أكتب الآن على الحاسوب مباشرة ، ولم أعد استعمل القلم . القلم .. هذه المفردة الرومانسية التي طالما ولجت قصائد الشعر كأداة للحلم أو الرفض أو المقاومة، مفردة شعرية طالما أشهرها الكتاب في وجه المسدس ، وطالما جعلوها مرادفة للقلب أو الروح أو العقل، أو أيقونة للمعرفة .. يضيع القلم من بين أصابعنا ونحن جالسون أمام هذه الماكينة الذكية ، صار للكتابة صوتاً ونقراً ، وصارت الكلمات التي كنا نرسمها في خيالنا ماثلة على الشاشة أمامنا ، وصارت الحروف التي كنا نستدعيها من رؤوسنا مرتبة على أزرار ، حيث عليك أن ترى الحرف قبل أن تكتبه، وحين تضغط زره سيمر بشرائح إلكترونية غاية في التعقيد قبل أن يظهر أمامك ، لم تعد القصائد التي أكتبها تمر من الرأس عبر الذراع إلى القلم لتحبو على الورق الأبيض ، صرت أكتب القصيدة بيدين وعشر أصابع ، الشكل مغر وجذاب وساحر لكن ثمة شيء ينزف لا أعرفه ، شيء يتوارى خلف هذه المواجهة مع كلماتي وهي تظهر على ضوء الشاشة أمامي ، اختفت التشطيبات وهوامش التنقيح على النص التي كان يستفيد منها النقاد ، واختفت المسودات الممزقة أو المجعدة تحت المكتب وفي سلة المهملات ، ثمة جسد جديد يتشكل أمامي ، وبراح للتصحيح والتنقيح لا يترك أي أثر على هذا الجسد ، وغدا المصحح اللغوي مناغما لي عبر تلك الخطوط الحمراء والخضراء التي تظهر تحت الكلمات ، مصحح تقليدي وصارم لا يعطيك فرصة حتى لنحت كلمة جديدة أو تجاوز قاعدة قديمة، ولا يملك أي تسامح مع استخدامي لمفردة عامية داخل النص ، إنه مصحح يعطيك في النهاية خيارات بشكل يحد من ديكتاتوريته ، إما الكلمات المقترحة ، أو إضافة إلى القاموس، أو تجاهل الكل، وهو الخيار الذي كثيراً ما أفعله ، أليس على الكاتب لحظة الكتابة أن “يتجاهل الكل” كي يفتح أفقاً واسعاً لنصه وللحظته الشعرية ولسرد تجربته كما هي؟ سأحاول أن أغزو بهذا التجاهل كل التابوهات والخيارات المحددة، سألم فيما بعد شظايا نصي وأختار له الخط المناسب والحجم المناسب والهوامش المقترحة ، وسأخزنه في ذاكرة معدنية تجعلني استدعيه في أية لحظة بضغطة على زر ، تخلصت من البحث في جيوبي وفي الأدراج عن المسودة التي من الممكن أيضاً أن تذهب ضمن طقوس ترتيب البيت إلى القمامة ، تخلصت من تراكم الورق في أرشيفي ، وأصبح من الممكن أن أحمل كل ما كتبته في جهاز بحجم القداحة وأذهب به حيث شئت ، كل ذلك ساحر وخلاب وعملي ، لكن ثمة شيء ناقص ومقلق لا أعرفه ، هل هي رائحة الورق المهمل أمام انسياب الحبر في خطوط يدوية تزيد من خصوصية النص وتمنحه هوية ، بالضبط مثلما يحدث الآن لرسائل العشاق على النقال والتي فضلاً عن اختصارها الشديد ستذهب إلى عيني الحبيبة بمجرد الانتهاء منها دون عطر ودون أن تتضرج بتبغ الجيب ، ومن الممكن أن تحذفها بعد قراءتها مباشرة دون أن تترك أي أثر ، كانت الرسائل في أسوأ الأحوال تحرق فينتشر دخانها في الهواء ويظل رمادها في مكان ما ، كانت المادة لا تفنى ولا تخلق من عدم ، والآن هي تخلق من عدم وتفنى ، شيء ما مربك في كل هذا ، الحب الإلكتروني المنتشر على الشاشات حيث من الممكن أن يكتب أحدهم لفتاة عشرين كلمة أحبك دون أن يعرفها ، وحيث من الممكن أن يعيش أحدهم مع عشيقة لأكثر من عام ثم يكتشف أنها رجل ، التقنية مجال واسع للأقنعة ، وللمشاعر التي تملأ شرائح الأجهزة دون أن تهز قلباً.
