قبل ظهور النفط كانت ليبيا تتطور مثل تونس والمغرب، حيث تقود المدينة هذا التطور، من خلال غربلة القادمين إليها عن طريق مؤسسات الضبط والربط، مثل الشرطة والجيش، كما ساهمت الجامعات ومعاهد المعلمين ومدارس الثانويات التي يقيم فيها طلبة المحافظات في بلورة الوحدة الوطنية، فلأول مرة يذهب طلاب الغرب للدراسة في جامعة بنغازي، بينما يذهب طلبة الشرق والجنوب للدراسة في جامعة طرابلس.
من المهم الإشارة إلى أن حجم المدينة صغير في ليبيا، فعندما غزاها الإيطاليون كان عدد سكان طرابلس لا يتجاوز 35 ألف نسمة، بينما كانت بنغازي أشبه بقرية كبيرة يعرف سكانها بعضهم، أما درنة فكانت أصغر وسكانها يعرفون بعضهم معرفة حميمية، أما مصراته والزاوية وسبها فلم تتحول إلى مدن عند اكتشاف النفط.
كانت عملية الانتقاء التي تقوم بها المدينة بطيئة جدا، فالباحث عن العمل يصل إلى المدينة بمفرده، ويعيش غالبا في دكان مع أقرانه من الرجال الذين وصلوا حديثا إلى المدينة، وبعد سنوات من العمل في الجيش أو الشرطة أو شركات القطاع الخاص، أو الذهاب إلى الصحراء للعمل في الحقول النفطية، يتمكن من تأجير بيت ليحضر عائلته، التي تنتقل فجاءة من قرية منسية إلى المدينة.
بعد اكتشاف النفط تسارعت عملية الانتقاء والتوطين بطريقة سريعة، فتضاعف عدد سكان المدن عدة مرات، وبالرغم من أن العهد الملكي استفاد من النفط في السنوات الخمس الأخيرة من عمره، إلا أنه وضع أسس المشاريع الضخمة التي نفذت على استعجال وبطريقة غير منظمة بعد انقلاب القذافي، ولكن التغيير الأكبر الذي حدث في عهده هو فتح المدينة على مصراعيها.
بدلا من عملية الانتقاء البطيئة التي كانت سائدة في العهد الملكي، ظهرت طريقة جديدة اتسمت بإلغاء كافة العوائق التي كانت تمنع سكان الأرياف والبادية من التوطن في المدينة، كان القذافي في حاجة إلى عدد أكبر من الجنود ومعظمهم جاءوا من قبائل متحالفة معه، قبل أن يكلف خليفة حنيش بعقد مواثيق مع عدة قبائل تدعي القرابة للقذاذفة، وظهرت مقولة أخوة الجد لتصبح المدخل الذهبي للغنائم، فمثلا استغل عبد المجيد القعود لقب قبيلته في غريان وتدعى القحاصات، ليكتب ميثاقا على أنهم ينتمون إلى عشيرة القحوص في قبيلة القذاذفة، بينما ادعت قبيلة أبو عياد وعشيرة من قبيلة أولاد حزام في غريان أنهم مقارحة.
في منتصف التسعينات أكتشف سكان مدينة غريان الأصليين أنهم أصبحوا أقلية في مدينتهم، عندما فاز القادمون الجدد بكل المناصب في أمانة المؤتمر واللجنة الشعبية، وعندها انتبهت للتحولات الكبيرة التي حدثت في المدن الليبية، فاكتشفت أن سكان طرابلس الأصليين الذين لا ينتسبون إلى أي قبيلة أصبحوا أقلية صغيرة جدا، وسط هذا العدد الهائل القادم من خارج المدينة، ثم اكتشفت أن أهل درنة الأصليين أصبحوا أقلية وسط البدو الذين سكنوها والقادمين من جميع أنحاء الجبل الأخضر، مثلما حدث في طبرق والزاوية وسبها.
في عهد القذافي تم ترييف المدينة وتمدين الريف، ففي مدينة عريقة مثل طرابلس تلاحظ القيم البدوية التي كان يحاربها أهل المدينة قبل ظهور النفط، بينما تجد قرية صغيرة مثل سرت وقد تحولت إلى مدينة حديثة، وفي كل مكان من البلاد تجد السيارة تقف أمام منزل حديث عليه صحن هوائي وبه كل الأجهزة الحديثة ولو في قلب الصحراء، فهل كان القذافي أشبه بقدر كاتم يخلط فيه هذا المزيج العجيب الذي أطلق عليه أسم الشعب الليبي، وعندما ارتفع غطاء القدر الكاتم بعد الثورة، انفجر المزيج في وجه العالم؟