شخصيات

المبروك الزول.. المناضل والشاعر الذي تنبأ بالثورة – الحلقة الأولى

.

عبد الونيس محمود الحاسي

.

اهداء:

إلى روح أول شهيد وأول شهيدة في الثورة الليبية: خالد الناجي خنفر، ورقية فوزي المبروك.. إلى روحيهما أهدي سيرة مناضل وشاعر أنجبته ذات الربوع التي أنجبتهما(1).

السجناء الثلاثة (2)

ألتقطت هذه الصوره يوم 20/8/1968 فى البيضاء، المبروك عبد المولى الزول فى اليسار، فرج محمد الصالح جالسا، فضل على محمد الى اليمين..

ولقد وجدت على ظهر الصوره أهداء من الشاعر المبروك الزول وفى نهايته بيت من الشعر:

رسمى سيبقى بعد موتى عبرة….والجسم يفنى والرسوم تخلد

توطئــــة:

منذ نحو تسع سنوات خلت، غيب الموت مناضلا وطنيا أصيلا، وشاعرا شعبيا مطبوعا، تصدى في وقت مبكر بعد انقلاب سبتمبر عام 69، مع كوكبة من رفاقه الأحرار الشجعان، لمعاقل الظلم والطغيان.. حيث تعرضوا جميعا للاعتقال والعسف والتنكيل.. وزج به وبهم في حملة الاعتقالات الشهيرة الواسعة في جميع انحاء ليبيا، بعد خطاب زوارة سيء الذكر يوم 15 أبريل عام 1973.. أجل زج بهم جميعا في غياهب سجن الكويفية بمدينة بنغازي في البداية.. ثم في ما بعد إلى دهاليز وأقبية سجن (بورتو بينيتو) الرهيب بمدينة طرابلس، الذي بناه الاستعمار الايطالي من أجل قمع الليبيين والبطش بهم.. بل وقتلهم وإبادتهم بين جدرانه الرطبة، وداخل اقبية التعذيب البشعة.. وهي الجريمة النكراء التي تكفل الطاغية القذافي باستكمالها، وعلى نحو أكثر فظاعة وبشاعة.. حيث اشتهر سجن (بورتو بينيتو) في عهده الدموي باسم سجن (الحصان الأسود).. ؟!.

وخلال رحلة العذاب التي استمرت خمسة عشر عاما.. بلياليها وعذاباتها وآلامها وأحزانها، محكوما في جزئها الثاني بالإعدام.. واجه المناضل والشاعر المبروك عبد المولى الزول.. واجه القمع بالقافية.. ومحاولات التركيع وكسر الإرادة بالصمود.. ولعل ذلك يتجلى أكثر ما يتجلى هنا، وهو يخاطب من داخل السجن بإحدى الزنازين الضيقة الشبيهة بالقبر.. يخاطب احبابه واهله وأصحابه وكل من يعرفه خارج السجن:

(انتو عليكم الصبـر ونحنا انشد العزايـــــم

من حاش حازنا قبر صيّور المفارق ايلايم)

ورغم متانة شعر الزول وقوته وبلاغته، ونبل اغراضه ومقاصده، وعدالة توجهاته وأهدافه، التي تعتبر في مجملها أهدافا وطنية خالصة.. كما يمكن النظر إليها على أنها تحريضية نضالية.. كما يمكن ادراجها أيضا ضمن اشعار المقاومة الوطنية.. إلا أن تداوله ـ أي شعر الزول ـ بين الناس ظل يدور في حلقات خاصة جدا، وفي أضيق نطاق ممكن، بسبب أجواء الخوف والقمع والاستبداد التي كان يعيشها الشعب الليببي.. لقد ظلت أشعار الزول حبيسة الصدور، على مدى ثلاثين عاما ونيف.. إلى أن فرّج الله بالثورة.

