مختارات

التيه.. وتناقض الفكر.. والواقع والمطالب

مفتاح بوعجاج

.

عندما استقلت معظم الدول العربية والإسلامية في الأربعينات والخمسينات ومن بينها ليبيا أنشأت لها أسسا علمية وإدارية وتنموية واجتماعية وتشريعية واقتصادية تضاهى تلك في الأمم المتقدمة… تزامنت مع رؤية لها عراقة وأصالة لها شكل عصري حديث.. فكانت أصالة ومعاصرة ظهر على أثرها كتابا وشعراء وموسيقيين مبدعين منهم شوقي والشابى وطه حسين والعقاد وعبد الوهاب وببرم التونسي وفريد الأطرش وأسمهان وأم كلثوم ومالك ابن نبي على مستوى العالم العربي وغيرهم الكثير فى ليبيا.. كما ظهرت الانتخابات والبرلمانات والصحف والمجلات والسينما والمسارح والإذاعات والنقابات والقطاع الخاص والشركات والجامعات والمدارس والمحاكم والنيابات والمحاكم الدستورية والنقض.. هكذا.. ثم فجأة هبّت رياح شعارات القومية والوحدة والاشتراكية ومحاربة الامبريالية اتخذت من كارثة فلسطين والوحدة القومية رمزا لها وفكرا واتجاها وعسكرة.. فكان للانقلابات تأييدا شعوبيا جاء على أثره العسكر في مصر وسوريا والعراق والسودان وحتى الصومال واليمن والجزائر ثم ليبيا .قضى حكم العسكر على ما تحقق من انجازات تنموية وثقافية وفكرية وبناء المؤسسات الديمقراطية والحريات وعلاقات محترمة دولية قبل مجيئهم على مبدأ أن ما نجح فيه الغرب الديموقراطى بعقله ..خربوه هم بعواطفهم وهيجانهم…تزامن حكم العسكر بعد وضوح توجهاته وأحيانا حتى قبله ظهور بعض الدعاة والمفكرين الإسلاميين الذين استبقاهم المتسلطون دغدغة لعواطف العامة الذين لم يكن لهم ملجأ من الظلم والفقر التي انتهت أليه معظم الأقطار حتى قبل حضور الاستعمار الا الله.. والذين كانوا يدعون إلى العودة إلى الحكم والدولة الإسلامية الدينية بدون وضوح ماهية تلك الدولة حيث لم تكن هناك دولة دينية بالمعنى الحديث خلال التاريخ الاسلامى كله..فما نشأ بعد دولة الإسلام إن صحّت التسمية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المدينة المنورة وما جاورها انتهت غالبيتها بالانقلابات والقتل وسفك الدماء والانقسامات الفكرية الدينية ولا تزال إلى اليوم… ظهرت على أثرها ملل ومناح وطوائف ومذاهب ودول شتى كلها تتبع أفكار واجتهادات شخصية وسياسية مغلفة بثوب ديني مثل الخوارج والمرتجئة والشيعة والزبدية والسنة وغيرها.. ثم الدولة الأموية ثم العباسية ثم الأندلسية والفاطمية وما بينها وما بعدها مرورا بالسفاح الحجاج الذي يزال البعض يحفظ له مأثرة الكلامية ويتعامى عن سفكه لدماء المسلمين.. وعن رميه الكعبة المشرفة بالمنجنيق.. وانتهاء بسفاحي العصر الحديث أمثال الأسد الكبير والأسد الصغير وبومنيار وغيرهم في العراق وما جاورها..

خلال العصر الأخير توصلت أمم كثيرة بتفكيرها العقلي بعد صراعات ثورية وفكرية وفلسفية إلى حكم الديمقراطية المبنى على نظام فصل السلطات والتداول على السلطة بالية الانتخابات الحديثة وحكم الدستور المنبثق من حاجة الناس إلى تنظيم العلاقة فيما بينهم وما بينهم وبين من اختاروه للحكم لفترة محددة.. وحرية الفكر والعقيدة.. ونظرية الحكم النيابي.. ومبدأ المواطنة اى انه لكل فرد قادر عاقل رجل أو امرأة..الحق في ابدأ رأيه او رأيها بالطرق الديمقراطية اى انه لكل منهم صوتا ورأيا وهذا لا يمكن حدوثه واقعيا الا بترسيخ مبدأ الحرية وضمان صونها بكافة الطرق.

