كتاب ن النسوية
طيوب عربية

هل النساء يملكن حرية الاختيار؟

MEO


أكدت د. هبة شريف أستاذة الأدب المقارن والأدب الناطق بالألمانية أن كتابها “ن النسوية” الصادر أخيرا عن دار العربي للنشر يأتي في إطار نقاشها لأفكار التحرر النسوي في العصر الحالي استنادًا إلى كتب مهمة في مجال الحركة النسوية بطريقة تشرح الأفكار عن طريق أمثلة من المنتجات الثقافية الجماهيرية. 

كتاب ن النسوية
كتاب ن النسوية

ومن جانب آخر فهو اجتهاد في مناقشة فرضيات التحرر النسوي والكشف عن مدى الاستغلال الذي تعرضت له هذه الحركات من قبل النظام الرأسمالي حتى تحولت إلى نقيض التحرر. كما أنه يبحث في مدى صدق هذه الأفكار في المجتمعات خارج المركز الأوروبي مع التركيز على المجتمع المصري ومنتجاته الثقافية.

وقالت شريف إن المناقشات حول الأدوار المتعددة للمرأة واختياراتها كانت كثيرًا ما تجمعني مع نساء كثيرات. وكنا دائمًا نجد أنفسنا لا نستطيع الانحياز لأحد الاختيارات. فكل اختيار تقوم به المرأة له ما له وعليه ما عليه، مثل كل اختيار نقوم به في الحياة. وهكذا بدأت أتساءل: هل هناك فعلًا اختيارات عدة متاحة؟ وهل المرأة حرة فعلًا حرية مطلقة في أن تختار ما بين التحرر الاقتصادي والمساواة أو البقاء داخل نسق قيم تقليدي تصبح معه معتمدة على زوج أو أب أو أخ؟ وهل تحررت المرأة عندما تبنت مفاهيم وأفكار المساواة والتحرر؟ وما هي القيود التي على المرأة أن تتحرر منها؟ وعرفتُ أن إتاحة جميع الخيارات أمام الإنسان – رجلًا أم امرأة – وتهيئة كل الظروف حتى يستطيع أو تستطيع الاختيار بحرية دون ضغط من الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية هو جوهر التحرر. 

وتساءلت شريف: هل نملك نحن النساء حرية الاختيار بهذا المفهوم؟ وأضافت في كتاب “حرفة الحرية” لـ هانس بيري – أستاذ الفلسفة في جامعة برلين – المنشور عام 2001، يشرح كيف أن الحرية مشروطة بمدى قدرة الإنسان على تحقيق ما يريد. فالإرادة لها حدود يفرضها ما يسمح به الواقع. فيمكن أن نتمنى تحقيق شيء أو أشياء كثيرة، مثل أن “نغير الماضي” أو “نعيد خلق العالم على أسس مثالية”. ويمكن أن تكون رغباتنا عادية جدًا ولا تهدف إلى تغييرات كبرى، ولكنها مع ذلك تظل محدودة بأطر خارجة عن إرادتنا. فقد تكون إحدى رغباتنا مثلًا أن نسافر إلى أستراليا، ولكن أمورًا كثيرة تحجم رغبتنا في الواقع مثل الحالة المادية والقدرة على تحمل ساعات السفر الطويلة والحصول على التأشيرة. وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نخدع أنفسنا بأنه لا وجود للحدود التي تحد من اختياراتنا ومن إرادتنا أيضًا. صحيح أنه من الأهمية بمكان فهم قدرتنا على التغيير والاختيار، إلا أنه من الضروري تفهم وتوقع عدم قدرتنا على تتبع بعض الاختيارات إلى النهاية.

