من مساوي الايدلوجيات ان لها سلطة على معتنقيها، كما وانها تفتح الباب على مصرعيه للتنديد بالخصوم والتبرير للموالين، فالاسلامي مثلا يعتقد انه يملك كل الحقيقة، ويبرر أخطائه على انها “اجتهاد لم يوافق الصواب” واخطاء غيره كبائر تتوجب التوبة او العقاب. ولعل من اكبر مشاكل الاسلامين في تقديري تكمن في مفهوم التمكين، فهناك خلط – في اعتقادي، وساحاول ان اكتب في هذا الامر حين تتوفر لي مادته – بين التمكين على الجغرافيا والتراب والتمكين الروحي على القلوب. فالتمكين على الجغرافيا سلطة سياسية متغيرة لا ثوابت لها، واداتها القوة المادية، لذلك سعت التيارات الاسلامية في ليبيا إلى امتلاك السلاح والاستحواد عليه منذ ثورة فبراير، ولا ننسى في هذا المقام تحريض الشيخ محمد الجهاني لشباب بنغازي في عدم الإنضمام الى الجيش الليبي ودعوتهم عدم تسليم السلاح. لا يختلف هذا النوع من التمكين عن الاستعمار، فكما يرى الاسلامين الفتوحات الاسلامية باعتبارها تحرير للعباد من سلطة العباد، يرى الغرب ان استعمارهم للشعوب البدائية التي استعمروها بقوة السلاح تطويرا لهذه الشعوب، وانتشال لها من التخلف. والنتيجة في كلا الحالتين هي الاستفادة من ريع الارض التي فتحت او استعمرت، كما عبرت عن ذلك كتب الثرات ونقل على لسان هارون الرشيد حين شاهد غيمة تمر من فوق رأسه، فنظر اليها وخاطبها قائلا لها “امطري حيث شئت فخراجك سيأتيني”.
يحضرني هنا قصة حدثت معي شخصيا، فقد كنت اجلس في المقعد الامام في باص عام في احد المدن البريطانية، وعندما توقف الباص في احد المحطات إستأذن عجوز يتحدث الانجليزية بلكنة إيطالية واضحة في الصعود الى الباص بدراجته، وحين سمح له سائق الباص بالصعود وجدته يجاهد في حمل دراجته فقمت من فوري لمساعدته وحمل الدراجة عنه. جلس الى جانبي وشكرني على حسن مساعدتي ثم سألني من اي البلاد، فاجبته اني من ليبيا فقال لي بفخر لقد ساعدنا بلادكم على النهوض وتطوير شعبكم عندما استعمرت ايطاليا ليبيا (!….). لم ينتهي الامر عند هذا الحد، فمن مفارقات القدر اني دخلت في حوار مع مواطن انجليزي في اليوم التالي، وحين عرف اني من ليبيا قال لي لقد ساعدت بلدي ليبيا في الاستقلال وذلك بتحريرها من ايطاليا عقب الحرب العالمية. طبعا بالنسبة لي (أو هكذا كنت افكر) الاستعمار والوصاية مدمومان ولا كرامة فيهما، لهذا فمنطق العجوز الايطالي والمواطن الانجليزي يختلف عن تصوري لدور بلديهما في بلدي.
المهم، الذي اود ان اذهب اليه في عابر حديثي هذا ان التمكين على الارض هو نوع من الاستعمار لا يختلف ان قام به المسلم بغرض تمكين الدين كما يعتقد، او غير المسلم بدعوى تطوير الشعوب البدائية. لكن التمكين الحقيقي هو تمكين الدين في القلوب، التمكين الروحي لدين الله في قلوب عباده، وبالتالي لا تهم الجغرافيا التي يعيش فيها من تمكن دين الله من قلبه، وقد فهم الاستعمار الغربي هذه الحقيقة فلجاء عقب حروبه وإنتصارته الى المفهوم الذي عرف بمفهوم كسب قلوب وعقول الخصوم “winning hearts and minds”.
