حاوره/ مهنّد شريفة
هاجس الكتابة ظل يسكن أغواره بشراهة وحش فتورّط قلمه في كتابة الشعر لتغويه القصيدة كأنثى لعوب..نما نمش حلمه الأول كصحفي يمسح عن جبينه عرق العافية، بيد أنه لأسباب أخرى ما لبث أن تلاشى حلمه بين غمام الضباب، لينخرط لسنوات طويلة في سلك التدريس بعد حصوله على دبلوم من معهد المعلمين، فأصدر باكورة أعماله الشعرية عام 2017م بديوان (مأدبة لبكاء مر) وأعقبه بديوان ثان بعنوان (مهابة الغائب)عام 2018م ومرة أخرى آثر التواري بغتةً وأطل علينا بأولى إصداراته في دنيا القص الروائي (القمر العاري) ويعكف خلال هذه الفترة على لضم خيوط روايته الثانية…
جمعة الموفق مشاكس من طراز تشارلز بوكوفسكي إذ يعبث بجيوب أنفه كمن يفتش عن الحب في جِراب صدره وشرس كنجيب سرور يدهس على خطو بصقه ممتلئًا بعينيّ الشمس، حاملاً على ظهره قِربةً تزداد عطشًا متى ما دنا ظل الماء من ثقوب جلدها.
هل راهنت على الرواية من خلال الشعر أولاً، فكان هذا الأخير جسرًا قادك إليها ؟
أبدًا على الإطلاق لم أراهن على شيء، كل ما في الأمر أني انسقت وراء نفسي فوجدتني متورطًا في فعل الكتابة، وحالما فرغت من كتابة الرواية أرسلتها للشاعر والكاتب “سالم العوكلي” للإطلاع عليها فشجّعني على الدفع بها للنشر فورًا.
كيف تكمنت من التحرر من غواية القصيدة ؟ حتى أن المتلقي بالكاد يلمح نفسك الشعريّ داخل المتن الروائي ؟
إذا ما لاحظت ستجد في أول الرواية تأثير ما للشعر على اللغة، لكن وجه الاختلاف واضح بين العمل الروائي والنص الشعري ففي الرواية السرد يأخذ بُعدًا أعمق وعبر محطاته ينتابك شعور بأنك تُحلّق وهذا يقتضي نفسًا طويلاً ومثقلاً، بينما الشعر مكثف ومختزل المعنى، وحين هممت بالكتابة لم يشغلني ولم يكن همي الشعر بقدر ما كنت مؤرّقًا للوصول لشيء تكلله قصة انسانية بحتة.والعمل الروائي هو بمثابة تمرير لأفكار الكاتب ووجهة نظره عبر أحداث محبوكة بالتتالي، وفي كل الأحوال تظل الرواية حكاية والحكاية لا تكتمل دونما تشبيعها بالسرد فإن توارى السرد ظهر المتن بحشوٍ مريع, ورغم ذلك ما زلت أرفض تصنيفي كروائي كوني أعد هذه الرواية شكلاً من أشكال السيرة الذاتية لذا الجهد فيها لم يكن كبيرًا، فضلاً عن أن شخوص الرواية مركّبة فكل شخصية تتداخل فيها عدة شخصيات.
تبدو لنا رواية القمر العاري، خط موازي تتقاطع معه محطات في مسيرة حياتك، هل يعد هذا العمل بمثابة السيرة الذاتية لاسيّما وأن معظم ثيمات العمل قد استقيتها من تجربة الواقع المعاش ؟
إلى حد ما تحاكي الرواية شكل السيرة الذاتية إنما للخيال متسع وحيّز كبير فيها، وفي هذا السياق أخذ عليّ البعض تضمن المتن لبعض المشاهد الحميمة وهي كما ارتأيتها موظفة لضرورة الأحداث، فأنا أطرح نموذج لانسان من الحضيض ساخط طوال الوقت ولا أبشّر بنبيّ مرسل فما السلوك الحياتي الذي نتوقعه من شخص كهذا ؟ فلا هو بواعظ ديني ولا بوليّ صالح ، وكل النساء اللاتي عرفهن طوال حياته كن يشكلن مواجهة لماضيه الأليم وحادثة اغتصاب زوجة أبيه له وهو بعد طفل.
لماذا لجأت لدور نشر عربية لتنشر نتاجك الأدبي ؟ ألم تتواصل مع دور نشر محلية في ليبيا ؟
للحقيقة بحكم إقامتي خارج ليبيا لم أسعى للتواصل قط مع أية دار نشر ليبية، وبالتالي ما كان أمامي سوي التعامل مع دور النشر العربية، وربما هذا ما أضطرني إلى أن أدفع ثمن نشر كتاباتي.
تشكل طرابلس كمدينة مسرحًا لأحداث روايتك البِكر، وقد أظهرتها بصورة نابضة بالمتناقضات ومكتظة بزخم حيّ، بينما واقع حالها خصوصًا في العقدين الأخيرين يثبت كل يوم حقيقة بؤسها ومسلسل خيباتها المتتالية، أللأبعاد الجمالية في تقنية السرد دور في تعميق حيوية وبذخ الأمكنة ؟
ربما، لكنني لست مهتمًا بالمكان فالفترة التي انساقت فيها أحداث روايتي تراوحت ما بين الثمانينات والتسعينات، إذ كيف تتناول مكانًا جميلاً كالسراي الحمراء أو الشط بينما هنالك من ينوء ظهره بأحمال فظيعة، لقد أضأت على مشوار لحياة كل من كان فيها يتبول تحت درج العمارات حين يكون السكن بين عمال من مختلف الجنسيات والخوف يتهددك منهم كظلك، وبوجه عام أنا لا أعرف كيل المدائح للأمكنة والمدن والقرى، ولعلي في المقابل لا أرى في المكان تعاسته الممتدة نحو الأبد وأسلاكه الكهربائية العارية .
