الثورات هي حالات من التغيير تؤثر في مجالات المجتمع بعمومياتها والتي عادة ترتبط بسلوك الناس على وجه التحديد في كل مناحي الحياة، هذا التعريف ليس تعريفاً أكاديمياً، لأنني أعتقد اعتقاد الجزم وليس الظن من أن الثورات لا يمكن حصرها في تعريف محدد وممنهج وجامع مانع كما يقولون يخضع لأسس ومقومات وعناصر ومحددات، إنها في حقيقة الأمر حالة تجتاح أي مجتمع بشري، تقتلع منه بذور الشر بكل تشعباتها، وتغرس فيه قيم الخير والعدل والمساواة والحرية.
إنه من الظلم حصر حالة الثورة في مرحلة واحدة، لأن الثورة حالة لا تطول وقتياً، ولا تخضع لمسافات زمنية، ولا لقواعد تطول فترات تشمل ربما أجيال أو مراحل من أجيال، إنها في تصوري المتواضع، حالة واحدة تشمل كل معتقدات الناس في زمن قياسي، تفعل فعلها الذي يمحو من المخيلات والعقول كل أدران السابق، وتدوّن مكانها كل قيم الحاصل، الحادث، المسجل، المدون، الجديد.
من الخطير جداً أن تطول حالة الثورة لتأخذ زمنها وما تبعه من تطوراتها، إنها صورة لما يمكن أن يحدث في الإيجاب وليس لما يمكن أن تستتبعه من سلب على مرور الوقت، إنها فقط تُظهِر عن ذاتها الشفافة، وتكشف عن مكنونها الخيِّر، وتعبر عن أداتها المغيّرة للنفوس من حالة خاملة مستكينة إلى حالة من الوعي الفاعل، والفهم المؤثّر، في الذات وفي الغير.
ونحن نعيش الحالة المستمرة للثورة الآن في ليبيا، لا نريد لهذه الثورة أن تستطيل حتى تملك زماناً ليس لها، وإلا صارت حالة ثورية مستديمة، وهي لا يمكنها أن تستديم، وبالتالي فنحن نخنق ذاتنا عبر خنق ثورتنا، ونكون كمن رسم صورة خادعته بجمالها فافتتن بها، فأصبح يعمل كل يوم على تلميعها والتجمّل فيها وكأنها حالة الإبداع النهائي، وهو أمر مكذوب على الذات وعلى الثورة، لأن حالات الثورة كحالات الإبداع تحدث في حينها، ولا تستتبع زمناً غير زمنها، أو هي غير ثابتة المقاييس، فهي ثورة في زمنها ووقتها، وهي لوحة جميلة في حالها وتحت تأثير صداها المرتبط بحالة التأثر بها والتفاعل معها، هكذا هي الثورة، وهذه هي اللوحة المبدعة.
نحن نأمل أن يكون أثر الثورة مستمر، وليست الثورة ذاتها، وإلا فإننا نغالب أنفسنا ونكابر الحقائق، لأن عيش حالة الثورة هو المقصود، أما عيش زمان الثورة فهو الذي لا نريده، إننا نأمل أن نعيش مؤثرات الثورة، تفاعلات الثورة، قيم الثورة، وهي تستشري بين الناس في صورة تعكس تماماً أثرها، وليس حالتها، قيمتها وليس اسمها، تفاعلها مع البيئة وليس وجودها، وأخيراً الثورة التي نأمل أن تستمر فينا هي تلك التي ترسم على شفاهنا البسمة، تخلق فينا الحب، وتنشئ الجيل الذي نتمنى أن نبني به ليبيا المستقبل.
فلنتفق إذاً من أن الثورة حالة من التأثير، حالة من الفيضان، حالة من النهوض، حالة من الوعي، حالة من الحريّة، ولأنها كذلك، فهي حالة لا يمكن لنا أن نقيّدها في زمن محدد، ولا في مكان واحد، ولا ببيئة بعينها، ولا في مجتمع واحد، ولا حتى في نفس أو ذات معرّفة، وهي بالتالي تستوجب منا أن نحترمها، ونعي قيمتها، فلا نعبدها، أو نصنّمها، ولا نعظّمها، ولا نُكبرها، ولا نجعلها مقياس لقيمنا المعاشة ماضياً منها، ولا قادماً لها، مروراً بالقيم السائدة، إننا نحترم ذاتها في وقتها ومكانها وظرفها الذي جاءت فيه، ثم نصنّفها على هذا الأساس معتمدين في ذلك على كمّ القيم الموجبة التي استنهضت أسباب قيامها، وعلى الثمن الذي ثبّتها وأعطاها النصر الذي جعلها تستخلف ما قبلها مهما طال أو قصر أمده، وعلى الظروف التي مهدت لتكون قيمها التي استجلبتها معها.
إنني وأنا أذّكر بقيمة هذه الثورة، وأظهر مدى ما ستعطيه لليبيين من خير وحرية وسعادة، وما أتصوره من مستقبل ناصع لها، فأنا لا أريدها أن تأسرنا، وتجعلنا حبيسي قيمها أو أفكارها أو انتصاراتها، فنصبح دائرين في فلكها، مزهوّين بها، دون أن نعمل على افتكاك ذاتنا من هذا الأسر لننطلق متجاوزين هذه المرحلة العبقة، العطرة، النشوانة، إلى واقع الحياة الذي ينتظر منا أن نتجاوز هذا التخلف الذي دام سنين، وهذا التأخر الذي طال أعوام، ونعلن أننا قد تجاوزنا مرحلة الثورة الآسرة، وزمان النصر الذي لا يكتمل إلا باستمرار القتال في جبهات هي في الحقيقة أعتى وأقوى من جبهات القتال، جبهات تحتاج منا أن نشمر عن سواعد الجد، بأن نضمّد الجراح، وأن نعمّد الصفوف، وأن تلتئم أيدينا، وأن تتعاضُد أكتافنا، وأن نعلن الصّفح، ونمنع الإقصاء، ونحقق الأخوّة التي لا تميّز بين ليبي وليبي، ولا تخلق فرقة للوطن أو أهله، ولا تعلن إلا الحب الذي وحده ينسينا آلام الماضي، ويمسح الضغينة والحقد بيننا.
إنني لا أثبّط الهمم، ولا أزرع الهوى، ولا أكذب أهلي، إنما أودُّ بهم أن نتجاوز الماضي، الماضي الذي جعلنا نعيش حالة من ثورة هي الوهم بحاله، ثورة التي قتلت فينا الأمل، ثورة أضاعت بيننا الدّين والعرف، ثورة غرست فينا الجهل، والتخلف، والقهر، ثورة فرّقت بين الأخ وأخيه، على مدى أربعة عقود، ثورة عادت بليبيا والليبيين وراءً إلى ما قبل تاريخ وقوعها بأزمان سحيقة، ربما إلى زمن العثمانيين، وقهر ولاتهم، وضرائب أزلامهم، وظلم سلاطينهم.
فلنستعدّ لخوض المرحلة القادمة بكل قوانينها العادلة، ومؤسساتها الرصينة، وثوابتها المتينة، وتوقعاتها المستقبلية التي لا نرى فيها إلا الخير كله، والسؤدد كله، والمجد كله، لليبيا، ولليبيين. هذه هي الثورة التي في المخيلة… هذه هي الثورة التي نريد.