مفهوم التمكين قضية خطيرة تحتاج الى مزيد من البحث، لكن الاسلام المؤدلج او الاسلام السياسي وضع كل بيضه في هذه القضية في سلة واحدة، الا وهي اقامة شرع الله على الارض كما تصوره له ادبياته، بغض النظر :هل هذه الفكرة قابلة للتطبيق ومقبولة؟، اما انها ستواجه تحدياث واسئلة تحتاج لاجابات دون اللجو الى حدة السيف وفوهات البنادق ونيران المدافع؟، كما يحدث الان في ليبيا عندما انقلب الاسلاميين على مخرجات الصندوق بدواعي واهية تخفي غرضهم الحقيقي وهو التمكين لايدلوجيتهم بالسيادة على الارض.
سلطة الايدلوجيات تشمل جميع المؤدلجين، وتتجاوز الاسلامين الى غيرهم من التيارات واصحاب التوجهات والاهواء الفكرية والسياسية. فالفكر القومي الذي تبنته اوروبا في القرن التاسع عشر هو فكر شوفيني متسلط ومستبد افرز الصهيونية والفاشية والنازية التي اضطهدت غيرها من الشعوب وهددت السلم العالمي ولا تزال، وسببت في كوارت وحروب كونية ما زالت اثارها شاهدا على فضاعتها.
من المشاكل الحقيقية التي واجهت القومية العربية – التي تبنت المفهوم الاوروبي للقومية – ان مفكريها لا يملكون فكرة واضحة ومحددة عن الحدود الجغرافية للدولة القومية التي ينادون بها، لان هذه الحدود غير موجودة على الواقع. كما وان بعض التيارت القومية العربية، ربما تأثرا بالفكر القومي الاوربي الذي نشاء مناهض لسلطة الكنيسة (وليس للدين كما قد يعتقد البعض) قد شطح في غلوه، كحزب البعث مثلا الذي ذهب الغلو ببعض رجالاته درجة الكفر والعبث حين قالوا:
نحن البعث والدنيا بنيناها لو امتدت يد الله إلى البعث قطعناها
لذلك فهم، بالاضافة الى ان طرحهم هذا اصطدم بوجود أعراق اخرى تشاركه الجغرافيا، اسسوا لقطيعة مع الشعوب التي انتموا اليها، لانها مست المقدس عند تلك الشعوب، لذلك عاشت فكرة الحزب فقط في كنف الحزب دون ان تتكون لها قاعدة شعبية تحتضنها، بإسثتناء اتساع قاعدتها حين حكم حزب البعث في العراق وفي سوريا، بحكم سلطة الحزب وليس بحكم الايمان بمبادئه.
وبعيد عن الشطحات الالحادية للحزب، أشير الى ما يهمنا في سياق سلطة الايدلوجية، تحديدا الى المادة السادسة من مبادي الحزب والتي تقول:
” حزب البعث العربي الاشتراكي حزب انقلابي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال…. وان الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع”.
من الواضح من هذا المبدأ ان حزب البعث حزب شمولي لا يختلف عن الاحزاب الدينية، يرفض الاخر ويعمل على اقصائه بالقوة إن تمكن، ويرى في الانقلابات اداة لتحقيق طموحاته واهذافه وبالتالي لا يؤمن بالعمل السياسي الديمقراطي الذي تتسع فيه ساحة الوطن للتنافس، ولا يتعد إمانه بالعمل السياسي حدود ما يسمح به هذا العمل السياسي من مساعدته وتمكينه في الوصول الى السلطة. هو لا يختلف عن التيار الاسلامي السياسي، الذي يسعى الى السلطة لتحقيق ما يراه من اهذاف لا تتحق له وهو بعيد عن السلطة. ولعل اخطر مبادئ حزب البعث (وربما كل الاحزاب القومية تشاركه هذا المبدأ) المادة الحادية عشر من مبادئه والتي صيغت على النحو التالي:
” يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب”