اختلطت الأفكار الدينية القديمة والأفكار الديمقراطية الحديثة بدون غربلة أو فرز في منطقتنا خاصة بعد أن استعانت دولنا المستحدثة بتواجد مؤسسات لها نظيراتها فى الدول الديمقراطية كالجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى والمؤسسات الاقتصادية والعسكرية والأمنية مما جعل تلك المؤسسات لها بناءا فوقيا بدون قاعدة فكرية أو عقائدية ذات صبغه ديمقراطية وطنية حديثة فنشأ من ذلك جيلا يحمل فكرا مختلطا مشوشا بقديم غير مصفى وحديثا لم يلامس غير القشور من الحضارة الحديثة وظل يدور فى فلك التحليل والتحريم والتكفير والفتاوى والفتاوى المضادة فلبس لباس الحضارة الحديثة واستمتع بتقنياتها واختراعاتها ولكنه ظل يحمل ذلك الفكر المشوش نتيجة لثقافة كلامها النظري كثير ولكن فعلها المادي قليل ..وتشبعت شعوبنا اثر ذلك بفكر مشوش متناقض لا يجعلها قادرة أن تستعمل عقولها بتفكير علمي منطقي نراه اليوم قد ملاء الساحة الثقافية والسياسية انعكس على الواقع فأصبحت الرؤية ضبابا لا نكاد من خلاله نرى النور والضياء…

ما هو موجود على الأرض من منجزات مادية أو مؤسساتية أو حتى فكرية في أقطارنا اليوم لم يكن نتاجا لثقافتنا أو جهودنا وإنما هو بامتياز نتيجة من منتجات الحضارة الغربية الديمقراطية..فكيف يستقيم الأمر من أحزاب أو تجمعات أو إفراد إيديولوجياتها مبنية على أفكار وثقافات انكفأت وانقسمت ولم تكن يوما ما سببا في بناء دولة عصرية ذو أسس ديمقراطية حديثة..

حزب الله حزب يدعى مؤسسوه وزعماؤه انه حزب سياسي لتحرير الأمة ..ولكن الواقع انه حزب ديني شيعي في ثوب سياسي ..فكيف يريد أن يحرر الأمة وهو من داعمي أنظمة دكتاتورية مثل نظام الأسد ومن تابعي نظام الملالى في إيران اللذان يحاربان مطلب الأمة الأصيل في الحرية والديمقراطية ومن الأنظمة الشمولية المتبقية.

في غزة أيضا ضاعت مطالب ورؤية الفلسطينيين فى تكوين دولة لهم وسط شعارات إيديولوجية دينية مدعومة.. ابتعدت كثيرا عن مطالب الحرية والديمقراطية.

ستضل الأمة منقسمة ومتشرذمة ان لم يتفق الجميع على أن أصل مطالب الشعوب هى الحرية والديمقراطية بشكلها والياتها الحديثة وليس العودة إلى الوراء إلى لا شيء.. محاولة إلباس مطالب الشعوب لباسا دينيا هو الذي جعل من بعض الأحزاب المبنية على أسس دينية غير ناضجة تنهض من جديد ضد تأسيس الدولة المدنية والقضاء على ما تحقق من انجازات مدنية تمس الحقوق الإنسانية وما يجرى فى تونس وفى مصر لهو خير دليل.. على الجميع ان يعوا ان ثورات الربيع العربي هى ثورات من اجل الحرية والديمقراطية الحديثة وإنها ثورات لا تريد آن تلبس عباءات الشعارات الدينية الفضفاضة وإنها ستخرج من تلك العباءات عاجلا أم أجلا حتى لو اضطر الأمر لثورات ربيع أخرى.

مقالات ذات علاقة

البناء الثقافي: الخطاب، التدبير بين القراءة والتأويل

المشرف العام

قصيدة من وحي سوسة

المشرف العام

الأدب الليبي: المواجهة والتهميش

المشرف العام

اترك تعليق