رغم عشرات الكتب، وعشرات الدواوين الشعرية، وعشرات المسرحيات ومئات الأغنيات واللوحات التشكيلية، فإننا لازلنا قارة مجهولة في عصر غزو الفضاء والفضائيات والإنترنت.. نحن الذين تعودنا أن نردد مقولة (من ليبيا يأتي دائماً شيء جديد) ظل جديدنا المتجدد هو الانطواء والانكماش على ذات تشك فيما حولها وتخشاه.. ذات ترى أن الهواء الطلق والتفاعل مع الآخر شيء مخيف قد ينسف مقومات هذه الذات.. ظللنا وظل منتوجنا الأدبي حضارة (لا سادت ولا بادت..!!)
في (الأوديسا) يقول هوميروس: (ليبيا حيث تلد النعاج خرافها ناضجة بقرونها مرتين أو ثلاث مرات في العام، وحيث لا يخلو بيت ملك ولا راع من الزبدة والحليب)، في (الأدويسا) الحديثة (الأيكونوميست) مثلاً أو نشرات البترول يقول هوميروس المعاصر: (في ليبيا حيث يتدفق النفط من الصحراء باتجاه البحر بانسياب أخّاذ، وحيث تضج الموانئ النفطية بالبواخر)، وما بين الحليب والنفط، بين النعاج والبواخر، ظللنا رحلاً يضيع شعرهم وأساطيرهم، أحلامهم وأوهامهم في رياح المشافهة.. ظل جديدنا المتجدد هو الهوس الدائم بالتأسيس وإيجاد مواقع جديد للنجع، ظلت مدننا مواسم ربيع قصيرة يحاصرها القيظ والعطش، مهلوسة بالتأسيس في أماكن أخرى، وظل شعار إنسانها الدائم هو الانفصال عن الأمكنة بل وعدائيتها، ظل الشعار المسيطر دائماً لمجتمع بأسره (يرحم بوي خلاني هوادي، كيف النجم في كبد السما) لا صلة بالمكان، لا استقرار رغم السكون، ولا كلام رغم الضجيج، ظللنا معلقين باتجاه كبد السماء بخيط من صوف النعاج ثم بخيط من أصواف B.V.C.
وهذا الانشغال بالتأسيس في أماكن أخرى والبحث عن معاطن جديدة للنجع، منعنا من أن نؤسس شيئاً ينمو ويستمر، فالاستقرار ونمو العلاقة بالمكان هما التأسيس الحقيقي لأي شيء بما في ذلك الذاكرة.. إن ذاكرة الرحل مخرومة تقطر ماءها على رمال الطريق، أما ذاكرة المستقرين فشجرة مباركة جذورها في الأرض وفروعها في المستقبل.
إن (فيروس) التراجيديا في شخصية بطل (إبراهيم الكوني) في رواية (نزيف الحجر) هو هذا العزوف والخجل من الآخر، إنه لا يستطيع أن يقابل تجار القافلة العابرة ليبيع لهم عنزاً فيربطها ويختبئ كي يأتوا ويضعوا ثمنها على الأرض ويفكوا رباطها ويأخذونها دون أن يقدم لهم نفسه أو يحاورهم بل يحرص على ألا يرونه.. إنه خلاصة ذاك (الهوادي شبيه النجم في كبد السما)، سلاحه ضد المكان الذي ليس إلا عدواً دائماً هو التكتم والنسيان، اللثام وعدم قول الذات، وإن حدث وقيلت –نتيجة هفوة- فإنها مشافهة تذروها الريح إلا فكرة التوثيق (والأرشفة) حتى الآن.. إن علاقتنا بالمكان أو الوطن لازالت أسيرة حلب المكان منذ زمن هوميروس الأول ونعاجه، وحتى هوميروس الأخير ونفطه، دونما إحصائيات أو أرشيف إلا مشافهة تذروها الريح.
أعتقد أن العزلة والنسيان هما آليتنا المفضلة، وعلى هذا النحو يظل الأدب الليبي أسير لثامه، منزوياً مجهولاً حتى من مجتمعه، لا صلة تذكر بين جيلٍ وآخر، بل حتى بين أفراد الجيل نفسه، فمن النادر أن نجد دراسات ليبية عن ليبيين، بل ويصل الأمر إلى عدم الاعتراف المتبادل بين الكيانات الأدبية الفردية في ليبيا، إن أجيالاً من الليبيين، لم تقرأ للشاعر (محمد الشلطامي)، حتى الآن بل تزيد على لثامه لثاماً وعزلته عزلة وكذا الأديب (خليفة الفاخري).
إن أجيالاً من الليبيين لم تقرأ للكاتب (يوسف القويري)، ذاك الذي رأى مصيره منذ الستينات حين قال: (أن المجتمعات المتخلفة ترمي بمثـقفيها إلى العدم).
وكي لا أواصل عرض الحال هذا فإنني أطرح مشروع، مقاومة النسيان، وذلك بالبدء في مراجعة إنتاجنا الثقافي عبر هذا القرن، إن (النيهوم) و(القويري) و(المصراتي) و(خشيم)، وغيرهم كثيرون قد أنتجوا كماً مهماً من الثقافة لم تراجعه لا أجيالهم ولا الأجيال التي تلتهم، علينا أن نقف الآن لمراجعته واستيعابه، بروح موضوعية وبعيداً عن القدح والمدح.. إنها الخطوة الضرورية الأولى لمغادرة هذه المائة عام من العزلة، إننا وعبر هذه المراجعة سندرك (معنى الكيان)، و(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق).