوطني، وضعف يدى الحكومة في السيطرة على الوضع العام يجعلهما غير كفيلي بتحمل ثبعت المرحلة. لكن يوجد شعب قام بثورة فعليه، اجبرته على حمل السلاح في وجه بعض شركاء الوطن، وربما في وجه اخية الذي وقف في الجانب المظلم الى جانب الظلم. هذا الشعب هو المسؤل الاول عن تصحيح ابجديات اللعبة السياسية، وتحويل وجهتها الى المقاصد النبيلة التي قامت الثورة من اجلها. ومسؤلية المثقف ان ينحاز الى الشعب، ويعمل على كشف المفاسد التي قد تؤدي الى انهيار الدولة التي لا زالت تعاني الام مخاض الوضع، ولا زالت جراحها تنزف. حتى تنتصر قيم الثورة ، على المثقف ان يكشف الممارسات القمعية التي تقوم بها بعض المليشيات المحسوبة على الثورة. على المثقف ان يكشف عن الممارسات الحزبية التي تعمل على اجهاض الثورة بدوافع ايدلوجية، وتعمل على التمكين من مفاصل الدولة باستخدام مليشياتها وقوتها في البرلمان.

لا يسعني ختاما لهذا المقال الا ان احي الروح النضالية والنقدية التي تميز بها السيد الفاضل حسن الامين، والذي برهن بها على وطنية لا يجاريه فيها الا القلة، واكد فيها ان ليبيا لا تخلوا من المثقف الواعي بدوره. وان كنت لا اتمنى ان يترك مكانه في المؤتمر، ولا زلت اعتقد ان دوره داخل المؤتمر لو استمر فيه لكان اجدر من دوره خارجه، الا انه اعلم بحاله من حال المراقب.

والله من وراء القصد

مقالات ذات علاقة

إلا حبيبي.. إلا سلام قدّري

زياد العيساوي

أنا ضد دسترة الشريعة بليبيا القادمة

وفاء البوعيسي

الأدب بين اشتراطات المذهب وافتراضات الذوق

المشرف العام

تعليق واحد

فاطمة معيون 28 سبتمبر, 2013 at 19:28

مقال قيم وراقي وممتاز ..ولما يحمله من حقائق بصرف النظر عن تأويلات أخري
و أنا أتساءل أين هى الثقافة الليبية من مثقفيها ؟؟
المثقفين الذين ير فعون علم ليبيا واسمها فوق جراحهم وفي قلوبهم وفي منابر العالم
قد قرأت لمثقفة ليبية قبل مدة ذهلت أن أقرأ لها قصائد وروح وطنبة لاتنتظر الشراهة للمراكز والمراتب
ومن المؤسف أن أجد أن بعض الاخوان العرب سألني عنها فلما قلت لهم لا سخروا مني
و أضافوا لي صفحاتها على الفيس بوك …فوجدتها الدكتورة عزة رجب من مدينة بنغازي فهل نحن دولة تغفل عن مثقفيها ؟؟ وهل صاروا معروفين عربيآ ونحن بالداخل نائمون عن بناتنا و أولادنا ؟؟
أم أن المثقف الحقيقي المحب للوطن همه الوحيد هو أن يبيض صفحة ليبيا والتي شوهها الليبيون بأنفسهم
إننا لانطلب سوى من وزارة الثقافة أن تعتني بهؤلاء و أن تنظر لهم كيف يرفعون اسم ليبيا عاليآ بدون أن يلاقوا أدنى هتمام منهم ..

رد

اترك تعليق