وأوضحت شريف: هنا يفرق هانس بيري بين الاختيارات العادية والاختيارات الجوهرية. فالاختيارات الجوهرية هي تلك التي نسأل أنفسنا معها: ما الذي أريده فعلًا؟ وهل أريد أن أسلك هذا الطريق حقًا؟ الاختيارات التي نسأل فيها أنفسنا تلك الأسئلة هي في الواقع الأسئلة الأكثر إلحاحًا في حياتنا.
وتعتقد شريف أن ما تقوم به النساء بشكل عام والنساء في منطقتنا بشكل خاص يندرج تحت هذه الاختيارات، أي “الاختيارات الجوهرية”، حيث تجد المرأة نفسها في مجتمعنا أمام اختيارات تتيحها أفكار التحرر النسوي من ناحية، وأفكار تخص العادات والتقاليد والموروث الثقافي والديني من ناحية أخرى. فيكون عليها أن تسأل نفسها بصدق: ما الذي أريده حقًا؟ وما الاختيار الذي أشعر معه بالراحة؟ تبدو هذه التساؤلات سهلة وبسيطة، ولكنها ليست هكذا أبدًا في الواقع. فالمرأة إن اختارت أفكار التحرر، ستجد أحيانًا مقاومة ورفضًا من العادات والتقاليد والعرف، وستجد نفسها تتحمل أعباء مضاعفة في حياتها لتعدد الأدوار التي تقوم بها. وإن اختارت اختيارًا متوافقًا مع الموروث الثقافي السائد، ستحمل وصم أنها ضد التحرر أو أنها “متخلفة” و”تابعة”.

ولفتت شريف إلى أن الحركة النسوية نشأت مصاحبة للمجتمعات الحديثة، وقالت: تحرر المرأة ومطالبها الخاصة بالحق في التعليم والأجر المتساوي وحق الانتخاب، تشكلت مع التحولات السياسية والاقتصادية التي تحققت في المجتمعات الحديثة. فمع ترسخ قيم الديمقراطية، بدأ الرجال أولًا في ممارسة الحقوق السياسية، ثم تبعتهم النساء في المطالبة بالحق نفسه. ومع تحول المجتمعات إلى مجتمعات رأسمالية قائمة على التصنيع والسوق الحر، ازداد الطلب على الأيدي العاملة من الرجال والنساء، خاصة مع ارتفاع مستوى المعيشة، مما ساهم في دخول أعداد متزايدة من النساء إلى سوق العمل. إلا أن الحركة النسوية أصابها ما أصاب معظم دعاوى التحرر المثالية من استغلال لأصل الدعوى. فتزايد إقبال النساء على العمل ومحاولات إثبات الذات خدم النظام الرأسمالي أكثر مما خدم النساء أنفسهن. فقد فرحت المؤسسات والشركات بزيادة عدد النساء اللاتي يرغبن في إثبات أنهن أفضل من الذكور وأكثر قدرة على التحمل، فزاد عدد طالبي الوظائف وأصبحت الشركات والمؤسسات لا تهتم كثيرًا بتوفير ظروف عمل مناسبة أو مريحة أو تقديم أجور عادلة، فالأيدي العاملة كثيرة ومتعطشة للعمل. وازدادت ظروف العمل صعوبة. فطالت ساعات العمل، وزادت المسؤوليات على العاملين والعاملات. 

ورأت شريف أن الحركة النسوية ركزت في موجتها الثانية على الحرية الجسدية والتحكم في الجسد، ولكن سرعان ما تحول هذا التحرر إلى استسلام كامل لأساطير الجمال والموضة والنحافة، مما جعل النساء خاضعات أكثر وأكثر لما كن يحاولن التحرر منه من قبل.
وفي تأملات أخيرة أوضحت شريف أن كثيرًا ما تواجه الحركة النسوية انتقادات أنها حركة متناقضة، لأنها في أحيان كثيرة، وعندما تقول إنها تحرر المرأة، فإنها تعمل – عن قصد أو عن غير قصد – على إخضاعها لنظام أكثر قسوة.

