أسماء مصطفى
ختمت دوامي اليومي الصباحي في البيت بذلك الكوب الساخن من الشاي الأخضر الذي قدمته لزوجي بكل حيوية ومرح.. كنت أشعر بالسعادة واللهفة لقرب رؤية رفيقاتي بعد سبع عجاف تفرقنا فيها بسبب ظروف مدينتنا الغالية درنة، ولم تتقابل فيها سوى أصواتنا عبر الهاتف، عند حصولنا على بعض الهدوء وسط صخب الحياة المستبد من حولنا…
“نجوى”.. الهادئة القنوعة.. وحلمها في امتلاك شقة أو بيت صغير يحتويها وأسرتها بعد ان أنهكها الانتقال بين شقق وبيوت الإيجار، وعانت الكثير من مزاجية وتقلب أصحابها.. و”عصرانة” التي لم تغادر ذاكرتي يوما بقوة شخصيتها وصلابتها وقدرتها على مواجهة الحياة ومصاعبها.. تذكرت وأنا ابتسم كيف كانت غير راضية عن اسمها، واعتراضها كلما سمعت أحدهم يناديها قائلة بسخرية: (الله يسامحكم يا هلي.. حتى الاسم الكويس استخسرتوه في).
روت لنا مرارا تفاصيل زواج أبيها من امرأة أخرى وتركه أمها وهي في عز شبابها وجمالها وحبها له.. ولم يكتف بالزوجة الثانية، بل تزوج بالثالثة بعدها بفترة وجيزة، مما جعل أمها تطلب الطلاق وتتزوج هي الاخرى.. واضطرارها لمغادرة بيتها الجميل ورائحة الأمان التي تفوح من جدرانه الى بيت جدتها لأبيها، بعد أن تخلت عنها أمها أيضا وهي لم تبلغ السابعة بعد.. وكيف تزوجت من ابن عمها “سـالم” في سن الثامنة عشر، حتى تبني أسرة خاصة بها تعوضها عن أسرتها التي فقدتها مبكرا..
كنا نطلب منها دائما أن تحكي لنا عن جدتها وطرائفها وحنانها الذي عوضتها به عن حنان أمها وعطف أبيها.. وضحكنا كثيرا عندما أخبرتنا بغضب جدتها يوم علمت بزواج ابنها بالثالثة قائلة بِغل: (هذا ايتبع في عينه.. عمى في عينه).
انهالت المواقف التي جمعتنا معا وكأنها كانت تنتظر ذلك الموعد لتزدحم وتجتمع هي الأخرى في موعد مع الذاكرة الغاصة بكل أحداث السنوات الفائتة، التي أبعدتنا في مسارات أخرى مع أناس آخرين وفي مدن اخرى.. ولكنها لم تخلو يوما من إطلالة خاطفة على تلك الأيام الخوالي في درنة الحبيبة…
أكثر موقف حفر في ذاكرتي. عندما التقينا في المدرسة ذلك الصباح والكل يهمس حولنا أن هناك ثورة قد اضطرمت شرارتها في البيضاء ثم بنغازي.. كنت أنا و”نجوى” نشعر بعدة مشاعر مختلطة.. امتزج الفرح والإثارة بالدهشة وعدم التصديق.. وذهلنا لموقف “عصرانة” الرافض بشدة لذلك الحدث.. كانت غاضبة ومتضايقة وقالت لنا بالحرف الواحد: (إنها فوضى وليست ثورة.. سيموت الكثير من الرجال ويتركوا لنا كما هائلا من الأرامل الصغيرات في السن وسيضطر كل المتزوجين للزواج مرة أخرى، عرفانا وردا لجميل من ضحوا بأنفسهم لأجلنا.. أنا خائفة عليكما وخاصة أنت يا نجوى).
يومها تندرنا كثيرا على كلامها.. فكيف لا تفكر سوى في زواج الرجال على زوجاتهم في ظروف استثنائية وفذة مثل تلك؟؟…
قلقها المستمر علينا ونصحها المتكرر لنا كان يشعرنا وكأنها أم حريصة.. لا تكل من النصائح والإرشادات التي كان النصيب الأعظم منها موجه الى “نجوى”.. لأنها تراها ضعيفة ومستسلمة وأن عليها ألا يكون حلمها مجرد بيت.. ويجب أن تهتم بنفسها ومظهرها الذي أهملته كثيرا كي تستطيع بناء ذلك البيت الحلم مع زوجها…
منذ بداية علاقتنا كان انطباعنا أن “عصرانة” هي المثال الحي للمرأة المثابرة والواثقة من نفسها.. القادرة على وضع الماضي خلفها والاهتمام بما هو آت بكل تفاصيله بطريقة لا تستطيع ان تضاهيها سوى القليلات.. ربما لإن الدنيا لقنتها دروسا منذ صغرها جعلت منها مقاتلة شرسة لا ترضى سوى بالانتصار في كل معاركها، بعد تلك الهزائم التي تجرعت مرارتها وهي مازالت تتحسس ملمس طفولتها المخملي الناعم…
والتقينا في بيت “عصرانة”.. وهالني وجهها الأسمر الجميل الذي أصبح وكأنه مرسم للزمن ينحت فيه خطوطه وأحداثه وقصصه وهمومه.. تغيرت كثيرا.. وتمالكت نفسي بصعوبة كي لا تلمح في وجهي صورة لما رأيته في وجهها من ذبول وانطفاء ووهن.. ولم يزل الغصة التي أصبت بها سوى خبر انتقال “نجوى” الفترة القادمة إلى بيتها الجديد.. اسعدتنا تلك البشرى وأنعشت قلوبنا.. وجعلتنا نشعر أن أمانينا المنتظرة من الممكن أن تتحقق مهما تدللت وتناءت وضن بها الزمن.. وأثناء حديثنا وثرثرتنا المتواصلة دخل طفل صغير وطلب شيئا من “عصرانة” أعطته له بسرعة ودون تأخير.. نظرت إلى “نجوى” وفي وجهي استفهام.. من يكون ذلك الطفل الذي لم يبلغ الثالثة؟ فأبناءها نعرفهم جيدا.. وبدون أن توجه نظراتها لنا قالت “عصرانة” بصوت منكسر: (إنه ابن سالم…من أرملة أخيه الشهيد).
عرفت حينها أن خوفها علينا ما هو الا انعكاس لخوفها على نفسها من ذلك المصير الذي حدث لوالدتها وذلك التشتت الذي بعثر اسرتها.. وأن ما جرى في طفولتها ظل جرحا غائرا لم تشف منه أبدا رغم كل ما كانت تبديه من ثبات وجلد وعدم اكتراث.. واضافت بعد قليل قائلة بابتسامة باهتة حزينة: (على رأي جدتي.. كانت دائما تقول.. اللي اتخاف منها اتجيك اتجيك).
الأحد 23 فبراير 2020