أدغار ألن بو يرى أن تبدأ القصيدة بقوة النغم اللغوي أو الطاقة الصوتيةِ السابقة على المعنى.
قيس مجيد المولى
إلى أي حدث يشير الشعر…؟
هل هو تخيل بالتفاصيل واستدراج قوة موصلاتها البعض بالبعض لاستفزاز الكامن من العلاقات الكثيرة التي تشكلها تلك التفاصيل، أم تصويرها بأبعاد جديدة تتخطى صفاتها وأغراضها …؟
مايراه أدغار ألن بو أن تبدأ القصيدة بقوة النغم اللغوي أو الطاقة الصوتيةِ السابقة على المعنى، وكذلك يرى الشاعر الألماني جوتغريد بن أن القصيدة منجزة قبل البدء بها،
وهو يعني أن الخلق متكون أصلا ومزدحم بالصور الشعرية المرتبة وكل شيء جاهز وما على الشاعر سوى التلاعب أو تحريك المشاهد من هنا إلى هناك.
الشعر لا يشير الى حد معلوم
إن المضمون حين يقع في اللاوعي هو سلسلة من اليومي والماضي المتكرر عند مشاهدة أي مؤثر ما في الحاضر، كما أن الشعر يسير لتحطيم الموضوعات التقليدية للوصول إلى جوهر الشعر، ويحفل التكرار، تكرار اللفظ، تكرار المعنى، تكرار الصورة الشعرية، إلى تأثير الخلق السحري وما تعنيه إدامة الطَرق على مشهد ما بتكثيف جديد لمشهد جديد يخرج من يد الشاعر على الفور، ما أن يحل مشهد غيره، إن الشعر لا يشير إلى حد معلوم، وهو يشير إلى الشعر نفسه مهما احتوى من الألغاز والرموز، لأننا أما نفهم شيء أو لانفهم إلى الأبد.
ملء المساحات الشاغرة
الشعر قائم في عالم الواقع بدرجات، وقائم في عالم اللاواقع بأبعد من تلك الدرجات، وهو شيء غير مصرح به لقوته التداخلية وعدم استقراره، فليس بالإمكان الإمساك به خارج لحظته وضمن مناخه، ولن يكون هناك أي تفهم له إلا بالرغبة والتركيز الشديد
والتأمل الشمولي للقصد وما بعد القصد.
أي تأسيس آخر يتقدم به المتلقي إزاء ما تم تأسيسه شعريا ضمن طاقة عقلية تنميها التجربة وتعويض نفسي لملء المساحات الشاغرة التي تنتظر شيئا ما لتشعر بالقبول ومن ثم الانحناء والتقدير.
إن الشعر معجزة تتحقق وإيماء للكون بتجديد إقامة البشر عليه وليس هناك شيء حاد فيه أو لين حد الميوعة وهو تخبط في نور اللاشعور ووفق هذا لن يكون الشاعر وسيطا لنقل أي من الرؤى، إنما هو الباعث والخالق والمجدد والمعبر عن الشعور الخفي والمزهو بالجنون للوصول للمفاجئ تحت وهج العاطفة الفعالة في تقلبها وتضادها الحاد، وصلتها الخفية بالأفكار المطلسمة التي ترى أن لا طائل من فهم المصير. ومن هنا يتجدد الشعر بتجديد لغته.
اللغة تقدم بدائل سريعة ومناسبة
هل تكتفي اللغة بالإشارة لتسمية الأشياء فقط وسد احتاجاتها بما تشكله من المعاني، أم تذهب أبعد من هذه الوظيفة؟ في اللغة مفاتيح عديدة قادرة على فتح الأبواب التي يشعر بها الشاعر بالإسترخاء بعد أن تحاط مخيلته بالأمان التام، وهي تقدم – أي اللغة – مساحات فضلى من المناخات المتشبعة بالحيوية التي تفتح المجال للخاص والساخر بتأثير تلك التناغمية التي تمتلكها الكلمات وما تمتلكه من فيض عاطفي في استخدام الشاعر لأغراضه المتنوعة عبر وحداتها المتكاملة وما تملكه من الخاصية المميزة (charactistic) التي تمنح للكاتب أسلوبه الخاص به أي هويته الشخصية وفيها من قوة التناقض الباطني والتناقض الظاهري – المفارقة (paradox) ما يجعلها تقدم البدائل المناسبة والسريعة.
عبقرية اللغة ومزاجها
إن البحث عن الحلول أو بالأحرى متطلبات الانتقال من المثير إلى الأكثر إثارة حينما تهيء له أكثر من حاسة للوصول إلى متطلبات الوصول إلى المطلق (absolute) في النزعة الجمالية (aestheticism) وهو إحتفاء للشاعر بعبقرية اللغة ومزاجها المفعم تارة بالرضا وتارة بالهستيريا لتقديم صورها عبر قفزاتها الرشيقة بين الأشياء إذ ذاك لا تكتفي بما تعطية وما تقدمه من تأثيرات في مكان النص وزمانه وما تقدمه في ذاكرتها الجمعية واقتران قاموسها بطبيعتها التحولية كي تتخطى الجمود وتفلت من القولبة.
