كان اذا اختلا بنفسه، تحدثه اولا، ثم تحذره، وكان دائما ولأمر لا يعرفه، لا يُعيرها سمّعه ولا انتباهه. زعم محاولاتها المتكررة. بفتح ابواب ومسارب مُتنوعة، تَسُوق منها تحذيراتها. يحّدث هذا غالبا اتنا مُمارسته رياضة المشي، فى جوف مساءات نائية، عبر غابات النخيل، التى أتى عليها اليباس، بعدما ذهبت الحياة عنها الى مكان اخر. وفى مرّات نادرة عندما يخّلو بها، فى عتمة الليل، يرّصد برفقتها النجوم، حتى اذا غاب درب التبانة واختفى من على وجهها. قفل عائدا الى حيت سكنه.
كانت فى البداية تُشاكسه، لتُنبهه عن ما تراه رأى العين فتقول:- لن تكتفى هذه المرّة. بعرّقلة محاولاتك البائسة. لخلقْ فرّصة عمل تقتات منها ومن تعول. بعدما جرّدتك من وظيفتك. وقدفت بك الى الشارع، فها انت تقف على قارعته. تتفرج ملء عينك على هذا الخراب الواسع، الذى بدأ يزّحف على (جنوبك) بفعّل الوافدين الجدد، تُشاهدهم. وهم يكّرعون من نفط بلادك حتى التخمة، وانت لا تكاد تجد ما تقّتات منه. أولم يخّطر ببالك؟! قد يحدث ذات يوم، وانت تتمشى برفّقة اللاهدف. قد تنّدفع سيارة مسّرعة، تخرج عن مسارها، تخطى الرصيف. تجدك امامها فتدّهسك وتغيب. او حتى اتنا سفرياتك القليلة التى انهكها التعب. بوجهه المُتعددة، قد تظّهر وعن فجأة فى طريق عوّدتك المُسرعة، سيارة شحن ضخمة فتصطدما تنصهرا تلتحما كتلة واحدة. عندها يكون ذلك الغضْ القابع بين حناياك. قد انتفض مرتين. قبل ان يتوقف. بتوقف دقاته الدافئة. او تستيقظ ذات ليلة فى الهجع الاخير منها، على قرّع بالغ التهذيب على باب بيتك، فتخرج بهدوء لا يُعكره التوجّس، وعندما تفتح الباب تجدها امامك. بكامل هيئتها الرسمية. فتقّتادك. ولكن هذه المرّة الى اللاعودة. وكان يحّلو لها احينا، ان تُفاجئه باستدراكها القاني اللون، فتقول بعدما ترّسم ما تود قوله على مُحيّاها، ويجب الا تسّتبعد الكاتم من هذه الدوامة الحمراء. اما عندما يحسْ بتركيز شديد فى حديثها، يعرف بانه قد وصلت الى خاتمة تحذيراتها، والتى كانت وفى الغالب تقّفلها. بتوّصيف لتلك الهلامية. التى تحذره منها فتقول:- بان تلك لها ذراع طويلة، تحرك بها أيادي نشطة ونائمة، خشنة وناعمة، مزروعة فى كل مكان وزمان، ولا تخلو هذه. من موهبة وإن مشوهه، ولا تعوزها المهارة، فهى تعرف جيدا، كيف ومتى ومن اين تنتقى اياديها تلك، وغالبا ما تلّتقطها وتنّتشلها من القاع.
