لابد من التأكيد على أن مظاهر الاحتفاء بالقامات الوطنية الإبداعية هو خلق وواجب إنساني واجتماعي يستوجب الثناء والشكر أولاَ، ثم الوقوف على أهمية مقاصده وغاياته المتأسسة على النبل والأصالة والوفاء لعطايا وإبداعات واجتهاداتٍ متنوعة تظل تسجل سيرة زاخرة بالطموحات والتحديات والانجازات وحتى بعض الانكسارات، وكل هذا يجعلها حديقة غناء وبانوراما مكللة بالفخر والاعتزاز تمثل نهجاً ودروساً ومثابرات نعدها كمنارات يهتدي بها اللاحقون على الدرب.
أستاذي يوسف الشريف .. قامة من قامات الوطن .. ومنهل من مناهل الفكر والإبداع لا يمكن لأي متابع أو دارس أو راصد للمشهد الأدبي والصحفي والإعلامي أن يغفل أو يتجاوز اسمه أو انتاجه الفكري والقصصي والطفولي الذي تميز به طوال مسيرته الحافلة بإثراء فكرنا والارتقاء بذائقتنا الأدبية.
وبالتالي كان لابد لي أن أعرفه في بواكير بداياتي وخطواتي من خلال قصصه القصيرة الممتعة، ومقالاته الصحفية اللاذعة، وقراءاته النقدية العميقة، ولقاءاته التي سيظل أبرزها راسخاً في ذاكرتي حواره التاريخي مع الأستاذ الراحل الدكتور خليفة التليسي المنشور بالعدد الثلاثي الخاص رقم 66،67،68 الصادر في أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1992م من مجلة الفصول الأربعة والمعنون (التليسي جبل المجد والإبداعي)، والذي على غراره – وليعذرني إن كان هذا تقليداً وتطاولاً مني – فقد نسجتُ على منواله لقاءً أجريته معه شخصياً، حين استضفته في برنامجي المرئي (المشهد الثقافي) بتاريخ 29 سبتمبر 2010م ثم نشرته مكتوباً بجريدة (فبراير) تحت عنوان (رحلةُ حوارِ الأسئلة مع الأديب يوسف الشريف) على صفحات عددها رقم 411 الصادر بتاريخ 21 مارس 2013م، ثم نقله ونشره موقع ليبيا المستقبل الالكتروني بتاريخ 16 مايو 2013م، وعلى أثر ذلك اتصل بي الصديق الصحفي الراحل مفتاح أبوزيد رئيس تحرير صحيفة برنيق الصادرة أسبوعياً بمدينة بنغازي طالباً الإذن في إعادة نشره على صفحاتها، وفعلاً نشره بالعددين (العدد رقم 115 الصادر بتاريخ 26 مايو 2013، والعدد رقم 116 الصادر بتاريخ 2 يوليو 2013م).
إن ذاك الحوار التلفزيوني الصحفي الرائع والممتع كان بحق رحلة عبقة ثرية بالتـأمل في المشهد الثقافي وتقريعه بالعديد من الأسئلة الفكرية المتوالدة كسلسلة لها بداية تحفزنا على أن نلاحق نهاياتها وردودها في عقولنا الحائرة .. وعبثاً نحاول أن نصل .. أو نقبض عليها بالمطلق، إيماناً بأن الأسئلة ما هي إلا هواجس تتعدد وتتكرر وتتواصل طوال حياتنا وهذا المبدأ هو الدرس الأول الذي تعلمته في مدرسة أستاذنا القدير يوسف الشريف فهو يقول في إحدى رسائله الالكترونية التي أرسلها إلي مشكوراً (.. أنا رجل محكوم بالأسئلة، تتراكم مع تقدم سنوات العمر، والمحزن أننا عندما نرحل نترك خلفنا معظم الأسئلة دون إجابات…).
ولما كان الأستاذ يوسف الشريف، قبل ذاك الحوار بسنوات ومنذ أن تعارفنا وتعاونا في ملحق صحيفة أويا الثقافي (مواسم) قد زودني بمخطوط (الأيام الجنوبية) وشرفني بقراءتها قبل صدورها في كتاب سنة 2013 عن مكتبة طرابلس العلمية العالمية فقد اخترتُ أن يكون لها نصيب في حوار الأسئلة التلفزيوني حيث وجهتُ له أسئلتي وجاءت إجاباته الصريحة كالتالي::
س) كتبت “الأيام الجنوبية” فهل نعتبرها جزءً من سيرتك الذاتية؟ فالبعض يكتب سيرة ذاتية تقريرية والبعض سردية والبعض توثيقية. كيف تصنفها؟
ج) هي سيرة بالتأكيد، وتمثل مرحلة معينة ومهمة من حياتي، عشتها وأنا في سن التاسعة عشرة. كتبتها بتلقائية تلك السن القديمة، ولم أكتبها بتلقائية أو وعي العمر الحالي لكي أمنحها حقيقتها وحقيقة معاناتها.
س) هل شعرت بالارتياح عندما أنهيت كتابة “الأيام الجنوبية” أم أنك سددت ديناً وفاءً لـ “ونزريك” ولمدن الجنوب؟
ج) الاحتمال الأول أكثر. هي تجربة رغم قصرها، يمكن أقل من سنتين، ولكنها بقيت تمثل شيئاً أعاني منه في وجداني كثيراً جداً جداً.
س) معالم المكان كانت طاغية في النص.
ج) جداً جداً، لأن المكان طبعاً قبل خمسين سنة كأنها فانتازيا.
س) وبعد أن زرتها هذا العام، كيف كان الفارق؟ كيف تجلت لك كل تلك الأماكن التي كنت تأتي وتخرج منها وتعود إليها؟
ج) أنا لا أتمنى أن أعود إلى تلك اللحظات، ولكن طبعاً وجدتها أطلالاً، فجلست على أطلالها، وجدت ما هو أحدث منها ولكني وجدتها. طبعاً وجدتها في بعض الوجوه التي كانت من تلاميذي في تلك الفترة، وكانت بالنسبة لهم مفاجأة لا تصدق عندما رأوني بعد خمسين عاماً.
إن الأيام الجنوبية ليست مجرد مائة وستة وخمسين صفحة من كتاب زاخر بالحكي والذكريات، بل تتجاوز المصطلح الفني للسرد، بحيث يمكننا اعتبارها قصةً أو تاريخاً أو سيرةً أو توثيقاً لرحلة ومحطة مهمة في عمر الأستاذ المبدع يوسف الشريف، لذك تظل تتميز بنكهة أدبية ممتعة، وعبق تاريخي آخاذ، ولغة لا تتركك تفارق مفرداتها وكلماتها وعباراتها الثرية بأنفاس الراوي ومشاعر الآسى على أطلال المكان رغم فرحة اللقاء بالكثير ممن كانوا فاعلين ذات يوم فيه.