شخصية ناصر في القمر العاري كان يتخلص في كل مناسبة من ليل أوجاعه بفكرة الموت لكنّ الأثر المرير في كل مرة يبق نزيل عمقه، لماذا بدا انبهار ناصر بالمدينة منطفئًا علمًا بأنه يفترض أن يكون ذاك القروي الحالم بأضواء المدينة، هل نجحت أنشوطة الهروب في شنق أحلامه ؟
ناصر لم يكن مكترثًا بالانبهار وضروراته لأنه قد أقبل إلى المدينة فارًّا من الفاقة والذل هاربًا من سادية زوجة أبيه وجلافة أبيه فهو أمضى فترته الأولى في المدينة بلا مأوى يفترش الأرصفة ويتلحف بالسماء، وتعرّض للاعتداء والضرب والجوع كل ذلك أطفأ أنوار الانبهار في عينيه، فالقرية في ذاكرة ناصر مكان سيء إرتبط بالخذلان والظلم، وما أستطيع قوله أني بنيت الرواية على شخصية بائسة ومظلومة ومقهورة.
المعنى يُكثف حضوره في آخر فصول الرواية ؟
نعم، فناصر كان غارقًا في لُجّة بؤسه يستأثر به الحطام والخواء رغم حيوات المتع واللهو التي عاشها بيد أنه كان يستشعر الضلال في كل مرة ! فالمجهول مخيف ! الأبد مخيف الشيخوخة والعجز مرعبتان حتى اكتشافه وهو على مشارف الخمسين لطفل يحمل هُويّة دمه هنا اهتدى ناصر لطريق انسانيته.
كأنك كنت تحاول الإصرار على اقحام الكثير من الجمل والعبارات ذات المدلول النابي والبذيء ؟
هذا صحيح، ويُعزى ذلك إلى الراوي ذاته وهو بطل الأحداث “ناصر” فهو كما نراه انسان ولد بصورة شاذة وترعرع وسط بيئة تملؤها مفردات القسوة، لذلك هو لا يقيم وزنًا للقارئ، والرواية مثلت لي أمرًا أردت التخلص منه ورميه كالثقل الذي تحررت من ربقته، نفاية، فضيحة، شتيمة، بصقة، كما يقول هنري ميللر.
كيف تجرّأت على طرق مسائل حساسة، مثل العلاقات الجنسية بين المحارم من خلال تجسيدها بين شخصيتيّ ، قمرة وناصر ؟
زنا المحارم شائع وموجود في مجتمعنا وتتوفر ملفات في أقسام ومراكز الشرطة، وهو ليس بالأمر الجديد وإن كان مسكوتًا عنه.
ألم تخشى من الإصطدام بالمجتمع ؟
على المجتمع أن يواجه نفسه أولاً قبل أن يصطدم بي، فأنا أضعف من أن أواجه المجتمع.
تقول بأن المشاهد الحميمة التي تخللها سياق الرواية قد اقتضتها دواعٍ فنية، ربما كان بوسعك تهذيب الألفاظ الخادشة للحياء قليلاً،فلماذا لم تفعل؟
لم يكن في حسباني أن أهذب شيء، كتبت بتلقائية حتى الألفاظ النابية لم تكن إلا لغة شارع يعرفها المجتمع بأسره، وليست من قاموسي الخاص، في النهاية هذا كتاب وليس تلفزيون للعائلة عندما تشعر بالغثيان أو الإثارة فيمكن أن ترمي الكتاب، ناصر إبن شارع وإبن حرام لن يلومه أحد عندما يتحدث بهذه اللغة.
هل تستهدف لفت انتباه القارئ ؟
مطلقًا، إنني كنت أكتب بتدفق وفق مزاج اللحظة التي تحتمها لحظة الكتابة، والكتابة تمضي في سياق ولا تنحرف نحو غايات مقصودة بغية إثارة القارئ.
هل كل ما ينتجه المجتمع من غث وسمين لابد أن يكون له انعكاس بهذه الفجاجة ؟
المجتمع كله يتحدث عن الجنس إذن لا شيء مخيف، وكتب التراث ثرية حول هذا الموضوع، بعضها كتبها قضاة وفقهاء.
لماذا تأخرت في نشر نتاجك الإبداعي؟
حقيقة لا أدري ! إنما أستطيع القول بأني لم أفكر يومًا في أن أصبح مبدعًا ربما لا أعرف ! ربما أنا لست مبدعًا !
لِمَ الخوف ؟ هل يدفعنا الخوف لنكون أكثر حياة ؟
التقدم في العمر مدعاة لخوف مضنٍ، تظل تداهمك تساؤلات شتى كأن تسأل نفسك، وماذا بعد ؟ حتى وأنت في غمرة سعادتك ستطرح ذات التساؤل وماذا بعد ؟ أعتقد بأن الانسان دائمًا ما يحاول اتقاء وحشته والهروب من أسبابها .
الخوف من المرض أو من الموت أو لأننا إذا ما كبرنا سنكون في حالة صدام مع خيباتنا ؟
المغادرة، والبقاء البقاء أيضًا مدعاة للرعب تخيل أن يعيش المرء مئة عام لعمري إنه لشيء مخيف !
إذن النقيضين يبرران فرضية رعب الانسان ؟
بالضبط، فهكذا أراهما فالمسألة ليست موتًا وينتهي كل شيء، فحسب ايماننا ثمة حياة أخروية حياة لا نعرف عنها إلا ما قيل، والانسان دائم البحث عن الله ولأن الله هو جلال المعنى المطلق.