كانت فى حديثها معه، لا تقول ما تقول جُزافا دونما شواهد تجعل منها (ما صدق) لتحذيراتها المتكررة. ففى احد المساءات وهى تُماشيه قالت:- أولم نكن سويا حدو النعل بالنعل على رصيف ذلك الزقاق الترابي الضيّق، الذى نعّرفه جيدا. عندما فجاءتنا. وهى تندفع وعلى نحو عصبي داخله، بسيارة تجر الغبار من ورائها. ثم شاهدناها وهى تتوقف امام ذلك البيت الطيب القلب حتى السذاجة. تقّتحمه وتفّتك ربَهُ من بين أيادي اطفاله، ومن امام ناظري ربّته الباكية، وتركته ومند ذلك الحين، يُعاقر الحزن. الذى لا يحّلو له رفع عقيرته، الا مع مواسم الاعياد، وفى عتمات ليالي الشتاء الطويلة. اولم نشاهدها سويا؟. وهى تقّتاده. بعدما شدّت يداه بوثاق عصري جدا، وحشرته داخل السيارة، وانطلقت به الى المطار، ومنه جوا لتحط به، عندما تكون فوق الاطراف الجنوبية لبحر الشمال. لتودعه هناك بزنزانة حرجة، بواحد من اعّتى سجون بلادها. أتعرف لماذا كل هذا؟!. فقط. لتُعلقه مصّلوبا على عامود يومي من اعمدت جرائدها الشعبية، لترّسمه فيه بهيئات واشكال والوان متنوعة، ودائما بوجه شيطانى، يسّعى لتدمير وتقويض عوالمها الحضارية. كل هذا، لتصنع به، توّطئة حمراء. داخل عقل ودهن ومخّيلة مكوّنها الاجتماعي الانجلوسكسونى الواسع. لتتكئ عليها، عندما يحين الوقت. لرسّم فزّعتها الرهيبة. التي ستظْهر. مُحملة بدمار وموت. يُغلفه لهب اصفر معلق فى كبد السماء، ثم يتهاوى فى انقاض واشلاء، يُخالطه غبار ودخان. يُغطى الوجوه والعيون والشاشات.
توقفت عن الحديث للحظات قليلة، تستجمع به من ذاكرتها ما تود قوله، اذ كانت تنوى الاسهاب بالتفاصيل، علّها تتمكن من زحزحته ولو شبر واحد عن لا مبالاته القاتلة. ثم اندفعت فى الحديث بتساؤل قائلة – أولم نكن سويا؟ عندما شاهدناها، وهى تتذاكى علينا جميعا، وبدون حياء. لحظة اسقاطها وعن قصد المسافة الفيزيقية، والتقطت وعن سبق اصرار. بُعّدها الزمنى.الفاصل ما بين ذلك البيت الطيب القلب، وتلك الزنزانة الحرجة باعتي سجونها. وطفقت تمطط وتمدّد فى المسافة الزمنية بالقدر الذى تحتاجه، ثم رصّتها بجمّلة من الأحداث المثيرة. لتسوق بها كل ما تُريد.من ضلال والوان، ومن زوايا مختارة، لتحّدث بها جمّلة من الإيحاءات. هى كل ما تحتاجه لرسّم ملامح وابعاد توّطئتها الحمراء، داخل عقل ودهن ومخّيلة عوالمها الانجلوسكسونية. اولم نكن سويا؟. عندما شاهدناها، وهى تُظّهر من على شاشاتها الفضائية، تلك الضلال والاوان والزوايا والايحاءات، فى شخوص بالغي الاناقة والاهمية. ومُؤسسات تقول عنها. فى تباهى اجّوف. بانها غير مسّبوقة. تظهر فى هيئات قضائية. بعضها كان يضع (باروكات) من شعر ابيض مسّتعار. جيئا بها من عصور قديمة، ليُظّهرها فى كامل هيبتها ووقارها امام الجميع. واخرون. كانوا يتسربلون فى (ارواب) داكنة، قُلّمت اطرافها بأشرطة خضراء، يضعون نظارات طبية انيقة، واياديهم مثقلة بحقائب متخمة بملفات واوراق كثيرة. نشاهدهم وهم يتهامسون مع مستشارين لهم، يقّبعون وراء مكاتب فخمة، يُتّحفوننا من وقت لأخر بتخريجات لا نعرف من اين يأتون بها.