وإذا كان الزول المناضل والشاعر الانسان، قد رحل عنا جسدا قبل الثورة.. فإن ثورة 17 فبراير المجيدة، قد حررت اشعاره التي كانت هي الاخرى رهن الاعتقال، بعد أن فرج الله ورأف، كما طلب الزول نفسه من الله، في قصيدة (العيد) حيث يقول:

(كــم عيــد مــــــرّ وعـدّى وانحنا انقاسي في عذاب وشدّة

داخل ابواب حديد للنا مـدة لا شمــس بانـت لا هــوا شمينا

يا الله يا من كل شيّ ابيـدّه فرّج وبالخيرات روف علينـــا)

* * *

ثمة شاعر آخر، ربما حصل مع شعره ـ في تصوري ـ كما حصل مع شعر الزول.. ألا وهو الشاعر الشعبي الكبير (معتوق آدم الرقعي)، الذي سجن هو الآخر في قضية نضالية مماثلة.. وخلال فترة وجوده بالسجن، قال الرقعي أشعارا جيدة، من بينها قصيدته التي يخاطب فيها سجانه، بعد أن أغلق عليه باب الزنزانة وأحكمه بالمزلاج، حيث يخاطبه قائلا:

(حتى لو قفلت الله ما يقفلها الله يخلق الشدّات ويحولها)

أجل.. لقد حطم شبابنا الثوار الأبطال، الآف المزاليج والزنازين.. وحرروا الآف السجناء والمعتقلين.. وأزالوا عنهم الشدائد عنوة.. وأنصفوا كل مظلوم ومقهور.. وانتزعوا الحرية لشعب بأسره.. !؟.

نبذة عن حياته

نشأته:

ولد المبروك عبد المولى الزول الحاسي، في حدود عام 1948، بمنطقة الصفصاف الواقعة بين مدينة شحات ومطار الأبرق، وتحديدا بمنطقة (النخيلاوة وبير السمن)، وكان هو الإبن الرابع لأسرة رعوية.. فتشرب أخلاق البادية منذ نعومة أظفاره.. تلك الأخلاق الحميدة التي تتمثل في الكرم والشجاعة والشهامة والفروسية، والصدق في القول والاخلاص في العمل.. وعاش طفولته المبكرة وسط غابات الجبل الأخضر، محاطا بألوان من الخضرة والنماء التي تغلب عليها أشجار البطوم والخروب.. حيث أثرت مراتع الطفولة هذه بشكل عميق وواضح في مستقبل حياته وصياغة شعره.. وخاصة من خلال عشقه الدائم للجبل الأخضر، الذي جعله في يوم من الأيام، يتخذ قرارا حاسما دونما تردد، بأن يكون حارسا من حراس غابات الجبل الأخضر.. ؟!.

مراحل الدراسة والعمل:

درس المبروك الزول المرحلة الابتدائية بمدرسة الصفصاف الابتدائية. أما المرحلتين الاعدادية والثانوية، فقد درسهما بمدرسة سوسة الثانوية الداخلية.. ولم يواصل الدراسة النظامية بعد ذلك، غير أنه إتجه إلى العمل.. ونظرا لحبه للغابات منذ صغره، فقد استجاب لنداء موجه للشباب من قبل إدارة الغابات بوزارة الزراعة، من أجل الخدمة في حراسة غابات الجبل الأخضر. وبعد أن أمضى دورة دراسية لمدة سنة بمركز (الحشان) بطرابلس عاد للعمل بغابات الجبل.. ولكنه في وقت لاحق بعد ذلك، إنتقل إلى العمل بوزارة الشباب والرياضة بمدينة البيضاء، إلى حين اعتقاله في أبريل 1973.

وبعد خروجه من السجن في مارس عام 1988، انتسب إلى الجامعة المفتوحة بمدينة لندن حتى تحصل على الشهادة الجامعية.

صبيحة الانقلاب:

يقول المبروك الزول، وهو يتذكر صبيحة يوم انقلاب سبتمبر:

(في تلك الأيام كنت أقيم عند شقيقي سالم ببيته بمدينة البيضاء.. ولا أدري حتى الآن لم استيقظت باكرا في ذلك اليوم.. فشاهدت من النافذة بضعة جنود ينتشرون في الشارع.. وهو أمر غير مألوف وغير عادي بطبيعة الحال.. ومن الإشارة التي يضعونها على الذراع، عرفت أنهم من كتيبة المشاة الخامسة التي تتمركز بمعسكر مدينة درنة، لأن أخي سالم من منتسبيها، قبل انتدابه ونقله للعمل بمديرية التجنيد الاجباري بالبيضاء.. فخرجت مسرعا لأستطلع جلية الأمر، حيث وجدت ضابطا برتبة رئيس (رتبة نقيب الآن).. واسمه أيضا (المبروك).. ما زلت اتذكره جيدا.. إنه (الرئيس المبروك عامر العجيلي).. وقبل أن اسأله بادرني على الفور قائلا: (عد الآن بسرعة إلى بيتكم، ولا تخرج منه نهار اليوم). ولما عدت مشيا بطبيعة الحال ـ يضيف الزول ـ صاح الضابط من ورائي غاضبا.. ثم قال بلهجة عسكرية شديدة آمرة: (هرول يا بني آدم.. هرول).. ؟!!.

