صفاء يونس
كُنت في مقتَبل العمر عشريني، مرح وصاحب ابتسامة جميلة، تغزو ملامحي الحياء، هكذا كانت تقول جدتي وإنني من أصل طيب كجدور جدي، كانت تحبه كثيراً ولأني أحمل عيناه فأنا حفيدها المدلل، أتخذ الحياة ليس بجدية تامة، ولكن مثابر في دراستي ومجال عملي أحاول دائما إثبات ذاتي..
حدث وإن وقعت في شباك الحب مرة، ولم تنجح، مرت الاعوام وخلالها استجمعت شتاتي وحاولت ترميم نفسى ونفض غبار الماضي، أكملت دراستي، تخرجت من جامعة طرابلس قاطع ب تحديدا كلية الاقتصاد قسم إدارة الاعمال وغادرت أرض الوطن، فراق أمي لم يكن سهلاً والغربة أقسى منه، اتجهت إلى التجارة بعد عدة سنوات قررتُ العودة إلى الوطن، حطت بي الطائرة في مطار معيتيقة في قلب العاصمة، رايفت على البلاد واجد على قولة أمي لأنها من شرق ليبيا، لكنة الشرق تختلف عن الغرب قليلا، لم أخبر أحد بقدومي غير صديقي أحمد، وجدته أمامي ينتظر “بالاحضان يا أبو رفيق استاحشناك” وصغارك على نار يراجو (الانتظار)
كانت مفاجأة كبيرة لإخوتي ووالدتي بعد هذا الغياب اشتقت إلى أكل أمي البازين والكسكسي وعصبان العيد والعصيدة في أيام المطر وشربة شهر رمضان وخبز التنور في الصقع (برد الشتاء)
قمت بفتحِ سلسلة مطاعم ومتاجر خاصة بي كما كنت أحلم ولم أتوقف يوماً عن فعل الخير. كان والدى رجل مقتدر، أوصاني قبل وفاته إنه مهما كثُرَ الرزق وتصدقت سيكون رزقِ مبارك، وكانت آخر كلماته لا تقطع الصدقات بعد وفاتي لا تترك العائلات التي أطرق بابها تنتظر، دعتني إحدى الجمعيات لحضور حفل وكنت أهتم بالحضور اعتلت مقدمة الحفل المسرح وقالت:
يقال إنه الأب الروحي لأبناء هذه الجمعيات لم ينقطع يوماً عن زيارة الأيتام لم يترك المكفوف في الظلام ولا المعاقين عاجزين حاولا جاهداً مساعدة الجميع حتى عند سفره وانشغاله كان يتحدث معهم يومياً ويرسل هداياهم حامي العرين والقلب الرحيم البطل الخفي لم يتركنا يوماً نعبر عن الشكر والامتنان له احتراما لرغبته في أن يكون صاحب الظل الطويل.
السيد: ليث منصور.
تأثرت جداً بكلماتهم وتفاجأت بأنها فرع جديد للجمعية التي اعتادت التعامل معها فاليوم الاحتفال السنوي لذكرى تأسيس الجمعية الأم.
التقيت بها هنا لأول مرة
مرحبا سيد ليث أنا “رنَس” متطوعة مع الجمعيات أزور الأطفال دائماً وأسمع عنكَ كثيراً بارك الله لك في كل مجهوداتك الأطفال يعشقونك ينادونك بابا ليث كنت أتشوق لرؤيتك تشرفت بك إنك مِن رجال الله في الأرض من يزرعون الخير في كل مكان بعد إذنك الفقرة ستبدأ وغادرت لم أنبس بحرف وظلت عيناي ترمُقها طوال الوقت حتى غدرنا المكان.
كان يوم الجمعة من كل أسبوع وصلت كعادتي باكراً للإفطار مع أطفال الميتم الذي يقع في شارع أبو هريدة في وسط العاصمة فوراً دخولي رأيت”رنَس” تجهز طاولة الأكل انتبهت لوجودي وهمّت بالقول سلام الله عليك صباح الخير “سيد ليث “
– وعليكِ السلام “سيدة رنَس” صباح الورد الجوري
ابتسمت وقالت تستطيع مناداتي “رنس” فقط لا أحبذ الألقاب
– حسناً وأنا “ليث” فقط
– إذن اتفقنا غريب أنني لم أراكِ هنا من قبل
– نعم أتيت بعد مغادرتكَ الوطن كنت أقيم في الخارج
– أعشق الأطفال وأحاول زرع الابتسامة على وجوه الأيتام والمرضى منهم
– بابا ليث بابا ليث
– ها قد جاء أطفالك
– استاحشتكم هلبا.. أخبروني ما الذي حدث في غيابي أتدرسون جيداً؟ أهناك ما يزعجكم؟ أين جوجو يا أولاد؟
– أنا هنا بابا ليث كنت أجلب لك قهوتك المفضلة اشتقت لك كثيراً
– أنا ايضا يا صغيرتي
كانت جوجو كثيراً الجلبة وقصقاصة (فضولية) تحب معرفة كل ما يدور حولها تريد أن تصبح صحافية في المستقبل.
