كُنْتُ مَهْمُومًا بجمعِ مفْرَدَاتِ مُحَاضَرَةٍ عَنِ الرَّاهِنِ العَرَبِيِّ، سَأُلْقِيهَا صَبَاحًا ضِمْنَ سلسلةِ مَنَاشِطَ تثقيفيَّةٍ تقيمُهَا الجامَعَةُ .. في طريقي إلى مَكْتَبَتِي لَمَحْتُ صَغِيرِي وَحِيدًا بِالصَّالَةِ يُشَاهِدُ نَشرةَ أخبَارٍ عربيَّةً .. خَطَوْتُ نَحْوَهُ .. وَقَفْتُ وَرَاءَهُ لأَتَأَكَّدَ ممَّا يُشَاهِدُ .. تَعَجَّبْتُ من مَلازمَتِهِ للتِّلْفَازِ رأسَ كلِّ ساعةٍ؛ فقد لاحَظْتُ عَلَيْهِ تغيُّرًا في مُشَاهَدَاتِهِ؛ فَلم يَعُدْ يُتَابِعُ برامجَ الأطفالِ المغرَمِ بها جِدًّا؛ إِذْ صَارَ مفتونًا بتتبُّعِ نشرَاتِ الأخبارِ .. يستَلِذُّ برُؤْيَةِ مَشَاهَدِ القتلِ والدَّمَارِ، وصورِ التَّعذيبِ والتَّنْكيلِ وَالتَّشْرِيدِ وَالتَّهْجِيرِ .. حينَ سَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ هذا التَّعَلُّقِ الخطيرِ، رماني برصاصَةِ جوابٍ ناريٍّ قاتِلَةٍ: (أُرِيدُ أن أُصبحَ رئيسًا..)
صَدَمَنِي جَوَابُهَ الْمُتَفَجِّرُ .. فأيقظني بسؤالٍ آخَرَ: ( كيفَ أكونُ رئيسًا يا أبي..؟ )
– رئيسٌ ..!؟
– نعم، رئيسٌ عربيٌّ؛ فأنا لا أَعْرِفُ لُغَةً غيرَهَا .. !
أَضْحَكَنِي جَوَابُهُ الْعَفْوِيُّ الْبَرِئُ، تَذَكَّرْتُ عَجْزَ رُؤسَائِنَا عَنِ التَّحَدُّثِ بعربيَّةٍ سَليمَةٍ .. في داخلي انفجرَتْ عَاصِفَةُ ضَحِكٍ مُدَوِّيَةً ..
ظَلَلْتُ وَاقِفًا بِجُوَارِهِ، مُرْغَمًا على مشاهدَةِ مهازِلِ رِئَاسِيَّةٍ، بُطُولاتٍ عربيَّةٍ بامتيازٍ .. ومُتَابَعَةِ إنجازاتٍ حمراءَ يقترِفُهَا حُكَّامُنَا ضِدَّ شُعُوبِهِمْ .. مُقَارِنًا بُطُولاتِهِمْ بما اقْتَرَفَهُ طغاةٌ كهولاكو وتيمورلَنْك وهتلر وشارون وغيرِهِم .. وأنا أحاوِلُ التَّوَصُّلَ لمعرِفَةِ سببِ تغيُّرِ مشاهَدَاتِ طِفْلِيَ المُفَاجِئَةِ، وَجَدْتُنِي مُتَوَرِّطًا في أَسْئِلَةٍ شديدَةِ الانفجَارِ مُحْتَاجَةٍ إجاباتٍ كَاتِمَةً لوجعِ الواقعِ العنيفِ، فَقُلْتُ لَهُ: مِنَ السَّهْلِ أن تكونَ رئيسًا يا بُنَيَّ؛ فَالْمُؤَهِّلاتُ الْمَطْلُوبَةُ لَيْسَتْ عَسِيرَةً، الدِّينُ ليسَ مهمًّا للرَّئِيسِ؛ فهو عَادَةً ما يُنَصِّبُ نَفْسَهُ رَبًّا أَعْلَى على شعبِهِ، عَبيدِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ .. وَمِنَ السَّهْلِ أَنْ يَتَجَرَّدَ من إِنْسَانِيَّتِهِ، وَأَنْ يَخْلَعَ عَنْهُ رِدَاءَ الأَخْلاقِ، وَأَثْوَابَ الْقِيَمِ، بَاقْتِرَافِ كُلِّ ما يُنَافِيهَا، وأن يملكَ القدرَةَ على خيانةِ ضميرِهِ، وأهلِهِ وشعبِهِ وَأُمَّتِهِ، أن يكونَ قادرًا على تحويلِ الوطنِ إلى معتقلٍ كبيرٍ، إلى سجنٍ انفراديٍّ لكلِّ مواطنٍ ..