تهتز كتفاه من الضحك.. وهو يقول ساخرا:

(ومن هضاك اليوم لسود.. ما زلت انهرول لعند اليوم).. !؟.

سنوات السجن:

كلنا نعلم الآن بأن خطاب القذافي بمدينة زوارة يوم 15 أبريل عام 1973، هو بداية القمع والتنكيل على نطاق واسع، ومصادرة جميع الحريات في ليبيا.. كما كان توقيته إشارة لأجهزة القمع، لكي تقوم بشن حملة اعتقالات واسعة في جميع أنحاء ليبيا، لكل صوت وطني ليبي حر وشريف.. وخاصة المثقفين والمفكرين والناشطين في المجالات السياسية وحقوق الانسان.. حيث تحولت ليبيا إلى سجن كبير، تنتهك فيه الحريات العامة والخاصة.. وتهدر فيه حقوق الإنسان وكرامته.. ؟!.

عشرات القضايا المختلفة.. وعشرات التهم الملفقة، زج بأصحابها زورا وظلما وبهتانا في السجون والمعتقلات، في جميع مدن ليبيا من أقصاها إلى أقصاها.. ؟!. وشملت القضية التي سجن بموجبها المبروك الزول مجموعة من خيرة شباب ليبيا بالجبل الأخضر.. من مدن درنة وشحات وسوسة والبيضاء، وكذلك من مدينة بنغازي كالدكتور محمد المفتي، والشاعر محمد الشلطامي، وعبد الجليل الزاهي، وعمر المختار الوافي، ومحمد أبو سريرة، ومحمد حسن المنفي، وأحمد الشيخ، وفتح الله المقصبي، وعبد العاطي خنفر وشقيقه عبد الغني خنفر، وفرج محمد الصالح، ورجب الهنيد.. وغيرهم.

(أنظر الرابط التالي):

http://www.libya-watanona.com/adab/amelhasi/ah18087a.htm

وخلال خمسة عشر عاما قضاها الزول بالسجن.. تنقل خلالها عدة مرات مع رفاقه، بين سجن الكويفية ببنغازي، وسجن الحصان الأسود بطرابلس.. إلى أن استقروا بعد عام 1980 في سجن الحصان الأسود.. وحين قرر القذافي بعد ذلك، تهديم سجن الحصان الأسود، من أجل التنصل من آثار جرائمه البشعة التي ارتكبها داخله، وكذلك التخلص من سمعته السيئة في الداخل والخارج.. وخاصة لدى منظمات حقوق الإنسان الدولية.. ؟!.. حين قرر القذافي ذلك، بعد بناء سجن بوسليم الذي تم نقلهم إليه في السنتين الأخيرتين، قبل الافراج عنهم في مارس عام 1988.

حكم الإعدام وتأجيل التنفيذ:

في بداية عام 1977، أصدرت ما كانت تسمى بمحكمة الشعب بطرابلس، برئاسة العقيد أحمد محمود الزويّ، حكمها بالاعدام شنقا على المبروك عبد المولى الزول وعبد الغني عبد الله خنفر، وبأحكام أخرى مختلفة أغلبها بحكم المؤبد في نفس القضية. وكان من المقرر أن يتم تنفيذ حكم الإعدام في المبروك الزول بمدينة شحات في نفس يوم 7 أبريل عام 1977، حيث سيتم تنفيذ حكم الاعدام كذلك في عبد الغني عبد الله خنفر بمدينة البيضاء.(3)

أما بمدينة بنغازي، فقد كان من المقرر أن يتم تنفيذ حكم الإعدام شنقا في خمسة أشخاص في ذلك اليوم.. والخمسة هم: عمر المخزومي والعامل المصري، وقد تم تنفيذ حكم الاعدام فيهما بميناء بنغازي، ثم محمد الطيب ين سعود و عمر دبّوب، وقد تم تنفيذ حكم الإعدام فيهما بميدان الكنيسة، أو ما كان يسمى بمقر الإتحاد الاشتراكي بمدينة بنغازي، وكذلك عبد السلام الحشاني الذي انقذته السيارة التي كانت تقله من سجن الحصان الأسود بطرابلس إلى سجن الكويفية ببنغازي، حيث يتواجد الأربعة الآخرون فينضم إليهم. ولكن السيارة تعطلت في الطريق، وتطلب اصلاحها وقتا طويلا، بحيث لم تصل إلى بنغازي إلا صباح اليوم التالي 8 أبريل وكان الوقت قد فات، وتم تأجيل تنفيذ الحكم إلى أجل غير مسمى.(4)

ولا أدري حتى الآن، السبب الحقيقي وراء تأجيل تنفيذ حكم الإعدام في عبد الغني خنفر بمدينة البيضاء في ذلك اليوم، اللهم إلا وضعه والزول في سلة واحدة، باعتبارهما في قضية واحدة، وتهمة واحدة.

