الصيف لا يرحم وجه البسيطة بسياطه الحارقة.. الظلال تبدو تجاعيدها مبكرا على التراب المصهد في ريفنا الصامت. المنز لعرقه.. داعيا مولاه في نسمة تعطف بأنفاسه اللاهبة.. كنت اجري على الرمضاء حافيا في قيلولاته.. غير مبال بتهديدات جدي المملة.. وعكازه اللاعب في الهواء: “لا تخرج يا ولد.. عزوز القايله برا تراجي”.
أي هراء يتشدق به جدي؟! أخرج كثيرا ولا أجد عجوزه الخرافية.. إنني افهمه جيدا.. لا يريدني أن اخسر نقودي في (جيلاطي العم عمار).
كعادتي التهم أبراج البطيخ الباردة واتسلل إلى باب البيت ممارسا رحلة تجوالي القيلولية.. نقودي.. (الفليتشه).. (استيكات وجلدات شباشب والحصى).. لوازم الصيد كلها جاهزة في جيوبي.. حتى في تسللي أجده يهددني: “عزوز القايله تراجي جعانه”.
ضحكت وقلت مهرولا: “أني ماشي بنقتلها”.
لحست الجيلاطي مستمتعا ببرودته في ظل التوتة.. ثم بدأت في اصطياد العصافير النائمة في أعشاشها.. الهاربة من حر الهاجرة.. متنقلا بين الأشجار.. صهد الصيف يحرق جلدي.. يفحمه.. يصل إلى جوفي.. يخرج زفيري لاهثا محروقا.
كنت سعيدا بعثوري على عش ملقى أرضا. يحمل فراخا.. هممت بأخذه لكن أحدهم قبض على شعري بقوة شعرت معها برأسي يفصل عن عنقي.. صرخت ويدي تبعدان القبضة… في البدء ظننت أن أم الفراخ من تهاجمني ولكني علمت مع صراخي والتفافي دون إرادتي كمؤشر ساعة أنها ليست هي.
لقد رأيت قامة.. رأسها يعانق الأغصان.. تلتحف رداءً أحمر اللون.. لم توقفني عن الدوران إلا بعد تقيؤي.. ثم بدأت برفعي عاليا وإسقاطي.. صراخي يعلو معاندا قهقهات باردة.. حينما كنت ارتفع لمحت وجه امرأة مجعد.. مائلا للسمرة.. عيناها البارزتين غلب سوادهما البياض.. كانت ذات منظر بشع.. ارتعد كسعف تلاعب به الريح.
لأول مرة يتملكني الخوف.. وقتها تذكرت تهديد جدي بعجوزه التي حقا لم تمل اللعب بي.. أنا بالنسبة لها دمية مسلية.. أيقنت أنني سأموت بين يديها إن لم أمت خوفا.. تبولت دون إدراك وربما حتى عطست دما من يدري؟ انغمست في رطوبة مدماة.
إنها النهاية لا محالة عندما سمعت قرقرة أمعائها الخاوية وهي تقربني من فمها الواسع المتربع فيه نابين وضروس متعفنة.. كل شيء تضاءل في عيني. لم استطع الفكاك منها.. أي قوة تمتلكها هذه العجوز البالغة من الكبر عتيا؟ من المرجح أنها مستمدة من فرائسها.. كم قوة نهبت وضحية هضمت؟ يا لها من طاغية جبارة لم ترحم عودي النحيل و لا صراخي المستغيث.. مستمتعة بتعذيبي كطير تقذفه ثم تتلقفه.. فتقربه لشفتيها المبللتين بريق كريه.. تعيد ألاعيبها في اغتباط واعيد الموت معها كمدمن أحب رحلة الغياب والعودة.
الغريب أنني لم أنطق لحظتها بكلمة فقط العويل هو المعبر عن آلامي.. أيضا هي لم تتفوه بشيء فضحكها الهستيري يكفي.
آخر ما اتذكره أنني كنت على فوهة مغارة يسكنها ثعبان أحمر قان متعطش لدمي الحار ولحمي الطري.. أغمضت عيني ثم انطلقت في شهيق وزفير متلاحق مسلما نفسي لإغماءة الموت.
كان جدي يقف فوق رأسي يوقظني من نومي. عندما رأيته صرخت (عزوز القايله).. هدئني الجد: “ما تخاف. عطلت في المرواح. جيت اندور عليك”.
لا أنسى ما مر بي وأخبرته فضحك دونما تعليق.. منذ وقتذاك حرمت الخروج في القيلولة وشبح العجوز يلازمني رغم علمي بضربة الشمس التي أصابتني فسقطت مغمى علي…