يختلط كل هذا. مع طائرات تحط بأناس من اجناس والوان مختلفة. يتخلل هذا الخليط، من وقت لأخر. مشّهدْ لمهرجانات شعّبويّة، عيونها مُعلّقة فى منصّة لخُطب (كولولونية) متشنّجة. رُسمت، بأعناق مشرئبه. تكّسوها عروق نافرة، يتطاير من افواهها رداد يغطى الفضاء. ليُدخل بها. على المشهد، تنوّع مطلوب ومرغوب. ثم اردفت اولم اقل لك. بان لها دراع طويلة. تحرك بها أيادي عدة، نشطة ونائمة، خشنة وناعمة، مزروعة فى كل زمان ومكان، ولا تخلو هذه. من موهبة وإن مُشوهه.
توقفت عن الحديث للحظات. طفقت تتفحّصه. بدأ لها مشدود لحديثها، بانتباه شديد. فصله عن محيطه. الذى يحث فيه الخُطى، بجهد ظاهر، لتنّشيط و(اكّسجت) جهاره التنفسي ودورته الدموية، وكل اعضاء بدنه. كان يطّوى بخطاه الواسعة، امتداد مترامي الاطراف. تغطيه رمال صفراء ناعمة، تتخلّله اشجار من نخيل، على نحو غير منتظم، تظهر مُبعّثرة على رقّعة هذا الامتداد الواسع. يُغلّف كل هذا صمت مُهيب مطّبق.
اندفعت بالحديث، عندما احسّت بانتباهه يشُدّه اليها. فقالت:- أولم نشاهدها جميعا، وهى تأتى بذلك المسكين الطيب القلب، بعدما جرّدته من اسمه العلمْ، ولأمر فى نفسها، خلعت عليه مُسمّى اخر، يضُمه وامتداده الاجتماعي تحت عباءة قبَليّة واحدة. ثم القت به بين ايادى سدنة معّبدها العتيد. داخل محّفل طقوسي مَهيب، كان ذلك المسكين، مشّدود فيه بخطام طرفه الاخر بيد كهنتها. يجرونه من ورائهم فى وسط اجواء عابقة، تحاكى طقوس غارقة فى القدم. ليُقدم فيها قربانا على عتبات طوّطمها العتيد، تزلفا وطلبا لرضاها المُرّتجى. ويتوقف المحّفل الطقوسي المهيب. فجأتا للحظات، يَظّهر فيها. وهو غارق في خُشوع وتبتّل صارم. وبعد ان يتأكد. بأنه قد تُقبِل منه، يعمْ المحّفل فرح ظاهر، ثم لم يلبت. ان يُعلن عن انفضاضه. ويعود الجميع الى ديارهم. مُحملين بالعطايا، محّفوفين بالرضاء والوعود الحسنة من كل جانب. ولم يعود ذلك المسكين الطيب القلب، ولن يعود. فالقرابين لا تعود، وان عادت ففى داخل توابيت نصف مُقفلة. ثم اردفت، ألم اقل لك. بان لها دراع طويلة، تُحرك بها أيادي عدة، نشطة ونائمة، خشنة وناعمة، مبثوثة فى كل مكان وزمان، لا تخلو هذه. من موّهبة وإن مُشوهه.
اضطرب تواصله مع نفسه، فانقطعت حواراتها معه، لحظة اندفاع ذئب. كان كامن فى دغل نخيل مرّ بقربه، تتبع بنظره الذئب فى عدوه، توقف ذلك النبيل. على بُعد عشرات الامتار منه. مُلتفت نحوه. ثم عاود الى عدوه واختفى.
أنتبه لابتسامة قد علِقت لتوّها على شفتاه. تتبع منابتها بداخل ذاته. وجدها. قد عَلِقت على المُفارقة ما بين حاضره وآنيه الغارق، فى عصر الجينوم والرقمية وثورة الاتصال. وبين ذاكرته. التى جرّته عدّوا، وراء هذا الحيوان النبيل. الى عصور قديمة، ظهر فيها (الشنّفراي) وهو يُلاحق طريدته عدّوا، مُطوح حصى الارض من خلّفه، اثر وقعْ قدميّه الحافيتين على صحراء الجاهلية، وهو يردد: –
ولى دونكم اهّلون سيد عملّس * * * وارقط زهلول وعفراء جيّلِ.
كُتِبت بالجنوب الليبي فى:- 7 – 7 – 2008 م.