طيوب عربية

الغول البهي.. أدب الجريمة وملحمة من المعاناة الإنسانية

الروائي العراقي عمار الثويني

من مفارقات أدب الجريمة، أنه بقدر شغف الناس به وإقبالهم عليه، بقدر إحجام الأدباء عن الخوض فيه، لما ينطوي عليه من مجازفة كبرى، بالتعامل مع بيئة سردية مفخخة بالمفاجآت والغموض والعوامل المتشابكة، وتعد رواية الغول البهي للروائي العراقي عمار الثويني، التي تشرفت بقراءة مخطوطها، نموذجاً متميزاً لتلك البيئة الشائكة والغامضة المكتظة بالوقائع والأسرار، وإضافة مهمة للسرد الروائي العربي في نوعه البوليسي.

الرواية التي تقع في 477 صفحة بثلاثة عشر فصلاً، تسجل قصة ثمان حالات قتل وقعت في النصف الثاني من العام 1994، في إحدى محافظات العراق، يكشف السارد شخصيته القاتل (سلمان) منذ أول مشهد، حيث يقاد إلى منصة الإعدام، ثم يستعرض تدريجياً ظروف وملابسات كل جريمة من جرائمه، بأسلوب مشوق ولغة رصينة، ويكشف النقاب عن الظروف النفسية الدافعة للجريمة، حيث يتبين من تشخيص الطبيب النفسي أن الجاني مصاب بمتلازمة (حب مشاهدة الدم) التي تعرض لها كإحدى ارتكاسات الحرب، وخاصة بعد مقتل صديقه وعجزه عن إنقاذه.

وما يميز هذه الرواية الثرية الممتعة أنها تتضمن ثيمتين مهمتين:

الأولى: عالم الجريمة المتسارع في حركته، المتناقض في أحداثه، المنفلت في منطقه ومفاجآته، هو عالم يكشف سر النفس البشرية بما فيها من شغف وترقّب، ورصد للغوامض والأسرار، وبتعبير أكثر جرأة، هو عالم يكشف مدى التلذذ بالعنف، وإن كنا لا نقبل بهذا الاعتراف، لكن بالنظر إلى الثراء الواسع لكتّاب القصة البوليسية في بلاد الغرب، حيث تحقق هذه القصص أعلى نسبة مبيعات، وكذا تحصد أفلام الرعب أعلى عدد مشاهدات، هذا يؤكد لنا مقدار تلك اللذة المخفية في نفوسنا، ومن منا لم يتتبع صفحات الحوادث في الصحف، أو من لم يجلس أمام التلفاز ليشاهد تفاصيل الجريمة واعترافات الجناة في البرامج الخاصة بقطاع العدل والقضاء، الأمر الذي يدركه (الثويني) تماماً ويشير إليه في إحدى الصفحات على لسان الراوي: “دأب التلفاز الرسمي على إذاعة تنويه إلى المشاهدين بأنه في الساعة الفلانية سيتم عرض تسجيل حول جريمة قتل.. يتهيأ الجمهور لذلك البرنامج بشغف عظيم ويتابعونه وهم فاغرو الأفواه ومنصتون كأن الطير على رؤوسهم..”ص76 .

وقد اتبع في روايته أسلوب العقدة المقلوبة، القاتل فيها معروف (سلمان من أول مشهد حيث يتم جره إلى ساحة الإعدام وتنفيذ الحكم فيه)، ولكن هذه العقدة تزيد القارئ حيرة وإرباكاً، فكلما شعر بأنه يملك تفاصيل الحدث تفاجئه منعرجات جديدة تطيح بتأكيداته السابقة وتوقعه في فخ التساؤلات من جديد، وهكذا يركض طوال صفحات الرواية ما بين الشك واليقين، بل حتى بانتهاء الرواية يظل السؤال قائماً: هل كان حقاً هو القاتل؟

أما الثيمة الثانية: فتتمثل في الخلفية الانثربولوجية للرواية، فهذا العمل الضخم ليس مجرد حالة تشويق وغموض من أجل تتبع القاتل ومعرفة هويته، بل هو ملحمة معاناة إنسانية تسرد مرحلة مهمة من تاريخ العراق وتحولاته الاجتماعية والسياسية خلال تسعينيات القرن الماضي، وتكشف الطبيعة الهشة للمجتمعات الواقعة في قبضة الحكم الشمولي، وما تنوء به من قهر وفقر وخوف وما أضافته لها الحروب والمغامرات السياسية من قلق وتشظي. يقول في سطور الرواية: “الناس الآن هم غير الناس قبل الحصار، وهم ليسوا أنفسهم قبل الحرب”ص80 . وفي هذا تأكيد على تلك التحولات، فالسرد تنقّلَ ما بين أحداث حرب إيران وحرب الخليج والحصار الأمريكي على العراق، والعقوبات الاقتصادية التي انعكست على مستوى المعيشة، فانتشرت ظاهرة التهريب وبيع الخردة، والتملق للسلطة من أجل الحصول على الهبات، كما تحدث عن مغامرة التسلح وفرق التفتيش الدولية، وآثارها على المجتمع والهيمنة على الرأي والإعلام والصحافة ونظرية المؤامرة وشماعة الإمبريالية والتقارير السرية، كما كشف عن هشاشة وضع المرأة والاستغلال الجنسي وجرائم الشرف وغيرها من التفاصيل التي تتشارك فيها المجتمعات العربية.

كما أنها ترصد المفارقات وانقلاب الموازين في المجتمعات التي تتبدل فيها الرموز السياسية، فالقاتل الذي أتى على حياة ثمان ضحايا وحكم عليه بالإعدام، يسجل في الدولة الجديدة من ضمن الشهداء ويسعى أهله للحصول على تعويضات مالية.

الرواية جاءت بأسلوب السارد العليم، لكنه سارد حاذق يسير بموازاة الشخصيات ويتوقف عند حدود المسافة التي يحددها له المؤلف دون أن يقتحم خصوصية الشخصية.

أكثر ما أثار حيرتي هو العنوان، كنت خلال الأجزاء الأولى من الرواية أتصور أن دلالة العنوان مقترنة بالبطل سلمان القاتل، “يتناوبون على حراسة بيوتهم من الغول الكامن لهم”ص9 فهو الشاب الوسيم الخجول الذي حولته الحرب إلى غول قاتل، لكنني بعد الانتهاء من القراءة خلصت إلى تفسير آخر فالغول هو الموت، وبهاؤه يتجسد في منظر الدم الذي يعشقه سلمان فهو أبهى وأجمل مشهد لديه: “صار الموت بالنسبة له أمراً ليس قبيحاً بالدرجة التي كان يتصورها، وغدت الدماء بلونها الأحمر أحلى شيء في حياته، فلم يعشق شيئاً مثلها”ص441

وأياً كان التفسير الصحيح للعنوان، لا يسعني إلا أن أقول أن الكاتب، قد وضع بصمته بقوة في هذا النوع من الكتابة الإبداعية المعقدة. لتكون إضافة مهمة للسردية البوليسية ذات الصبغة العربية.

مقالات ذات علاقة

نفيسة و الكورونا

إشبيليا الجبوري (العراق)

ندوة عن ذاكرة المكان في نابلس

المشرف العام

الأشرفية وصهيل الحروف الشعرية

المشرف العام

اترك تعليق