أما فيما يتعلق بعدم تنفيذ حكم الإعدام في المبروك الزول، فقد ذهبت وإياه بعد خروجنا من السجن في مارس عام 1988، وكان معنا صديق وقريب لنا هو الأخ ابراهيم محمد المرتضي (بوجبيده) إذا لم تخني ذاكرتي.. وهو الذي حملنا بسيارته، ووقف بنا في نفس المكان الذي نصبت فيه أعواد المشنقة، بالجهة الشرقية بمدينة شحات (شحات الشرقية)، وحدثنا الأخ ابراهيم تفصيلا عن حالة التوتر والاحتقان والغليان التي أصابت المدينة، وعن عزم البعض على المجازفة بأرواحهم، وعن قولهم بأنه لمن العار أن يعدم واحد منا أمامنا ونحن نتفرج عليه.. وخص بالذكر المرحوم سعد ابراهيم المخرّم زوج أخته (حليمة)، الذي كان يقسم بالله العظيم علنا بأنه “لن يعدم المبروك وفيّ نفس يتردد”.. !؟. ثم قال ابراهيم للمبروك: (لو تم نتفيذ الحكم فيك يا مبروك في ذلك اليوم، لحصلت مجزرة رهيبة في هذا المكان).. !؟ ثم أضاف ابراهيم قائلا: (اعتقد أن المخابرات الذين كانوا يجوبون بسياراتهم شوارع المدينة، قد نقلوا للقذافي حقيقة اجواء التوتر أو التأزم الذي كان يسود مدينة شحات، فقرر تأجيل نتفيذ حكم الإعدام إلى وقت آخر.. لأنهم في مساء نفس اليوم، أزالوا المشنقة من مكانها، فيما اختفت سيارات المخابرات من الشوارع).. !؟.

يتبع/ الحلقة الثانية

أثينا: في 23 يونيو 2012

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ الشهيد خالد الناجي خنفر من مدينة البيضاء، وهو طالب بكلية الآداب. أما رقية فوزي المبروك، فهي من مدينة شحات، ولم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها.

2ـ هذه الصورة وما يتبعها من أسماء أخذت من الموقع الخاص على الفيس بوك، للدكتور فضل علي محمد الجعفري. والدكتور فضل على محمد من اصدقاء الشاعر المبروك الزول، وكذلك فرج محمد الصالح، وقد سجن ثلاثتهم في حملة اعتقالات أبريل عام 1973 بعد خطاب زوارة. والدكتور فضل هو الذي أمدني مشكورا بقصيدة (العيد) في مايو من العام الماضي بمدينة أثينا.

3ـ إن أول شهيد في الثورة الليبية: خالد الناجي خنفر، هو (إبن) إبن عم عبد الغني خنفر.. وقد استشهد بمدينة البيضاء يوم 16 فبراير 2011.. كما أن الشهيد: عبد الله فرج عبد الله خنفر، هو إبن أخ عبد الغني خنفر، وقد استشهد في جبهة سرت يوم 4 أكتوبر عام 2011. ولهذا.. فإن عائلة خنفر بمدينة البيضاء والغريقة، تستحق بجدارة لقب (عائلة الشهداء).

4ـ يوم 2 أبريل عام 1977 تم إعدام حوالى 40 ضابطا من ضباط الجيش بمعسكراتهم في معظم الثكنات والمدن الليبية.

مقالات ذات علاقة

حدث في مثل هذا اليوم: رحيل عبدالسلام المسماري

محمد عقيلة العمامي

الشيخ الزاوي والدكتور الطناحي

المشرف العام

منسيون 2/1

سالم الكبتي

تعليق واحد

خالد الزول 27 يونيو, 2012 at 22:13

رحمة الله عليه … واشكرك جدا سيدى على هذه اللفته الكريمه ..

رد

اترك تعليق