لغة الشعر لا تخضع لهوية نهائية
لعلَ مفهوم الحداثة (modernity) هنا إستعدادها لقبول خلق لغة من لغتها وإدامة إنفتاحها على الأشياء غير المرئية حين يفيض الخيال بمتحسساتها فيمتزج العادي بغير العادي بقوة الظاهرة التماسكية فيها ذات الدلالات الصوتية حيث يصف شوبنهور ذلك بقوله “إن اللغة تشكل ترابط ذات البعض مع البعض” أي أنها لا تكتفي بالإشارة عبر تسمية الأشياء بل ترتبط بقدرات البناء الداخلي للكلمات ليتم بناء ما يتم احتياجه من مشاهد ينتظم فيها السحر وإصالة التعبير.
إن لغة الشعر لا تتوقف عند حدود معلومة، ولا تخضع لهوية نهائية مادامت مستكملات هذه اللغة لا يمكن القبض عليها في الحاضر لأنها تأتي من بعد مستقبلي يرفدها بعميلة الإدامة والتطور للإعادة المستمرة لعملية بنائها دون فقدانها ما تؤسس عليه من الكثير من مداخلها في التفسير والتنغيم والحدس والسخرية كون المهمات المناطة بها ليست من المهمات التقليدية لأن مهماتها تتصل بالوجدان البشري وبالكثير من متطلبات الحياة الروحية، فهي لغة إلهام ولغة متعة ولغة كشف واستدلال ولغة مغايرة ولغة العين العميقة وكثيرة في طياتها مباحثها المعرفية الجمالية ورسائلها الشعرية.
الزمني واللازمني للمخيلة المطلقة
إن جنوح الفكرة إلى مدى غير مقرب لرؤية النموذج المختار يُقوّم التشكيل الأولي بالتوالد عبر عمليات إخصابية تصهر بها المتصلب من المشاهد والذي قد ترسب أثناء عملية الخلق ما بين الجمل الشعرية المقبولة حيث يعتمد النظام الخاص للمقايسات ما بين المتعدد الناتج والأحادي الذي كونه بأحاديته حالة تقتضيها صورا ما أو عبارات ما، وهذا الظهور الأحادي ليس بذي تأثير ضمن عمليات التجديد التي تصاحب قفزات المنتج هنا وهناك وعدم ديمومة الوحدات الثابتة التي هُيأت كي تكون الأساس في بناء المحتوى العام وطرائق التأسيس والتميز وكذلك التعامل مع مفهوم إسترداد الزمن بوصف برغسون.
إن هذا التوالد في تقبل الحركة واللازمني مع وجود قدرة تدفقية لمخيلة مطلقة لا تتحد إلا مع المطلق ولا ترى صورها إلا عبر الأبعاد الأثيرية تؤدي الغرض النافع في تهيئة الفضاء الشعري الذي لا يغلق، ويمنح الشعر الرؤية الغيبية التي بواسطتها تصبح الأشياء غير منظورة سابقا وغير مكررة ومعادة وتزداد أنشطتها بمضاعفة مدلولاتها والتي تهيء هذه المدلولات قدرا من فرص التلاعب فيما تؤشره الفرصة أو اللحظة الخالدة من أهمية للموضوعات التي تظهر وحدة في تماسكها وتقدم خيالا متحققا عبر تجربة خاصة:
لا تزال ترف نحو البحر
الأشرعة البيضاء
والقلب الضائع تدركه البهجة
في الأصوات الليلكية الضائعة
الروح تسرع لتثور
لتسترد
صرخة السمان
والسقساق المدوم
والعين العمياء
تخلق الأشكال الخاوية
بين البوابات العاجية
والرائحة تجدد
الطعم المالح
في الأرض الرملية
مصيدة الوعي
نجد أن ليس هناك حدودا قصوى تقف عندها العاطفة وليس هناك نداء داخلي لا يسمع، والعاطفة الأصيلة تتمتع بمتطلبات الإحساس بالتعبير وهي تقدم لهذا الإحساس مستلزمات العملية الشعرية دون إغفال للجوانب الأخرى من متممات تلك العملية الشعرية، ولا يتم البحث عن حالات للتوازن كي يكون المنتج مغريا فالتوازن أحيانا يعبر عن رغبة العقل لتسيد الأفعال العاطفية وتكوين نقلات إدراكية داخل الفيض الشعري بتدبير قوى التركيز العقلي وإيقاع الخيال بمصيدة الوعي باستخدام لغة معينة ما. إن تراكم القدرات المعرفية لا يعني كسر زجاج الخيال الشفاف لأن قوانين المعرفة ونمطياتها تقع خارج الخيال والخيال المنتج لا يوصف بالنمطيات والقوانين لأنه عاطفة غيبية وقدراته التحسسية قدرات إكتشافية تكون اللحظة فيها كافية لإكتشاف عالم بأسره.
