عندما زار الرحالة البريطاني جورج ئي. تومسون George E. Thompson مدينة طرابلس في عام 1893، قرر أن يسجل ما شاهده في كتاب رائع يستحق الترجمة (الحياة في طرابلس) Life in Tripoli. يتحدث المؤلف عن الحياة في طرابلس في ذلك الوقت، بمبانيها وسكانها متعددي الأجناس من العرب والأمازيغ واليهود واليونانيين والمالطيين والسمر ومن جلبهم العهد العثماني الى طرابلس من جميع انحاء البلدان التي كانت تحت الحكم العثماني.
وهنا تلخيص لبعض مما جاء في الكتاب. يتحدث جورج ئي. تومسون في الكتاب بلغة ذلك الزمان، أي منذ أكثر من مائتي عام، وبالتحديد (228 عاماً مضت)، بلغة انجليزية قديمة بعض الشيء سواء بتهجي الكلمات أو بالتعبير عما يجيش في نفسه، وهي لغة انجليزية جميلة مثل جمال اللغة الإنجليزية الحديثة. يقول انطلقت بنا الباخرة (فيل دي مدريد) (Ville de Madrid) في اليوم السابع عشر من مارس 1893، مُبحرة ميناء مارسيليا بفرنسا الى تونس ثم مالطا ثم طرابلس. انطلقت بنا من مرفأها عابرة غابة من صواري المراكب المصطفة على جانبي رصيف المرفأ لتترك المنارة خلفها وتنطلق الى البحر الواسع في طريقها الى طرابلس بعد استراحة في تونس ثم مالطا.
وصلنا الى طرابلس، وكانت اقامتي في فندق لا يبعد أكثر من خمسة دقائق عن الميناء. كان الخليج الصغير الذي يطل على الجانب الآخر من مبنى الجمارك منظراً يبعث البهجة والسرور في النفس خلال فترات الصباح المشمسة والمبكرة في طرابلس. كنت أقوم بزيارات صباحية لأمتع نظري بهذا المنظر الجميل، مروراً بمبنى الجمارك ومحطة الحجر الصحي القديمة المحاذية للسرايا الحمراء.
يمكنك أن تُشاهد العديد من المراكب الراسية هناك والتي تشبه مراكب القراصنة، الاّ أنها في حقيقة الأمر مراكب صيد الإسفنج اليونانية ليس الاّ. أما على الجزء الآخر من الشاطئ، فقد كانت أعمال بناء السفن تجري على قدم وساق، مصحوبة بعمليات أصغر من الإصلاح والطلاء بالقرب من الشاطئ حيث تقف بعض من النساء اليهوديات في ثياب ملونة جميلة يغسلن الملابس أو الأواني والمقالي في مياه البحر، وبالقرب منهن يمكنك مُشاهدة أطفالهن بملامحهم الجميلة يستمتعون بوقت ممتع في التجديف واللعب في مياه البحر.
يوجد خلف الجزء المخصص لشحن وتنزيل البضائع.. قطعة أرض كبيرة تغطيها بالكامل أواني خزفية محلية الصنع من جميع الأحجام والأشكال، فهناك الجرار الضخمة مدببة الرؤوس، لحفظ الماء أو زيت الزيتون. إنها ضخمة في احجامها لدرجة أنك لا تشاهد من العرب الذين يسيرون بينها الا قبعاتهم. المنظر يوحي بأن هناك علي بابا والأربعين حرامي يختبئون داخل تلك الجرار.
عند مغادرتك لهذه السوق ستجد نفسك تمر في مسرب يسمح لك بدخول المدينة بين السرايا والصخور المطلة على البحر. ولكن سرعان ما حذرني جندي تركي من أعلى السرايا، وطلب مني العودة إلى البوابة. وبعد أن عدت أدراجي الى سوق الأواني الفخارية، سلكت طريقاً آخر، فوجدت نفسي أمر بالمقاهي التي يتجمع فيها البحارة، ودخلت سوق السمك الذي يقبع تحت الأقواس التي تعلوها قبب المبنى. ومع أن الأرضية الحجرية كانت رطبة ولزجة، الاّ أنك تجد تجار السمك يجلسون بين مخلوقاتهم العجيبة من الأسماك ذات الألوان المتعددة والأشكال الغريبة. إنه مشهد مثير فعلاً. وفي طريقي الى الفندق، وجدت نفسي أسير بصحبة الزنوج الذين يطاردون دوائر الجمارك لنقل وإنزال البضائع من السفن، ثم يتواصل سيري أمام المقاهي والى البوابة المطلة على البحر في سوق الفواكه الذي يبعث البهجة في النفس.
في منتصف الطريق الى الفندق يوجد القوس الرخامي الروماني الرائع والذي يقع النصف الأسفل منه مدفونًا في الأرض على حطام متراكم منذ 2000 عام. جدرانه مغطاة بنقوش جميلة، لكن أبوابه الخشبية الآن تؤدي إلى قبو يحوي في داخله كميات من النبيذ، وقيل لي إنه سيتم تشييد مبنى آخر فوقه. مقابل نهاية هذا الشارع توجد أعلى مئذنة في طرابلس، حيث تُشاهدها تنطلق عالياً في السماء بشكلها ثماني الأبعاد يغلفها غطاء من النحاس الأخضر، وحيطانها مغطاة بالبلاط العربي الملون على خلفية بيضاء.
وفي مكان آخر يصف الحياة في طرابلس بالكسولة، حيث يقول: في أحد الأيام سألت السيد؟؟؟ (لا يريد ذكر اسمه) عن كيف تسير الأمور التجارية في طرابلس وأي من أيام الأسبوع يعتبره أفضل من الأيام الأخرى للتجارة في طرابلس، فيقول أجابني السيد؟ بأن يوم الجمعة هو عطلة المسلمين، وأيام السبت هي عطلة اليهود وأغلب الأعمال التجارية هي في يد اليهود، وأيام الأحد تُعتبر بطبيعة الحال أيام راحة للرجل الإنجليزي. أما أيام الإثنين فإنها بعد هذه العطلات الثلاث يحس فيها الإنسان بالكسل حيث يجد أن مواصلة العمل تتطلب مجهوداً أكبر. أيام الثلاثاء مُخصصة لزيارة سوق الثلاثاء وهو سوق مفتوح على جانب الشاطئ الجميل الذي يضفي البهجة على الزائر، وعليه فإن أيام العمل تبدأ يوم الأربعاء وتنتهي يوم الخميس.
سبتمبر 2021
الصور المرفقة من الانترنت التقطها الكاتب بنفسه في ذلك الزمان