– بابا، لم أَفْهَمْ مَعْنَى الدِّيمقراطيَّةِ ..!؟
نَبَّهَنِي لانغماسي في مضمونِ محاضرتي بعيدًا عمَّا يحتاجُ فَهْمَهُ .. فَأَجَبْتُهُ: وهل تظنُّ أن ثمَّةَ رئيسًا عربيًّا قد فهِمَهَا ..!؟ هم ليسوا بِحَاجَةٍ لفهمِ الدِّيمقراطيَّةِ؛ فأفْعَالُهُم كُلُّهَا لا تَمُتُّ بِصِلَةٍ لَها.
اِزدادَتِ الْمَشَاهِدُ الْمُرْعِبَةُ حُضُورًا على الشَّاشَةِ .. ظَلَّ يَحُكُّ رَأْسَهُ، فاتحًا فمَهُ تعجُّبًا، شَعَرْتُ بارتجافِهِ خَوْفًا فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ .. سَحَبْتُ الرِّيموت كنترول من يَدِهِ وَأَطْفَأْتٌ التِّلْفَازَ .. هَذِهِ بعضُ منجزَاتِ رئيسٍ عربيٍّ .. هل رَأَيْتَ كيفَ يقتلُ أبناءَ شعبِهِ .. !؟
اِلْتَصَقَ بِصَدْرِي، أَجْرَيْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ .. هَدَأَ وسرحَ كلانا .. لم أنْتَبِهُ إلاَّ وهو يَغْفُو في حِضْنِي فَحَمَلْتُهُ لسريرِهِ .. نَظَرْتُ إِلَيْهِ .. رَأيْتُ فيهِ صُورَةَ رِئيسٍ جَبَّارٍ .. وَجْهَ عُتُلٍّ زَنِيمٍ .. كَأَنَّنِي قد رأيتُهُ قبلُ .. حَاوَلْتُ أنْ أستذكرَ اسمَهُ .. فلم أستطِعْ .. أقفلْتُ على الدِّكتاتورِ الصَّغيرِ البَابَ .. هَزَزْتُ رَأْسِي مستغربًا .. ثمَّ ضحْكْتُ بَصَوتٍ مَسْمُوعٍ؛ فقد صِرْتُ فَجْأَةً أَبًا لرئيسٍ منتظرٍ..!!
حينَ استدَرْتُ للمُغَادِرَةِ كانت خُطُواتُ زوجتي تقتَرِبُ، التفَّتُ إليها .. على فمها نما شجرُ كلامٍ كثيفٍ .. أسئلةٌ حيرى تَتَنَاهُبُ أجوبَةً مِلْحَاحَةً .. رَفَعْتُ سَبَّابَتِي أمامَ شفتيَّ لأسكتَهَا، فظهرَ على وَجْهِهَا شَكٌّ مُبينٌ أَنَّنِي لم أعدْ بكاملِ قوايَ الْعَقْلِيَّةِ .. اقتربْتُ منها وهمسْتُ في أُذنِها : ” أسّ .. لا ترفعي صَوْتَكِ سَتُوقِظِينَهُ فَيَقْتُلُنَا .. ”
قَطَّبَتْ جبينَهَا مستغربَةً .. حَاوَلَتِ التَّحَدُّثَ فَوَضَعْتُ يَدِي على فَمِهَا .. من دَاخِلِ الْغُرْفَةِ اِرْتَفَعَ صَوْتُهُ مُهَدِّدًا: ” من أنتم ..!؟ .. أَنْا فَهِمْتُكُم .. فاتكم القطار .. ”
كَادَتْ أَنْ تَسْقُطَ هَلَعًا، فَطَمْأَنْتُهَا بضحكَةٍ خفيفَةٍ، ثُمَّ وَشْوَشْتُهَا بِأَنِّني أَعْتَقِلُ رَئِيسًا عَرَبِيًّا في غُرْفَةِ ابِنِنَا..!!
__________________________________
اجدابيا/ 28/3/2012
من مجموعتي (سطر روايتي الأخير) الصادرة عن #دار_غراب_للنشر_والتوزيع – القاهرة، 2015.