ونبهت أنه: ربما علينا أن نسأل عن أصل الاضطهاد ونحاول أن نرى أصل التمييز والاضطهاد ضد المرأة. هل يقع التمييز والاضطهاد ضد المرأة فقط؟ أم أنه يقع في الأساس ضد المختلفين عقائديًا وفكريًا وسياسيًا؟ ولماذا لا نعتبر الفقر وسوء توزيع الثروة في المجتمع أداة من أدوات قهر المرأة والرجل على حد سواء؟ فلعل الفقر وعدم العدل هما الأداة الأولى للقهر. أليس الفقر هو الذي جعل النساء عبئًا على الأب ثم الأخ اللذين يتطلعان إلى الخلاص منه وتحميله للزوج؟ ألا يحد الفقر من الاختيارات المتاحة أمام الجميع، وأمام النساء بوجه خاص؟ لا أنكر أن الواقع الذي تعيش فيه المرأة حاليًا لا ينصفها، بوصفها أضعف حلقات المجتمع. ولكن هل يكفي تحرير المرأة لتتبنى النظم السياسية والاقتصادية ممارسات أكثر عدالة؟ ألم نرَ كيف أن الأفكار المثالية قد تم استغلالها على مر التاريخ لإنتاج نموذج مضاد ومناقض لها؟ ألم نرَ كيف أن الحكام المستبدين يستغلون دعاوى تحرر المرأة لصالح تحسين صورتهم الخارجية؟ ألم تتخذ القوى الاقتصادية العالمية من المرأة نقطة انطلاق لفرض قيم اقتصادية وهياكل في صالحها في المقام الأول؟ 

وكشفت شريف في تحليلاتها التي جاءت في عشرة فصول “كيف أن النساء يواجهن بالفعل ظروفًا صعبة. وحاولت أن أشرح كيف أن أفكار التحرر النسوي قد تحول بعضها للنقيض وأصبح وسيلة لاستغلال النساء ليشاركن – في أحيان كثيرة من دون رغبة منهن – في العمل من أجل رفاهية نظام اقتصادي غير عادل. 
وقالت: حاولت أيضًا تفسير كيف أن فرض الأفكار التحررية للمرأة في بعض المجتمعات لم تكن في أصلها رغبة في رفع الظلم عن المرأة، بقدر ما كانت محاولات لإدخال الأفكار الحداثية لهذه المجتمعات عن طريق النساء بوصفهن الحاملات الأساسيات للقيم والقائمات على تربية الأجيال. وشرحت أيضًا كيف أن الحركة النسوية حتى في المجتمعات الحديثة لا تُساند جميع اختيارات المرأة، بل إن النساء في المجتمعات الحديثة لا يملكن دائمًا الحق في الاختيار – وهو جوهر التحرر – بين العمل ورعاية العائلة. فالنساء في المجتمعات الحديثة يضطررن في أحيان كثيرة إلى العمل حتى من دون رغبة منهن لإعالة أنفسهن وأسرهن؛ لأن النظام الاقتصادي السائد لا يسمح بغير ذلك. كما تطرقت إلى استغلال المجتمع الاستهلاكي لقيم التحرر النسوي لإخضاع المرأة لنوع مختلف من القهر هو قهر سباق الجمال والنحافة والموضة.

يذكر أن د. هبة شريف لها مقالات بالألمانية والعربية حول التفاعل الحضاري، والفنون المعاصرة والأدب المقارن، كما أن لها ترجمات عن الألمانية، منها “نموذج طفولة” لـ كريستا فولف عام 1999 و”محنة” لـ بيتر هاندكه عام 2000، و”عصور الأدب الألماني” الصادر عن عالم المعرفة بالكويت. كما صدر لها عام 2015 كتاب “الكارو والمرسيدس.. حداثة لم تكتمل” عن دار سلامة للنشر 2015، والذي كان بمثابة تعليق على المشهد الثقافي المعاصر بمصر ومدى تأثير الحداثة التي لم تكتمل أبدا في مصر عليه. 

مقالات ذات علاقة

فوضى في رفوف قصائدي

المشرف العام

رواية “باب الريح” المغربي عبد الإله بسكمار أو تباريح الألم وارتجاجات الذاكرة الجريحة  

المشرف العام

التوكتوك يتشوقه الزعفران

المشرف العام

اترك تعليق