لأن الحرب وجه من وجوه الحياة وحدث مؤثر ومفزع على الدوام ومهما تكرر يبدو مفجعاً ومؤلماً ولا يمكن التعود عليه وتقبله .
ولأن الإنسان سيظل يقتل الإنسان لأسباب متعددة، ومنذ قابيل وهابيل وحتى الآن .
كان من الضروري أن يعبر عن هذا الجنون الجماعي الكُتاب والأدباء والفنانين في لوحاتهم وقصائدهم وأغانيهم وبكل ما يمتلكون من وسائل للإبداع .
ومثلما قيلت الكثير من القصائد في الحرب وسيطرت كثيمة وموضوع مُلح على جانب كبير من فن كتابة الرواية إلى حد أنُه بات من المألوف أن نقرا توصيفات ومصطلحات مثل ” أدب الحرب ” و ” أدب المقاومة ” وغيرها من التسميات التي دخلت المنظومة النقدية في العصور الحديثة .
تأخذ الأولوية وتصير معها كل الحوادث هامشية أو ثانوية، وهل هنالك موضوعاً شغل الناس أكثر من الحرب متى ما حلت بمكان ؟
والشاعر الليبي والفنان الليبي ليس بوسعهم إلا أن يتفاعلوا مع الحرب التي هيمنت على إيقاع حياة الليبيين طيلة السنوات الماضية – كما لو أن الليبيين لا يستطيعون حل مشاكلهم إلا بوسيلة واحدة هي الحرب وهذا أمر مخزي ومؤسف – فما أن تنطفئ الحرب في جهة حتى تندلع في جهة أخرى، حروب تتناسل بلا هوادة لتأخذ معها الأرواح والأمن، حروب ذات منشأ قبلي وأخرى تتفجر بدوافع سياسية وثالثة بدعوى الطمع والأستئثار بالثروات والمناصب وهلم جراً .
وكيفما رسم الفنان الحرب سيرسم وجهها القبيح وسيرسم الدمار والخراب التي ستخلفه، سيرسم الدماء التي ستريقها والأرواح التي ستزهقها، سيرسم الألم المتجسد في الوجوه .
وعلى رأس كل ما تم رسمه عن الحرب منذ ذاك الإنسان الأول الذي التقط أداته البدائية وطفق ينقش ما تشكل في ذهنه البسيط من رؤى على جدران الكهوف وحتى الآن، على رأس كل هذا الأرث التعبيري تقف لوحة الجورنيكا بكل حمولتها من اليأس والألم والأحتجاج والصراخ لتعبر عن وحشية الحرب وعبثيتها، فالجورنيكا التي هي في الأصل أسم لإحدى البلدات الإسبانية التي تم قصفها، وسقط جراء ذلك خلق كثيرون بين جريح وقتيل، لم يكن ليمر مرور الكرام حدث كهذا دون أن يستفز فنان متمرد ومعاصر مثل بيكاسو إلى حد أنه التقط هو الآخر أدواته وطفق يرسم صرخته صرخة وطنه صرخة الإنسانية وألمه ووجعه واحتجاجه وتنديده في هيئة خطوط وأشكال ومساحات غامقة وزوايا حادة وعيون مرتعبة وأشلاء متناثرة وأضواء ذابلة وأيادي ممدودة نحو اللا شيء ووجوه حائرة ودموع متحجرة وسواد يتخلل الأشياء وملامح مذعورة وخيول خائرة قواها وثيران بعيون بشرية وكائنات تحت وقع الصدمة، ليُري العالم هول الفاجعة ولينقل إلى القتلة صرخة الضحايا التي ستظل تلاحقهم إلى الأبد لتنغص عليهم، ليس حياتهم فقط بل حتى مماتهم وتحيله إلى جحيم .
هنا نجح بيكاسو برمزيته العالية وبإشاراته وتلميحاته التي احتوت عليها لوحته / جداريته في أن يرسم الجحيم الذي تصنعه الحرب، فكل خط وكل شكل وكل إضاءة وعتمة وزاوية وهيئة كائن في اللوحة تحيل إلى معنى وتطرق مغزى لن يكون صعبا على المتلقي المُدرب تبينه والتحقق منهُ .
هذا غير أن أسلوب تنفيذ اللوحة يعد حديثاً وقت إنتاجه ورائد في مجاله وبه ما به من اسرار الصنعة والمهارة التي تعكس حرفية الفنان وسعة خياله وقدرته على ترجمة وتحويل الحدث إلى فن خالص عبر تناوله غير المباشر لهُ، وهذا في تصوري هو غاية الفن وجوهره الذي لا يستطيع أن يقتنصه كل من قال أنا فنان وانبرى لمعالجة وتناول أية مسألة .