لا يخفى عن عاقل ان هذا المبدأ مبدأ شوفيني صرف وهدام يهدد السلم الاجتماعي، وقد يسبب في كوارت ونزعات وحروب اهلية، ذلك لان البلاد العربية تسكنها اقواما اخرى غير العرب، اقوام العديد منها يتطلع الى ان يكون له حضوره في الساحة على قاعدة المساوة في المواطنه. وللاسف رغم فشل الحركات القومية العربية وانحسار مريديها، الا ان الولاء للفكر القومي ما زال يضع كل من يخالف هذا الفكر في خانة العدو وليس خانة الخصم السياسي كما هو الحال في دول الغرب، وبذلك هو يعمل على تضيع فرص التعايش مع الخصوم السياسيين. لذلك نرى اكثر المدافعين عن انظمة الاستبداد التي ثارت عليها شعوبها في العام 2011 هم القومين العرب ناصريين وبعثين، بسبب ان هذه الانظمة التي انقلبت شعوبها عليها كانت تحمل شعار القومية العربية. بل مازالوا …. تحت سلطان الايدلوجية … يدافعون عن الردة والثورات المضادة لانتفاضات الربيع العربي. وقد برز هذا واضحا في انقلاب السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي، طبعا القوميين العرب لا يرو في السيسي انقلابي لانه انقلب على خصمهم السياسي وهو تيار الاخوان المسلمين، ومادام انقلاب السيسي هو انهاء دور الاخوان في الحياة السياسية المصرية يصبح من الواجب الايدلوجي الوقوف مع السيسي ومباركة انقلابه تأسيسا على المادة السادسة من مبادئهم التي اوردناها اعلاه، بل انكار ان يكون عمله انقلاب.
في الحقيقة ما دفعني في الكتابة في هذا الموضوع هو مقال استاذنا الفاضل السيد ابراهيم الهنقاري ” تحية إجلال واكبار لمصر المحروسة” حيث ورد في مقاله ذاك:
” الذين يدعون ان ثورة ملايين المصريين المدنيين ضد حكم الاخوان وضد حكم المرشد ضد التخلف والكراهية ضد الدجل والتدجيل ضد النسف والتفجير ضد القتل والاغتيال ضد كل ما هو جميل في مصر وفي كل مكان ضد الشر والأشرار ضد من لا يريدون التقدم والبناء ضد من لا يريدون التنمية والرخاء ضد من لا يؤمنون بالعلم والتقنية ضد من لا يريدون الانطلاق الى الامام ويريدون الرجوع الى الوراء ضد من يريدون هدم مصر ولا يريدون بناءها ضد من يتاجرون بالدين والدنيا خدمة لاعداء الاسلام وأعداء الحياة”.
هذا الرأي في تقديرى ما هو الا انشاء لا يستند الى وقائع، ولا يختلف عن الاعلام المصري الهابط الذي يمثله عمرو ذياب واحمد موسى. إذ ان الحديث عن القتل والاغتيالات فيه ادانة للسيس وليس لمرسي، ذلك ان الاحصائيات تقول ان عدد القتلي في الاشتبكات في عهد مرسي لم تتجاوز 470 قتيل في سنة كاملة، حيث سقط 172 قتيل في أحداث سياسية و 39 قتيل في أحداث طائفية و 17 قتيل في احتججات طائفية و 48 حالة وفاة في اماكن الاحتجاز و110 نتيجة حوادث إهمال، و 28 حالة في اعمال ارهابية. في حين عدد قتلى السبع شهور الأولي من عهد السيسي/منصور، وصل الى 2588 قتيل في أحداث سياسية، 41 قتيل خلال أحداث طائفية، 3 خلال احتجاجات اجتماعية، 80 حالة وفاة داخل أماكن الاحتجاز، 28 قتيل نتيجة استخدام مفرط للقوة، 281 قتيل لأعمال إرهابية، 122 قتيل خلال حملات أمنية سياسية، 105 قتيل عبر حوادث إهمال جسيم. طبعا هذه الارقام حتى يناير 2014 فقط.
وفي اشادة السيد ابراهيم الهنقاري بتوسعة قناة السويس يقول:
“لم يكن حدث الامس سيتم لو قدر لحكم المرشد ان يستمر وقدر لمكتب الإرشاد ان يتحكم في مصير مصر والمصريين وان يفسد في ارض الكنانة ويهلك فيها الحرث والنسل”.
