د. أمينة المغيربي*
ديوان (بمنعطف من شارع DeWolf) للشاعرة ليلى النيهوم هو سيمفونية بكائية شجية في ليالي الغربة، وغنائية مفعمة بالحب مع إشراقة الشمس، تعزف فيها الكاتبة مشاعر متضاربة من الفقد والغيظ والحنين والشوق.
نستهل هذه القراءة بعنوان الديوان والذي يرسل دلالات وإشارات تبوح بمحتوى وبنية قصائد النثر التي نسجتها الكاتبة في هذا الديوان. فالعنوان يحدد فضا ًء معيناً يقبع خارج حدود الوطن متمثلاً في بقعة من العالم اختمرت فيه هذه القصائد وخرجت حروف وكلمات حية على الصفحات البيضاء تتأمل الكاتبة فيها أشواقها وشجونها وتتفكر في الأحداث المؤثرة والصادمة في بلدها والتي تختبرها وتؤثر فيها وهي متواجدة عن بعد في بلاد الغربة، فتقول: “أغيب هنا لأكون هناك / أدرك الآن وعورة المفترقات”. وفي قصيد بعنوان “بيت أبي” تعبر عن هذا الشعور بتواجدها بعيدة عن الوطن…
من خصائص الشباك تسري الياسمين
عطرها بيت أبي
طرقة أخي على الباب
هناءة عشيات قاريونس
والوطن
وأنا هنا
باكر صباح Clovis
ابكيهما والوطن
وكل من رحل
منذ العام 2011
هذا الفضاء الذي تواجدت فيه الكاتبة ويفصلها عن الوطن، اختبرت فيه تجارب حياتية أثرت في مشاعرها وزودتها بلغة وثقافة تنطلق من مرجعيات أدبية وفنية ومعرفية أضافتها إلى ما تمتلكه من مخزون ثقافي وتراثي للغتها ولمجتمعها، وتداخلت معها لغوياً وبنيوياً في غزل شعرها. فبمجرد أن تقرأ العنوان (بمنعطف من شارع Dewolf) وتقلب أصابعك صفحات الديوان تري بوضوح ظاهرة توظيف الثنائية اللغوية متمثلة في ادماج مفردات ومصطلحات وعناوين وأسماء أدباء باللغة الإنجليزية في نصوص قصائدها المكتوبة باللغة العربية. بعض منها مكتوب بحروف إنجليزية والبعض الآخر بحروف عربية. كما تحتل هذه المفردات الإنجليزية عناوين بعض القصائد مثل Photography و Garden Street Inn وغيرها.
هناك كثير من التداخل الثقافي في قصائد ليلى النيهوم حيث تستحضر في كثير من هذه القصائد ومضات من الأدب الإنجليزي والأمريكي مستوحاة من المكان أو الفكرة التي تنطلق منها القصيدة، فنجد فرجينيا وولف) Virginia Woolf (وشتاينباك) Steinbeck (وروايته Cannery Row والشارع الذي سمي عليه. كما ترسم النيهوم صور شعرية تعبر فيها عن أحاسيس ومشاعر في قوالب شعرية هجينة مثل الهايكو الذي تقول فيه: “ما الذي يملي الحروف؟ / من يلقنها لأصابعي؟ / تلك الريح تعوي / ذاك الخلنج يرتجف” حيث تتداخل فيه فقرات مترجمة من قصيدة ميلتون (Paradise Lost( ومن قصيدة إميلي برونتي High waving )heather). هذا النموذج من أسلوب الكتابة يمثل الشعر الهجين (hybrid) وهو نوع من التداخل الثقافي بين ثقافات ولغات خبرها الكاتب واثرت في أسلوبه وكتاباته وتبرز خاصة بين الكتاب المقيمين في بلاد الغربة والذين عادة ما يكتبون باللغة الأجنبية ويضيفون في قصائدهم مفردات وفقرات باللغة العربية حيث يمتزج ويتداخل الموروث الثقافي العربي مع ثقافة ولغة البيئة المضيفة. ما يميز قصائد الشاعرة ليلى النيهوم عن هؤلاء هو انها تكتب باللغة العربية وتتداخل معها اللغة الإنجليزية.
تنسج ليلى النيهوم هذه القصائد النثرية التي تعبر فيها عن معاناة ووجع صدمة اغتيال شقيقها وعن المآسي التي حلت بالوطن في صورة شعرية مليئة بالاستعارات والتشبيه والكناية مزجت فيها الشاعرة بمهارة بين الموروث الثقافي للبيئة المحلية التي نشأت وترعرعت بها في بلدها الأم ليبيا مع الثقافة الغربية التي خبرت أدبها ولغتها. تستجلب من خلال قصائدها وصفاً للأماكن والطبيعة في ليبيا وتعبر عن افتقادها لها في حياة الغربة. فتذكر مواقع في ليبيا من التاريخ والميثولوجيا، تحدثنا عن ماضي صاخب تسترجعه الكاتبة في وقفة تأمل وحسرة على ما يمر بالوطن من وجع وما تشعر به من ألم الفقد، فها هي تخاطب شقيقها المغدور مستجلبة صور من مواقع من بلادها: “أناديك كصدى مجنون في وادي مرقس/ تحت وسم الأسد في الوشز المعلق”. وتصف في مواقع أخرى من قصائدها وقع صدمة الفقد وحالة الاضطراب التي تعيشها في كالفورنيا:
في كانيري رو
وعلى مبعدة من هجير كلوفيس
اتنشق برد الصباح
أتأمل شعري الهائج متجهاً كل صوب وحدب
تحت نزيز الطل
وحيدة مثل ميدوسا الليبية
حولها الغزاة إلى وحش
أعلنوا ذلك في المكان والزمان
وأحلوا أثينا
ترثي النيهوم شقيقها المغدور وتعبر عن مدى حزنها حيث: “لا قامة أعلى من حزني / لا سماء تتسع له”. هذا الحنق والغضب الشديد لما حدث يتجاوز حدود كظم الغيظ:
أفتقدك
يا إلهي
وتلك الحسرة كيف أهشها من أيامي؟
أفلتها في فلوات السهو
ذلك الغل يا أبتاه حريق
ذلك الغيظ يا شقيقي المغدور ليس بكظيم
يضفي هذا الشعور بالأسى والحزن وخيبة الأمل ظلاله على معظم قصائد هذا الديوان. فحين تعبر عن شوقها لطبيعة بلدها ولثمارها في قصيدة “قعمول”، نجدها تنكث جراحها وتذهب بخيالها بعيداً: “أتكهن أن القعمول درج سري / حين أفتحه أجد رسالة من أخي / وصورة يده يلوح بها عالياً / في سماء النواقية / حيث يرهج الأقحوان الأصفر والبوقرعون”.