واللوحة في نهاية الأمر لا تخرج عن كونها صرخة بحجم الحياة في وجه الخراب، في وجه الحرب، في وجه الموت، وهي رسالة موجهة للقتلة قبل أن تكون موجهة للضحايا وأهلهم، هي صرخة في أُذن ذاك القابع في حصنه مستعداً للضغط على زر إطلاق القذائف والصواريخ، إلى ذاك الي يضغط على الزناد ليقتل ظلماً وجوراً وعدواناً، والفنان لا يستطيع أن يكظم غيضه مما يحدث ولا يمتلك رفاهية الصمت وإلا أصبح فنه فارغا من المعنى وبلا جدوى ولوقع ضحية لصراع داخلي كونه يجب أن ينحاز للحق وللحياة مهما كلفه ذلك من ثمن .
وسيكون مبتذلا وغير مقنع لو رسم الفنان المعاصر الحرب بطريقة تقليدية كما كان يرسمها فناني ما بعد عصر النهضة مثلا، فموضوع مثل الحرب في تصوري لا يمكن التعبير عنه إلا بأشكال وأساليب غير تقليدية كالتجريد والسوريالية وبأدوات وخامات غير أحادية اللهم إلا أذا كان الفنان طفل صغير يرسم وفقا لفطرته وبراءته ورؤيته البسيطة، ولأن الحرب أرقى أنواع العبث والسوريالية، قد تتسع لها وتنجح في احتواءها الحركة السوريالية في جانبها التشكيلي .
ولا يحضر ببالنا الآن فنان ليبي تناول موضوع الحرب أو اتخذ منه ثيمة لأعماله مثل الفنان والنحات الراحل علي الوكواك الذي ترك منحوتات تدين الحرب وتعريها، ومن مخلفات الحرب ذاتها، فالشظايا وعبوات الرصاص الفارغة هي مادة الفنان لتشكيل رؤيته الناهضة للحرب والمنتصرة للحياة .
بينما رسم الفنان معتوق ابوراوي تداعيات الحرب وأثارها المدمرة على الناس وما يمكن أن ينشأ تبعا لها من ظواهر عالمية مثل الهجرة غير الشرعية وتجارة البشر والتهريب وغيرها .
وفي اللوحة التجريدية التي نفذها الفنان الليبي علي المنتصر وأطلق عليها اسم “طعم الموت” ونشرها مؤخرا عبر حسابه على الفيس بوك، والتي توازي الجورنيكا في موضوعها وتفترق عنها في طريقة المعالجة، كأنني أرى جماجم ووجوه فزِعة، كما لو أنني أرى بنادق متأهبة ودماء تغطي المشهد كأنني أرى العتمة تتقدم والظلام يزحف وكأنني أرى محاجر عميقة وكأنني أُشاهد بعض الأمل مع تلك البقع البيضاء القليلة، المنتشرة هنا وهناك في فضاء العمل، وفي الملاعق والشِوك والسكاكين المتدلية من الحبل الغليظ كأنني أرى الحرب كوحش وقد فرغت للتو من الافتراس قبل أن تتجشأ عفونتها وتستعد لأخذ قيلولة قبل استئناف عاداتها في الفتك والقتل والتهجير والتدمير وفي إخراج الأضغان من النفوس وتحويل البشر إلى وحوش أو إلى ألات قتل بلا مشاعر، كائنات لا تعرف الرأفة ولا وجود للرحمة في قاموسها الهمجي،.
هذا ما تسعى إلى قوله اللوحة التي تقف وحيدة وعارية إلا من فكرتها وبلاغتها البصرية أمام جبروت الحرب وسطوة الموت وإيقاع الخراب، وهي لا تمتلك قوة لردع الحرب وتكميم أفواه البنادق وإخماد صوت القذائف، ولكنها نوع من انواع المقاومة وضرب من ضروب الانتصار للحياة، الحياة التي نريد لها أن تستمر وتتألق لعل الحرب ترعوي أو تتراجع أمام إرادة البقاء .
العمل حديث بكل معنى الكلمة ويخوض بعيدا عن رفاهية الفن وجمالياته المعتادة ليتطرق إلى جماليات الرعب، العمل يمزج ما بين أسلوب اللوحة المسندية وأسلوب التكوين بالمواد المختلفة، والمتمثلة هنا في الحبل الغليظ النازل من الأعلى والذي مهما حاولنا التهرب من تأويله فلن نجد له إلا تأويلاً واحداً وهو حبل المشنقة، والغريب في الأمر أن ما في أنشوطته ليس رأس إنسان كما هو متعارف عليه بل سكاكين وشِوك وملاعق مصبوغة مقدماتها بالأحمر القاني المعروفة دلالاته، وكأن الفنان أراد الانتقام من الحرب بشنقها أو بشنق أدواتها أو بتجريدها من مخالبها وكأنه يقول لا خوف بعد الآن ويبشر بعالم خالٍ من الحروب والقتل والدمار، وكأنه يتطلع إلى السلام الدائم أو هكذا يحلم، ومن حق الفنان أن يحلم لنشاركه نحن الحلم بعد ذلك .