أحمد إسماعيل
الثقافة معيار لتقديم المجاز وتصويره للواقع بمشاهد مبتكرة وكأنه يحول البلاغة لإسقاطات تستنزف الجاذبية وتحولها إلى شغف للعين…
العنوان لم تبتكره الشاعرة ليكون مجرد عنوان فهو ذو دلالات عميقة جدا. اليود علميا يأخذ على جرعات لتعالج المصابين بمرض الكساح وهو مرض يصيب العظام يؤدي لتشوهات في هيكلة الساق. لكن ما الذي يدفعنا لأخذ جرعة زائدة وكأنها جعلت من العنوان استقطابا للأذهان لما سيأتي بعده في المقدمة…
وهنا تبدأ رحلة الدهشة.. فالشاعرة تحول القصيدة لمختبر علمي فهي تعمد من خلال المجاز توضيح السبب الذي أدى لكل هذه التجارب.. اختراع أوكسيد للضحك.. الرغبة بتجريب الخبل بعدة مظاهر.. الارتماء فوق شاحنة خضار…
هنا توضح الشاعرة كم هي أبعاد تعقيدات الواقع. وبمعنى أدق تبحث عن حريتها بعيدا عن قيود الواقع. هي تبحث عن شيء يعيد لها الحيوية.. التشوه لم لم يكن كمرض يصيب الجسد. التشوه في جسد الوطن.. لذلك كان العنوان ”جرعة يود زائدة“.. فهي تبحث عن شيء يكسر هذه القيود التي أصبحت آفة تنخر في جسد الوطن فتبدأ بالبحث عن وسائل تجعل من تجربتها ناجحة…
”أبحث عن كلب يعلمني النباح“…
الكلب هو رمز مجازي للوفاء وحين ندمجه مع صيغة تعليم النباح فهذا ذو دلالة عميقة. فالشاعرة تبحث عن أشخاص أوفياء يخرجونها من حالة هذا الصمت الخانق.. يقفون معها يساندونها إذا قامت بتطبيق تجربتها الإصلاحية…
”تربية الأبقار لأفهم السياسة“…
إسقاط مذهل. الأبقار هي فصيلة حيوانية تعيش ضمن فكرة غريزة القطيع.. تأكل تشرب تتناسل وتنام ودونما تفكير بالقادم. وهنا المفارقة حيث أنها تسخر من أصحاب العروش الذي يقومون بنفس الوظائف دونما تقديم حلول تخرج الوطن من أزماته.. بل إنهم يغرقون الوطن في الفقر والجوع حتى لايفكروا بالسياسة…
”أجرب الجري حافية“…
هذه العبارة مذهلة تترك مساحات من التأمل للقارئ. ما الذي يدفع الإنسان للجري حافيا؟! وكأنها تشير إلى أنها تريد الخلاص ولو كانت حافية تجري فوق الشوك.. الشوك لن يؤلمها.. فوجعها أكبر بكثير…
”فيما العالم مشغول عني بالنظر للأعلى“…
كيف لا وهذا الوصف الدقيق للواقع.. فلا أحد يكترث بأوجاع أحد.. ولا أحد يكترث بأوجاع وطن. الكل يتدثر بالصمت ويرفع نظره للأعلى في لحظات خشوع في الدعاء لعل السماء تمطر حلولا…
ثم تبدأ الشاعرة بنفس تصاعدي تستنزف به الأحاسيس المختبئة في الظلال فترسم المفارقة من عمق الألم وذلك من خلال العادات التي يتم تقديسها…
والعادات غارقة في الجهل…
ففي هذا المقطع تبدأ هزلية الشاعر واستخفافها من طريقة التفكير المبنية على العادات. وكانت الصور فيها بليغة عميقة التأثير ممزوجة بكم هائل من شحنات التذمر…
المقطع الثالث والأخير…
تنقلنا مرحلة الرمق الأخير.. تجربة جرعة يود زائدة.. لعلها تنثر معنى الحب ليتدفق قلب الوطن.. لكن عبثا. الإشارة إلى السمك كان مفتوح التأويل، فالسمك أكثر الكائنات التي تحتوي اليود.. والشاعرة طرحت المشهد كنوع من الاستهجان فكل من حولها لا يأكل السمك.. هم يأكلون لحم بعضهم. وهنا ترسم صرختها: كيف نعالج هذا التشوه في ساق الوطن حتى يقف ويمشي شامخا وباتزان. لكن كل شيء حولها لا يرد الصدى وحالة الألم تكبر والتشوه يزيد…
حقيقة نص غارق في الجمال محبوك بطريقة سينمائية مدهشة. فالشاعرة حولت نفسها لتكون جسد الوطن.. تبحث عن حلول للشفاء.. والشفاء يلوح لها بيده من بعيد…
طبعا المصطلحات العلمية في هذا النص كان لها دور كبير في رسم عمق النص وجماليات المشهد والشاعرة هنا مثال للثقافة الحية التي تستطيع أن تنبعث من عيون الأدب والشعر…
دمت لجمال الحرف عنوان شاعرتنا المبدعة عزة سمهود.
نص الشاعرة عزه رجب سمهود “جرعة يود زائدة”
أجربُ اختراع أكسيد للضحك
أجرب الشعور بالخبــــل
الارتماء فوق ظهر شاحنةٍ
محشوة بالخضار .
اقتناء كلب يعلمني النباح
تربية الأبقار لفهم السياسة
أجربُ الجري حافيةً
فيما العالم مشغول بالنظر لأعلى
أجرب العادة لأنها مقدسة
كلحم القديد في العيد
أجربُ أنْ أملأ الفراغ بالحديث عنك
أنْ أؤمن برأس الإبرة الفارغ
بدل الرؤوس المحشوة بالتبن
أجرب الكوكاكولا عن الشاي والحليب
الأشياء التي تبدو خردة
كحديثٍ مستهلك في حانة
كذكرى قديمة في بلد ٍمُحتل
أجربُ تحديث الحداثة
أنْ أكون سفسطائية
تؤمنُ بالحسيات والبديهيات
وعلاقة النرد بالطاولة
أجربُ قلم العيون الأخضر
الرؤيا الملونة.
والنهار الذي يمضي دون غبش
الفستان القصير وقصائد الكلاكيت
الصداقةُ الحداثية
مع اللغم المزروع في روحي
أجرب ُالمزيد من جرعات اليود
من أجل أنْ تعمل المضخة
المزروعة وسط صدري
أجربُ أنْ أكون سعيدة
في بلاد لا تهتم بتناول السمك
أنْ أساير الحزن لينام
كورقة بردي متآكلة في مقبرة كتبٍ
أجربُ أنْ أقول لأصدقائي
كم أبدو وحيدة
منطوية وبعيدة !
أجرب أن….
أخرج من مظلة الإجابة
اجتاز خط الروتين
وبروتين الكلام الممل..