المران النافع لقبول المجهول
ترمز المخيلة عندما تبدأ بتصور المشاهد ثم خلقها إلى كشف مناطق الإرتباط وخاصة حين تقترب من أحداث متماثلة وبالتالي فإن أي تكرار من قبل المخيلة لتلك المشاهد ينشأ عنه إستلام صور مقربة للشيء المكرر أو بالأحرى الذي يقع عليه التكرار، وهنا نعني بالتكرار هو تأثير مشهد ما على المخيلة الشعرية يرغمها لعمل إجراءات معينة على هذا المشهد ضمن مفهوم مبدأ الإرتباط ولا يشكل إرتباطات متصلة ومتتالية بل هي إرتباطات مجزأة بفعل تأثير الشعور وكذلك الطريقة التي يتم التفكير بها وكذا نوع المصادر التي توحي لنا بما يثير الإستعداد لقبول المجهول، وهو أشبه بالمران النافع لعملية الإستبطان، أي أن المخيلة أحياناً تتشكل من مجاميع من الصور المتقاربة المتباعدة في الوضوح، وهي ضمن هذا الوصف تبدو سلبية للوهلة الأولى وتكون إيجابية حال ظهور المنبه الملازم الذي يكشف عن توافق ما بين لحظة القبول ولحظة التكيف التي تحدثها الإنعكاسات النفسية والمعرفية والأسطورية بعد فترة من الإنطفاء، وهذا الإنطفاء يكون انطفاءً مؤقتاً أثناء عملية الخلق الشعري لأسباب متنوعة من بينها عدم القناعة بما يصل إليه الشاعر أثناء كتابة النص أو الإصرار على البقاء في حيز واحد لإنتاج فكرة مركزية واحدة أو محاولة التخلص من مشهد دخيل وعدم القدرة على إحلال بديل عنه.
الهروب من المألوف من الذاكرة الموروثة
تساهم البعض من الملكات العقلية كالذاكرة مثلا في إستجلاء الماضي وتقديمه بخصائص جديدة بفعل التشويش المستمر للصور الذهنية وكذا ضروب الفرضيات التي تشترك بها أجزاء من العقل لتقديم نوع من الإسناد للذاكرة لإعطائها مساحة أوسع في عملية التذكر وهو ما يعني الدخول للأشياء المبهمة ورؤيا المناطق الأكثف إبهاما، أي إختيار نقطة ما للإستدلال على شكل ذلك الإبهام ونوعه وهذا لا ينطبق على الصور فقط، وإنما ينطبق أيضا على شعور المخيلة بالأصوات والألوان وهو أيضا بمثابة المران الذي يمكن بواسطته التدليل على شيء من خلال الصوت المناسب له بدلا من الصوت المعرّف به وتجسيد هذا الشيء في معنىً ما أو نغمة أو لون وتلك العمليات عمليات مشابهه لما تقوم به حواس الإنسان، وهو كما ذكرنا ينطبق على المخيلة إن إعتبرنا أن لكل شيء مستلماته لتشخيص الأشياء والقبض عليها من قبل وظائف الحواس بالرغم من وجود (في الشعر خاصة) أشياء غير مطابقة للخصائص التي نتحسسها في الحياة ناهيك أن الأشكال تخضع لحالة من التحولات (المغلق – المفتوح – المتناظر – المتعاكس – الدائري …) ولكن هذه الأشكال تخضع لبيانات جديدة تصهرها بأشكال جديدة بحيث تعطي أبعادا غير منظورة وقابلة في نفس الوقت على التحلل والإحلال وخلق النظام الغامض الذي يشكل مدخلا للهروب من الواقع والمألوف المستبد في الذاكرة الموروثة لتبدو بعد ذلك تلك الأشكال أشكالا منسقة.
والشكل المنسق هنا لا يعني وضوح هيكله المكون من المفردات والأصوات وإنما وضوح قدراته التنسيقية مع ما يختاره الشاعر من مؤثراته العاطفية وينسجم إنسجاما كليا ومفيدا مع تلك الأشكال التي تعني المواد الأولية التي يختارها الشاعر أو بالأصح تختارها المخيلة والتي تعمل بالضد لا على وحدة بعينها وإنما العمل بمفهوم الإنتباه الموزع والذي يعبر في أحايين كثيرة كونه ضربا من ضروب النشاط المصاحب لقدرة المخيلة على تفكيك اتجاهاتها لتتمكن من التحول السريع بين المشاهد بعيدا عن بؤرة الإنتباه المركزية، وتبدو عملية التداخل وهي عملية يقدرها الشاعر على أنها خيط ما بين الصور العقلية وحاسة معينة أو هي ربط لأفكار بحاسة ما وأكثر الأشياء التي تقع ضمن هذه العملية التصور اللوني والتصور العددي وتصور المتتاليات والمتشابهات، ولكن أهم تلك التصورات هي تلك التي تقع خارج تصور العقل وأهميتها تكمن في أنها صور متنقلة تختفي وأحيانا تمحى ولكنها تعاد تلقائيا بتأثير ما وبقدرة جديدة وبتصور فعال ورموز مجسمة وهو ما يعطي لعملية التخيل طريقا آخر للوصول إلى مراكز اللاشعور للوصول للأشياء الدفينة والتي لا يعيها غير وجدان الشاعر ورغبته بالسمو في عالمه.