محمد الطيب الهرام
بدأ اليوم في حي الصافي الذي يقع في الضفة الجنوبية من مدينة “طمبس” كباقي الأيام، الباعة المتجولون ينادون لبيع بضائعهم المكدسة على عربات الخشب التي تجرها الدواب، عربات الخُضار هي الأكثر ازدحاما، بجانبها وفي الجهة المقابلة، عربات بيع الألبان والاجبان والسمن البلدي، فيما تجوب الشوارع عربات بيع الأواني وأغراض الطهي، ذهابا وإيابا، وتقف عند بداية “شارع المملكة” عربات بيع الملابس، متراصفة مكسية بجلابيب وأحذية وبعض مواد الزينة.
يتكون حي الصافي من شارعين رئيسيين وهما “شارع المملكة” الذي يقسم الحي نصفين، و”شارع الادوار” الذي قسم الحي نصفين هو الآخر، ويتقاطع مع شارع المملكة في مركز الحي. تتراصف 70 بيتا في أزقة وشوارع متفرعة بالحي، تطل البيوت بجدرانها العتيقة المكسية بالتصدعات والشقوق، كما التجاعيد على وجه شيخ عجوز، شوارع الحي ليس بها طرق معبدة ولا أرصفة، لا شيء إلا التربة الناعمة الحمراء التي طحنتها الارجل والعربات والدواب، لا تخلو المنازل المتواضعة المسقوفة بالأخشاب، من صور الشهداء، ثمة وجوه شابه كثيره في مقتبل العمر تقابلك في براويز وإطارات معلقة على أبواب المنازل العتيقة، حيث ما تولى وجهك ستجد تلك الصور، إنهم شباب وهبوا أرواحهم فداء للوطن، ولم يكافئهم الوطن بشيء سوى العيش اللئيم لأسرهم واقرباءهم، شهداء حي الصافي ليسوا فقط من هذا الزمن، كثير من العائلات لهم اجداد نالوا الشهادة ضد المستعمر، وهناك بعض المحاربين من جيش التحرير لازالوا على قيد الحياة.
في حي الصافي توجد مدرسة واحدة وهي للمرحلة الابتدائية ويوجد بالحي الجامع العتيق أول مسجد بني في المدينة، يشتغل سكان الحي في المهن الحرة، فمنهم مُربِي المواشي والفلاحين والباعة المتجولين، ويكتفي شبان الحي بالمرحلة الابتدائية كتعليم ليتمكنوا من القراءة والكتابة، ثم يبدؤون معركة الحياة، بحثا عن قوت أسرهم، ويضعون أساسا لمستقبلهم، فهنا لا أمل لهم في المستقبل إلا بسواعدهم، فالدراسة بالنسبة لهم مجرد تضييع للوقت، وإن تخرجوا من الجامعات سيكتفون ببروزة شهاداتهم ووضعها في بيوتهم كغيرهم من أقرانهم العاطلين عن العمل.
قال رحيل صاحب محل المواد الغذائية الوحيد في الحي، محدثا عمر صاحب القهوة “لقد تأخر الحاج إدريس، أخشى أن يكون قد أصابه مكروه”، فرد عمر “تفاءل خيرا” ثم واصل قائلا “إنها ليست المرة الاولى التي يذهب فيها الحاج إدريس لبلدية المدينة، فقد ذهب عشرات المرات سابقا ولم يصبه أي مكروه” ، بتفاؤل يقول رحيل “إن شاء الله يرجع طيبا”، ثم يواصل الحديث “عسى أن تأتي زيارته هذه المرة بنتيجة لقد مللنا وسئمنا الوعود الغير محققة، على أقل تقدير تنصفنا البلدية وتوصل لنا الكهرباء لأكثر من 4 ساعات في اليوم، أو تجر لبيوتنا مياه الشرب، أما الطرق وتعبيد الشوارع فلا حاجة لنا بها، فليس ثمة شخص يملك سيارة، من سكان الحي”.
مع حديثهم هذا لاح شبح الحاج إدريس من نهاية الشارع وبدأت ملامحه تظهر شيئا فشيئا، أنهُ الشيخ الذي غزى الشيب لحيته، وما إن اقترب من المحل حتى حيا الجالسين بتحية الإسلام، وجلس وخيبة الأمل واضحة على وجهه، قبض بقوة على كأس ماء، وسكبه في جوفه دفعة واحده، بادره رحيل بالحديث متسائلا “بشر ماذا حملت زيارتك هذه المرة؟”، يمسح عرق جبينه بطرف عمامته ويرد الحاج إدريس “كالعادة لا شيء سوى الوعود” ثم أردف قائلا “هذه المرة قابلت عميد البلدية لقد وعدني بأنه سيزور الحي في أقرب وقت”، ذهبَ عمر إلي قهوته، ودخل رحيل رفقة زبون لمحله وأكمل الحاج إدريس المسير إلي الجامع العتيق للقاء إمام وخطيب المسجد الشيخ عبدالله.
يبلغ الازدحام ذروته في حي الصافي عند مغيب شمس يوم الخميس، الكثير من السيارات تقف بالقرب من كشك “جطال” يتزاحم شبان الأحياء المجاورة على الكشك لأخذ حاجتهم من الخمور والممنوعات، وقفت قبالة الكشك سيارة جديده فخمة معتمة الزجاج لم يخرج منها أحد، أقبل إليها جطال مسرعا، ناول السائق أربع زجاجات خمره محلية، وانطلقت السيارة بسرعة مغادرة الحي، على الجانب الآخر كان يراقب رحيل وعمر كشك جطال ، وقال عمر بسخرية “إنها سيارة عميد البلدية، لقد اوفى بوعده هذه المرة وزار حينا” فرد رحيل ساخرا هو الآخر “إن زيارات المسؤولين لأكشاك بيع الممنوعات، أكثر بكثير من زياراتهم لمكاتب عملهم”.
بدأ الليل يلقي بعباءته وشيئا فشيئا تسرب الصمت إلى شوارع وأزقة حي الصافي، دلف الكثير بيوتهم بعد يوم شاق كدحوا فيه حتى تقرحت أيديهم وتقوست ظهورهم، لأجل لقمة العيش، سكن الرجال إلى أسرهم… الشوارع خاوية باستثناء بعض الكلاب التي تنبش اكياس القمامة، ومن نهاية الزقاق في عتمة منتصف الليل عاد جطال وصديقة “درجي” يترنحان في حال سكر ويهذيان بكلمات غير مفهومه، دلف كل منهما بيته واشارا لبعضهما بشارة اللقاء مجددا.
نام سكان حي الصافي على أمل أن يتجدد اليوم بحال أفضل، ناموا على أمل أن يُسجل حيهم في المخطط العام للمدينة، فبهذا تضفي بعض الشرعية على حيهم المنسي، رغم أنه أول الأحياء أو أقدمها في المدينة، ناموا على هذا الأمل والكثير من الآمال الاخرى.