كاريمان صقر
يرتبط تخطيط المدن العصرية ارتباطا وثيقا بطبيعة الحياة للمجتمعات وسكانها مع مرور الزمن.. وبتتبع تطور العمران وتخطيط المدن على مدى عشرات ومئات السنين نلاحظ أن الناس أحيانا بالفطرة ولطبيعة نشاطاتهم التي اعتادوا عليها استحدثت أماكن بعينها لتصبح وتشتهر بصفة ما.. كالمساحة المحددة من جهة ما والتي اعتاد الناس التجار أن يمارسوا بها البيع والشراء لموقعها قرب منازل الأهالي فتحولت إلى ساحة سوق يومي أو أسبوعي… حمل اسما معينا.. أو ساحات حول حنفيات التزود بالمياه والاسبلة وظهور نشاطات مختلفة حولها.. وغيرها
من أهم معالم المدن.. الفراغات العامة.. بؤرة النشاطات الاجتماعية المختلفة والتفاعل الجماعي لمختلف فئات المجتمع تبعا لذلك.. وهي من أهم الفراغات العمرانية.. إذ تكون أداة ربط بينها وبين مكونات المدينة او منطقة معينة تبدأ منها أو تنتهي إليها أو تتوسط..
فناء البيت الليبي الذي هو متنفس ونقطة نشاط وجمالية للبيت.. وكذا الميادين أو الساحات.. متنفس وعنصر جمالي ووظيفي للمدينة
في طرابلس العديد من الميادين المتعددة الأحجام والوظائف والشهرة والمواقع. ولعل أشهر ميادين طرابلس.. هو ميدان الشهداء.. -وسط البلد بموقعه وأهميته…
الميدان مر بمراحل كثيرة قبل أن يصبح على ما نعرفه عليه اليوم.. اكتسب أهمية تاريخية من خلال ما يحيط به من معالم مثلت مراحل تاريخية مختلفة فريدة.. وجمع حوله أنماط معمارية متنوعة بناء على ذلك… أضفت إليه حضور العراقة والتاريخ بالتأمل في تلك المباني.. جمع ما بين عمارة المدينة الحديثة بمنظور ذلك الوقت التي أراد الاحتلال الإيطالي إنشائها خارج أسوار المدينة القديمة. فكان طراز العمارة الإيطالية والتي تسمى “Colonial Architectur “.. وله علاقة بالمدينة القديمة وعالمها من خلال مداخلها المهيبة.. وقلعة السراي الحمرا.. تلك القلعة التي جمعت ببنائها الأصلي وما تبعه من إضافات اخدت روح وشكل العمارة لمختلف العهود التي توالت عليها ..خليط ذو نكهة انعكست على الميدان ليصبح ميدان مهم ..وجمال البحر والميناء والحضور الطبيعي مما خلق أجواء خاصة للميدان يصعب عدم الالتفات لها ..
ميدان الشهداء..
أنشئ الميدان عشرينات القرن الماضي زمن الاحتلال الإيطالي وحمل اسم ميدان ايطاليا ” Piazza di Italia ” .. وبعد إعلان استقلال ليبيا عام 1951..تغير الاسم الى ميدان الاستقلال تخليدا لهذا التاريخ ..ليتغير الاسم بعدها إلى “ميدان الشهداء” لارتباط الميدان بحادثة شنق عدد 14 من الليبيين على أعواد المشانق التي نصبت به من قبل جنود الاحتلال الإيطالي. ..ولكن لا ننسى أن مساحة الميدان قبل ذلك عرفت بأسماء أخرى ارتبطت بما كان يتسم به المكان من نشاط فاعرف بسوق الخبزة ..وميدان سيدى حمودة
تصميم الميدان كما تبين بعض المصدر التي تناولته يشبه كف اليد والذي تتصل به الأصابع فالميدان تتفرع منه عدد من الشوارع الرئيسية في المدينة وهي شارع عمر المختار وشارع الوادي وشارع ميزران وشارع 24 ديسمبر وشارع الاستقلال وشارع الشط والذي كان يسمى “الكونت فولبي” ومن بعدها شارع ادريان بيلت “
بينما توجد بساحة الميدان النافورة التاريخية المعروفة نافورة ” خيول البحر ” وتطل على الميدان مباني عدة بعضها لم يعد له وجود وبعضها مازال موجودا – عمارة ” بانكا دى روما “مصرف الجمهورية حاليا ” والامة سابقا.. ومبنى الولاية سابقا…فندق ناسيونالى بالعشرينات كما كان يطل عليه أكبر مسارح طرابلس سابقا ” مسرح ميرامارى ” وجامع سيدي حمودة وحديقة عامة.. ومن اهم معالم الميدان ايضا السراي الحمرا ومتحفها وبحيرة السراي ومداخل المدينة القديمة ومسلة الفارس ومسلة السفينة.. بوابة الميناء… ومطل على ميدان الشهداء كان هناك سابقا أيضا التمثال الروماني “سبتيموس سيفيروس” قبل أن يتم نقله إلى لبدة
ميدان الشهداء…كان على مر التاريخ مكان لنشاطات مختلفة تدرجت بين الحياتية إلى السياسية والدينية والاجتماعية.. فقبل أن يتم تخطيط وانشاء الميدان كان عبارة عن ساحة تسوق لبيع الخبز حتى أنه عرف بسوق الخبزة. ويشمل أيضا حرفية ابو مليانة لإقامة طرابلس وما جعلها. .. وبعد أن تم إنشاؤه.. تحول في العديد من المرات إلى ميدان للأحداث والمناسبات السياسية كالاستعراضات العسكرية أو استقبال السياسيين والخطب سواء قديما أو حديثا.. أو غيرها كما شهد أحداث مأساوية وأهمها إعدامات الليبيين على يد المستعمر كما ذكرت بشنق 14 على منصة نصبت بالميدان 6 ديسمبر 1911 …والتي اكتسب منها اسمه..
وشهد أيضا المناسبات الدينية فكانت احتفالات المولد النبوي الشريف وخروج الزوايا الكبيرة – “الحضرة” التي تتم عبره والصلاة بالمناسبات الدينية والأعياد. .
مر “ميدان الشهداء” بعديد من التغييرات التي نتج عنها هدم وازالة بعض المباني وإضافات أيضا غيرت من ملامحه منذ البدايات إلى الآن… وللأسف ما نراه مؤخرا وكأنه تحول إلى موقف للسيارات مما أساء إلى شكل ووظيفة الميدان …
الميادين.. فراغ. أحداث -تشكل ذاكرة المكان.. هنا محاولة للبحث عن صور ارتأيت فيها التسلسل الزمنى قدر الإمكان لما تطور إليه ميدان الشهداء على مدى ما يقارب ربما 150 سنة أو أكثر… إذ أن الصور تتحدث أكثر من الكلام …
نتمنى أن يستعيد الميدان مكانته التي يستحق أن يكون عليها كمركز ووسط المدينة البحر والميناء أحد إطاراته.. والعمران والتاريخ تحيط به.