بعد تجربة أولى، مع كتابه (قاموس الحكم والأمثال الليبية)1، أستطيع القول إلى كتابات القاص والباحث في التراث “أحمد يوسف عقيلة” لها طابعها الخاص؛ فهو ليس تناول المختص الذي يقدم مادة تراثية بلغة نظرية علمية جافة، وأيضا ليس بتناول الهاوي المحب الذي لا يملك إلا حبه لهذا التراث. إنه تناول يمزج بين الأسلوبين؛ ففيه لمسة العارف بالتراث والباحث الذي يؤرخ وينظر له، وأسلوب الهاوي المحب الشغوف بالتراث، وإدراك معانيه والبحث في دلالاته.
وبالرغم من حجم الكتاب -الصغير- الذي نتوقف معه هنا، إلا أنه يعكس الأثر الكبير لهذا اللون الشعري الشعبي والمعروف بـ(غناوة العلم)، وهي ليست (غناوة العلم) التي كثيرا ما شاهدناها على شاشة التلفزيون، إنما نتوقف في هذا الكتاب مع (غناة العلم عند المرأة)2، وهو عنوان الكتاب الذي لم أستطع ان أتوقف حتى انتهيت منه!
بداية من توطئة الكاتب “أحمد يوسف عقيلة”، يعترف لماذا قام تعمد استخدامه (غناوة العلم عند المرأة) وجعله في كتاب مستقل، معللا أن هذا ما هو إلا تصنيف فني، غايته إبراز إضافة المرأة في هذا اللون الشعري، أو علامتها الفارقة عندما تتغنى بالعلم:
خذيت حطية المركاز
يا عزيز يا عونك بها3
بعد التوطئة، ينتقل الكاتب إلى (مختارات من غناوي العلم عند المرأة)، حيث يقدم مجموعة من غناوي العلم التي تظهر فيها واضحة لمسة المرأة، والتي تبث فيها المرأة رغباتها وتسجل أحوالها وحالاتها.
وين يا عزيز خطرت
ديارك ولوهام قابلن4
لون نسائي آخر يقدمه الباحث من خلال (مختارات من الشتاوي عند المرأة)، وهو يؤكد أنها ليست من تأليف النساء، وما يقال عن غناوة العلم عند المرأة، يقال بالقياس على الشتاوة.
عزيز عطاه الله اهدوب
بهن ما لقط غير اذنوب5
في باب (مهاجاة الرحى) يعترف الباحث بأن هذا اللون هو الأقرب إلى نفسه، لعلاقته بالرحى في طفولته. حيث يبدأ هذا الباب بالبحث في أصل (الرحى) رسما ولغة ومرجعية تراثية، حيث يخلص إلى أن الرحى مفردة عربية، وأن رسمها بالألف أو الألف المقصورة صحيح (رحا، رحى). لينتقل من بعد، للحديث عن الرحى وعملية رحي الحبوب ويفصل فيهما. ثم علاقة الرحى بالمهاجاة ولماذا هذه العلاقة.
في باب (الرموز في مهاجاة الرحى) يتوسع الباحث “أحمد يوسف عقيلة” في هذا اللون الشعري أكثر، من خلال الوقوف على الرموز التي يتم تناولها في مهاجاة الرحى ودلالاتها، من خلال مجموعة من النماذج.
ليد ما اتجي للنار
محا ذنوبها ضيم الرحى6
ويتوسع البحث أكثر في مدلولات الرموز من خلال باب (الدلالات الجنسية في مهاجاة الرحى)، في مقارنة بين؛ الرحى كمكونات والرحي كعملية، ومدلولاتها الجنسية التي يتم بثها كرسائل مبطنة.
ليد يا رحى ميزان
ترمي لك على قيس لولبك7
وكنوع من اختبار القارئ، يتركنا الباحث في باب (مختارات من مهاجاة الرحى)، مع مجموعة من النصوص الشعرية في محاولة الوقوف على معانيها.
لو كان الشعير ايدير
قصور يا رحى راك بانيه8
في الباب الأخير (مهاجاة الرحى – الثنائيات) يعرض الباحث لمجموعة من الثنائيات التي تغنى على الرحى، وبالرغم من أنها ليست على وزن الغناوة، إلا أن الباحث ألحقها لتكتمل صورة مهاجاة الرحى بشكل كامل.
ان كان ربي عطاك
يعينك على الدهر ديمه
ترمي عصاتك من ايديك
عوجا تولي سقيمة9
هذا الكتاب بالرغم من عدد صفحاته التي تقارب الـ100 صفحة، تعكس جهد الباحث والقاص “أحمد يوسف عقيلة” في تقديم مادة تراثية بأسلوب بسيط ورشيق، ينم عن معرفة وهوى بهذا اللون الشعري.
وهنا قد يقول قائل لماذا عنوان الكتابة يعرض (غناوة العلم) بينما مادة الكتاب تركزت بشكل كبير حول (مهاجاة الرحى)؟
والسبب قد بينه الباحث، كون مهاجاة الرحى هي على ذات وزن الغناوة، باختلاف الأغراض، وأن مهاجاة الرحى فن يخص المرأة، وهو غناوة المرأة التي لا يشاركها فيها الرجل.
في الختام هذا الكتاب رحلة ممتعة في أحد ألوان الشعر الشعبي، ودراسة مهمة توثق لهذا الفن، وتعرض للقارئ تجربة البحث وراء الشكل الظاهر للمعاني البعيدة.
صحيفة برنيق، العدد (469)، السنة العاشرة، 31 مارس 2020م
هوامش:
1- أحمد يوسف عقيلة (قاموس الحكم والأمثال الليبية)، دار البيان للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، 2006م.
2- أحمد يوسف عقيلة (قاموس الحكم والأمثال الليبية)، دار البيان للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، 2020م.
3- المصدر السابق، ص 14.
4- المصدر السابق، ص 20.
5- المصدر السابق، ص 24.
6- المصدر السابق، ص 33.
7- المصدر السابق، ص 40.
8- المصدر السابق، ص 45.
9- المصدر السابق، ص 50.