تظهر قصائد هذا الديوان ميل الشاعرة إلى ان تكون هناك حدة في الرؤى تبصر بها الأحداث بعين ثاقبة فنجدها قد وظفت تقنيات التصوير الفوتوغرافي بكل ابعاده في كثير من قصائدها ليصبح عينها الثالثة: “أنا وعيني الثالثة نتأمل تحت قوس مطمئن”، وتقوم بتعديل عدستها لتتضح رؤية ما عجزت العين المجردة عن ملاحظته: “أعدل فتحة عدستي / شديدة الحساسية للضوء والظلال الغيبية”. كما تستخدم مصطلحات هذه التقنية لتعطي صور شعرية للمعنى المقصود فتتكرر هذه المصطلحات مثل العدسات والكاميرات وPixel واللقطة.
ولكن هذه الروى تنزوي في الظلام الدامس مع بشاعة ما يحدث في البلاد، فتعبر عن هذا المشهد القاتم بقولها:
رأيت خزان المياه يئن قصفاً
الباحة حيث اعتدت ركن عربتي
الشجيرات حيث كان أخي ينتظر جذلاً لحضوري
عبرت جحافل الهمج صفوي
ليس من فراغ أن تنزوي الرؤى
في دغل دامس
ليس غير الحتف
أو نزوح الوسائد
خالية الأحلام ومتوسديها
ليس غير سفح متآكل مترام الحجر
حيث كانت البيوت
كما ان في عدد من قصائد هذا الديوان تحاور الشاعرة قارئها من خلال نوافذ التواصل الاجتماعي في عصرنا هذا، فتكرر صورة التواصل عن طريق الفيسبوك والفايبر والإنستغرام وغيرها. حيث أصبح هذا الفضاء الافتراضي وسيلة الترابط مع البعيدين عنها يوصل لها هذه الأخبار المحزنة ويسمح لها بمشاركة العزاء مع أحبائها. ففي قصيدة “أمي” يظهر صوت أمها من خلال الفايبر: “صوت دموعك تراجيديا زمن التغول / نحيبك عبر الفايبر / آه قلبي مجرى نهر جاف / روزنامة فقد / كل تواريخها صواري ابتعاد / أماه يا أمي يا وجعي”. كما أصبح الفيس بوك، بالأخص، قناةً تستقي من خلالها الأخبار وتتعرف على التوجهات والمواقف العامة في بلدها، والتي تستهجن بعضها: فتقول: “وعلى منشورات فيسبوك / ذات بخر / حوائط غسيل قذر تتلاسن“. وفي قصيدة “الضياع” ترسم صورة لما آل إليه النشر في هذا الفضاء الافتراضي:
ضعت في حواري الفيسبوك
أخذتني البوستات المتنامية كجبل من هلام العقول
تعرت في تلال السباب
أكوام الشتائم
اصطدمت بصفحات تقتل داخلها الهوية
تشنق تعليقه
تبعث تقرير ميوله لمن يدفع أكثر
راودتني رعدة عن وطني
تشجنت يدي
إن محتوى مواضيع قصائد هذا الديوان تتمحور حول التجارب الحياتية للشاعرة ولواقع الحياة التي تتفاعل معه في بلدها ليبيا ومن خلال نافذة مكان إقامتها في البلد المضيف، حيث تتراكم المشاعر وتضطرب العواطف وتشتبك بانفعالاتها وبتطلعاتها وخيباتها ومكابداتها لترسم صور شعرية تعبر عن الإشكاليات التي يعيشها الليبيون في ظل ظروف حياتية فوضوية مأزومة، سببت كثير من الصدمات التي أفقدتهم الشعور بالأمن والطمأنينة وملأت حياتهم بالقلق والهموم والقمع واللغط بدون معنى. لقد خلقت الشاعرة بؤرة توتر تلتحم فيها صيغ لغوية وثقافية تخترق من خلالها المألوف المعجمي بتقديم سياقات غير مألوفة من دمج اللغتين العربية والإنجليزية وباستحضار عوالم معرفية هجينة من ثقافات أخرى لتنتج دلالات وإشارات يتلقاها القارئ وينغمس في فهم معناها، والذي قد لا يكون سلساً إذا لم يتوفر لدى المتلقي أدوات فك الشفرة من لغة ومرجعيات معرفية لهذه الثقافات والآداب الأخرى. وقد يتباين التلقي ايضاً في شقه العاطفي والانفعالي فيخلق توتراً يختلف من قارئ لآخر.
*كلية اللغات، جامعة بنغازي