– بالمناسبة من هى “رنس”؟
– إنها معلمة جديدة تأتي لزيارتنا دائما وتعلب معنا وتعلمنا الكثير من الاشياء
– أتحبونها؟
– نعم كثيراً
كنت أراقبها خلال اليوم تتعامل بحب معهم وتتصرف بعفوية تعلمهم تلاوة القرآن، تشيح بالجمال والبساطة شعرت بخيط وثيق يربطنا.
– رنس أعددت بعض القهوة.. تفضلي
– شكراً ليث.. جاءت في وقتها
– لديكِ وقت لنتحدث
– أكيد.. فنحن الان أصدقاء أليس كذلك
– نعم.. إذا حدثيني عنكِ قليلا
– أنا فتاة عادية من عائلة بسيطة خريجة كلية السياحة موظفة في السرايا الحمراء، أحلم بدراسة الترميم في إيطاليا أحب الأثار جداً.. أتعلم ليبيا لديها أجمل المعالم الاثرية في العالم.. أحب التصوير هذه فيلا سيلين أتعرفها تتبع بلدية الخمس، وهذه أثار لبدة المسرح الروماني والرسومات الاغريقية، وهذه صور أطفال الدار عند قوس ماركوس بالمدينة القديمة، أخدت إذن من الدار وقمنا بجوله في المدينة القديمة حيث الكنيسة وبرج الساعة وسوق القزدارة وبحيرة السرايا وميدان الشهداء كانَ يوماً أكثر من رائع.. أوووف أعتذر أنا كثيرة الكلام
– لا تقولى ذلك حديثك لطيف لنا لقاء.. سأغادر أذان العصر قريب ولدى عمل
– حسناً أراكَ قريباً
تكررت اللقاءات في كل الأماكن كانت سباقه للخير .. أذكر أنه كان يوم عيد الأم جهزتُ الهدايا وتوجهت لزيارة الأمهات في دار الوفاء للمسنين في حي غوط الشعال وعند وصولي وجدتها أمامِي توزع الهدايا وتغني لهم وقامت بتجهيز جلستنا الشعبية وتحضير العالة.. تحتوى على أباريق لتجهيز الشاي وكوب معدني لتحضير الشاهي بالكشكوشه وقامت بتحضير أول طاسة (كوب) وقالت:
– ألا تريد تذوق السفنز والكعك.
ابتسمت.. وقلت:
– سلمت يداكِ
أصبحت تظهر لي أينما ذهبت تكررت اللقاءات والأحاديث بيننا.
– ليث غداً ذكرى لقاءنا الأول.. أنا سعيدة برفيق مثلك يشاركني في كل ما أحب يجب أن تكون أول الحضور سنقوم بالتجهيزات معاً.
– أممم أخشى ألا أستطيع الحضور.. لدي اجتماع عاجل لكن لا تقلقِي كل شيء سيكون على ما يرام وسنعمل على تجهيز الحفل بالكامل
– ليث سأفتقدك ولكن عملك أهم
سطعّت شمس يومٍ جديد وبدأت مراسم الاحتفال كانت حديقة كبيرة خضراء منسقة بأزهار الليلك والتوليب والجوري طاولات بمفارش زرقاء كراسي ذهبية اللون وبوفي الضيافة متكامل منصة المسرح كبيرة أمامها سجادة حمراء وممر ملكي كالمهرجانات افتتحت “رنس” كعادتها الحفل والتكريمات وبدأت بمشاركة الأطفال في الألعاب والمسرحيات وجميع النشاطات.. وفجأة استمعت إلى صوت ليس بغريب يقول:
– لطيفة هادئة ودودة حالمة.. تعشق أحباب الرحمن قلبها ليس له شبيه تبتسم بحياء مربك نظراتها تمحو كل بعثرات الماضي يا نبض الفؤاد أنا اليوم أعترف لكِ بشعوري منذ أن رأيتك شعرت بأنه مقدر لنا أن نكون معاً إن الحب ما وقرَ في القلب وأبى الخروج إلا في كنفِ الله
جمعنا القدر منذ عام في هذا المكان يا “رنس” أتقبلين أن تكوني زوجتي على سنة الله ورسوله أنتظر ردك أمام أطفالنا وعائلتنا وكل أحباء الخير
كانت تقف والاحمرار يعلو وجنتيها اغرورقت عيناها بالدموع واعتلت المسرح وقالت:
– تاهت الحروف وأنا التي اعتدت جمعها.. لن أجد أفضل منك ليكون والد لأبنائي وشريك بيتي،
أنت تقول بأني ودوده وأنت رحيم والله يقول: وجعلنا بينكم مودة ورحمة.