والان لنرى ماذا يقول التاريخ عن مشروع توسيع قناة السويس، تقول موسوعة الويكيبيديا ان فكرة مشروع توسيع قناة السويس تعود لنهاية السبعينيات عندما طرحه المهندس حسب الله الكفراوي وزير الاسكان حينها على الرئيس انور السادات، لكن المشروع لم يخرج للنور، ثم أعيد طرح المشروع على الرئيس حسني مبارك، لكن أيضاً لم يخرج المشروع للنور، ولم تتخذ أي خطوات تنفيذية تجاهه. في عام 2012 قدمت جماعة الاخوان المسلمين مشروع تنمية محور قناة السويس ضمن مشروعهم المسمي مشروع النهضة أثناء إنتخابات الرئاسة المصرية 2012. وفي عام 2013 أقامت حكومة الدكتور هشام قنديل مؤتمراً صحفياً في عهد الرئيس محمد مرسي أعلنت فيه أنه سيتم الاتفاق مع المكتب الاستشاري الذي سيتولى تنفيذ المخطط العام للمشروع والتعاقد معه بحلول الأول من سبتمر 2013، حيث سبق أن تم الطرح الأول لتنفيذ المخطط العام في نهاية أبريل 2013، ومدة تنفيذ المخطط العام ستكون 9 أشهر. في 5 أكتوبر 2014 أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن البدء فعلياً في إنشاء مجرى ملاحي جديد لقناة السويس وتعميق المجرى الملاحي الحالي وتنمية محور قناة السويس بالكامل.
إذا، المشروع فعليا كان انجازا للاخوان، ولا ارى ما الذي كان سيمنعهم من انجازه ان استمروا في الحكم، لذلك ارى ان منح امتياز إنجازه للسيسي لانه انقلب على الاخوان يعتبر مجانبة للعدل وتجني.
لا يهم ان يحكم السيس او الاخوان في مصر، المهم كيف يتعامل النظام الذي يحكم مصر مع ليبيا (وكل دول المنطقة لا استثني السودان وقطر والامارت وتركيا وغيرها)، وهو الدافع لكتابة هذا المقال، وقد سبق وان تحدث في هذا الامر مع من يناصر السيسي (جل من يناصر السيسي يناصر البرلمان ويناصر حفتر)، وكاتبت العديد منهم إلا اني لم احظى بجواب. فمثلا لم افهم كيف يسمح النظام المصري لموسى ابراهيم بعقد مؤتمر في مصر، هذا المؤتمر …. بعيد عن مشاعر الاستياء التي اثارها عند الليبين …. لا شك وان له دور سلبي على الوضع الامني الهش في ليبيا، وربما اتفهم عدم تسليم النظام المصري لبعض رموز النظام السابق بحجة عدم الاستقرار، لكن لا اعرف ما معنى السماح لاحمد قذاف الدم بممارسة نشاط سياسي معادي لليبيا، فهذ مؤشر واضح على استهانة السيسي بليبيا وامنها. ومن الحركات الغبية التي حاولت فهمها الاعتداء العسكري المصري على درنة بحجة الرد على قتل داعش درنة لعشرين نصراني مصري (!)، و لا ادري مدى الغباء الذي يجعلنا نصدق هذه الكذبة، ذلك ببساطة ان عدد المصريين الذين يعيشون في ليبيا يتجاوز المليون، ولا شك ان في هذا المليون عشرات الالف من الاقباط المصريين، فكيف لحاكم مصر ان يعلن عن عملية كهذه دون ان يحسب حجم الخطر الذي قد يواجهه الاف المصريين العاملين في ليبيا؟. للاسف لم ارى في هؤلاء القوميين وحتى البرلمان من ندد بهذه الاعمال السافرة التي قبل بها النظام المصري، كل ذلك يعود …. وبجدارة …. الى سلطة الايدلوجية على معتنقيها وتكريس العداء مع مخاليفها.
والله من وراء القصد
(أميس انتمورا)
لندن 11/08/2015