حقاً تخلصت من تراكم ورق المسودات ، لكن من الممكن أن تضيع مني قصيدة بمجرد عطل إلكتروني في خلايا التخزين وأحيانا بسبب انقطاع الكهرباء المفاجئ.
ثمة تداخل بين فضاء كلاسيكي للتواصل مع الكتب يقاوم الأفول في وجدان من يملكون ذكريات مع رائحة الكتب، وفضاء رقمي جديد مبهر يجد حظوته عند جيل تربى أمام شاشات الضوء التي بدأت ثابتة على طاولة في البيت/ لتتحول إلى نور يومض في جيوب جيل جديد، كل شيء في حوزته إلا تلك الذاكرة التي مازالت تقضي ساعات للبحث عن كتاب ورقي ضاع وسط زحام مكتبة كبيرة، وينزاح كتاب الجيب أحد اختراعات عصر متواضع في تقليص حجم أمتعتنا المعرفية أمام مكتبة الجيب التي نتنقل بها عبر مطارات العالم دون أن نضطر إلى دفع غرامة وزن أو جر حقائب خلفنا. ويظل السؤال المقلق للبعض : هل سيختفي الكتاب الورقي ؟ سؤال ربما أفضل من يجيب عليه، المفكر والأستاذ في السيميائيات، حفيد عامل المطبعة، عاشق الكتب والأسكواتش، صاحب أشهر رواية في التاريخ الحديث “اسم الوردة” التي تعتبر واحدة من أكثر الكتب تأثيرا في نهاية القرن، امبرتو إيكو، والذي سبق أن اقترح إجاباته في كتابه الشهير “لا تأملوا في التخلص من الكتب”:
“لا وجود لتكنولوجيا اغتالت سابقتها. لم تقتل الفوتوغرافيا فن الرسم، لم تقتل الطائرة القطار. إذن، أعتقد أنه بإمكاني أن أتخيل مستقبلا حيث بإمكان الناس أن يقرأوا الكتب في الأيباد I pad (اللوحة الإلكترونية). أما فيما يتعلق بالكتاب، فبقاؤه حيا يقوم على الارتباط الحسي (الجسدي). إذا وجدتم في الدور التحتي لبناياتكم كتبا كنتم قد قرأتموها عندما كان سنّكم ثمانية أعوام، ستجدون أنّها لازالت تحمل أيضا بصمات أصابعكم، وأثر الخربشات التي كنتم تقومون بها. الكتاب هو موضوع يذكركم بطفولتكم. إذا كان محمّلا على جهاز للتخزين USB فلن تكون له نفس الدّلالة. أعتقد أن الكتب ليست فقط ذات أهمية بالنسبة لمحتواها، بل كذلك بالنسبة للذاكرة بأكملها التي تحملها في داخلها. أنا هاوٍ كبير لجمع الكتب. بالنّسبة لي، الكتاب مملوء بالإخبارات: بصمات الملكية، نمط الطباعة، الورق… تعتبر هذه العناصر شكلا من الارتباط الشهواني بالكتب التي لا يمكن أن تعوّض أبدا ! على العكس من ذلك، إن طفلا صغيرا يحمل محتوى ثلاثة معاجم في اللوحة الإلكترونية I pad بدلا من حقيبته على ظهره (لتجنُّب أن يصبح أحدب مثل شخصية فكتور هوغو “الأحدب” في روايته أحدب نوتردام.”.
______________________