النقد

بن يتمحص.. جزر ممكنة

في ديوانها الأول لم تستطع الشاعرة سعاد سالم أن تغادر شوارع ذاتها.. وهو أمر طبيعي للغاية.. هكذا هي طبيعة المرأة الشاعرة  في “الديوان الأول” وربما  الروائية والقصصية أيضا.

يطيب للمرأة الكاتبة عادة أن تترك جنينها الأدبي البكر يتغذى من مشيمة مغلقة لا صلة لها بالعالم الخارجي. هذا لا يعني بالضرورة أن أمثال هذه المواليد تفتقد مظاهر الحياة الطبيعة. لكنها السمة الغالبة التي نلحظها في مجتمعات تنفي فكر المرأة من الأصل وتتضاءل فرص التعبير ويتعثر الخلق والتكوين الحر.. لكن هذا سيتلاشى مع الفترة الزمنية التي يستقر فيها النضج الأدبي المتكامل. والانصهار الكلي في بوتقة الحياة  لضرورة المزج ما بين الخاص والعام.

الشاعرة “سعاد سالم” في ديوانها الأول مسكونة بالأحاسيس المرهفة والتوق الكلي لتحقيق الأجمل وقد حققت نصها الذي يحمل مجمل ثقافتها ورؤيتها الشعرية الآنية والسابقة والمستقبل مفتوح أمامها.

هاهي الشاعرة الهادئة تعرب من خلال مقاطعها عن انحيازها للطبيعة للفراشات والعصافير، وصوت فيروز الملائكي الذي غدا من ثقافة الأذن الراقية على امتداد الوطن العربي.

-الآن أبدو عصفوراً

 يصفع الفراغ

وينتصر للزقزقة

تجربة بن يتحمص.. جزر ممكنة.. تأخذك من قراءة نص للعودة إلى خصوصية الإبداعات الأدبية النسائية.. القراءة في هذا الديوان قادتني إلى كتاب (شعرية السرج السابح) للأستاذ “سالم العوكلي” وبالتحديد إلى عنوان (عري الروح وصوفية الجسد) ومقاربة من نصوص الشاعرتين “نعيمة الزني” و”سعاد يونس”،  بالإضافة إلى  التقديم الجميل الذي تميز به الديوان بتوقيع الأستاذ “سالم العوكلي”.

وهناك نقاط تشابك بين التقديم والنصوص.. حتى وإن كان هناك اعتراف بأن الأستاذ “سالم” بقي على تخوم الشعر ولم يشأ أن يفرض وصاية محددة على النص الشعري.

ملف الأدب النسائي الذي فتح في فترة الخمسينيات من القرن الماضي أغلق لصالح فكرة أن الأدب هو الأدب بصرف النظر عن جنس كاتبه.. إلا أن مسألة خصوصية النص الإبداعي  النسائي ظلت معلقة ولم تستوف حقها من الدراسة العميقة.. وبات الأمر يثير الحساسيات إلا لمن يملك قابلية الاعتراف بما يخلقه الفارق بين الجنسين من تمايز، في زمن باتت فيه الأنوثة مصدر اعتزاز.. وفي تقدير الطبقة المثقفة التي تؤمن بأن الدونية لم تنشأ من الفارق الجنسي بل من الفارق في المحصلة الثقافية الاجتماعية الاقتصادية.

سأعود إلى الديوان وإلى “سـعاد” وإلى حالة من حالات قلقها الطاغي.. مع مقاطع من هذا النص

الشلالات.. ماء ينتحر

منذ نيف من إحساس

لم آبه

بفائض المسافة

بين حلم

ينط بداخلي

وحلم..

لم يفرد فيك جناحيه

وأقبل بطيب حب

تبديل هواياتي

من امرأة

تبيع الشوك بالتقسيط

إلى بائعة قرنفل

منذ نيف من أشواق

لست سوى

أغنية مسافرة

وريح تصفر

وشلالات.. ماء ينتحر

منذ نيف من حلم

اشتعل في لياليك

الغافية

” عود قماري “

منعطفات الفصول

 منذ نيف من نهارات

 أتكوم

عندك

 اعد أنفاس

الأيام المغادرة

 فيما تمضي

تاركاً ظلك

يهزأ بي..!

،،،،،،،

في قصيدة (ذاكـرة) تخرج الشاعرة “سعاد” من عزلتها لتبدي احتياجها إلى المجموعة وتسميهم بأسمائهم.. وهي صفة لصيقة بالأنثى عندما تحيط بها أزمة.

تعبت يا أمي

وأود

على عتبة شجني

حين أضع قدمي

ويتلقفني خاطر البكاء

لو..تستقبلني عيناك

أو يحضر أبي

لو تتذكرني جارة

لو تلاقيني صديقة

لو.. يتأبطني قلب

بالتوازي مع قصيدة (ذاكـرة) تأتي قصيدة (ضـماد) المحملة بالبحث عن المجموعة بشكل حثيث.

حينما يرفض المجتمع شخصاً ما، لسبب ما تتحول الحياة إلى دوامة سريعة مرعبة عندها تبدأ رحلة البحث عن أحد ما يعيد الطمأنينة المفقودة.. وهي حالة إنسانية خرجت بعض المجتمعات من إسارها لكنها ما زالت المحور الأساسي في صلب تشكيلة مجتمعنا المحلي.. في قصيدة (ضماد) تعطينا الشاعرة توصيفاً لهذه الحالة..

لأصحاب

يفرشون أهدابهم..

حين

لا فراش يطيقك

يحادثونك

حين..يتكوم الصمت

 ويلقيك العالم

خارج نشراته

لأصحاب..

يلامسون ذقنك

التهزة العبرات

ويبتسمون

 حين فزعك

يملأ المكان

لأصحاب..

يروضون خوفك

يلقمون السكر

لغضبك الحرون

ويذرفون مشاعرهم

 تحت حذائك البالي

لأصحاب

يسقطون

في فمك عسلهم

ويركضونك للشمس

بعد هذين النصين أعود إلى تقديم الأستاذ “سالم العوكلي”.. (عندما دفعت إلى سعاد بمجموعتها بدأت مرتبكاً وحذراً، أتحاشى الوصاية على النص. وإغراء النقد البطركي الحاد الذي يفرضه النقاد عادة على النص الأنثوي المؤنث بالحياة  والمنتمي إلى نشيدها..” فالكائن المؤنث كما ينبغي  يصيخ السمع للحالم الهائم في أعماقه)

وأنا أشاطر الأستاذ “سـالـم” من حيث المبدأ أهمية تحاشى الوصاية على نص أدبي.. هناك من يتصور أن النص الإبداعي خريطة هندسية يمكن اختراقها و إعادة تصميمها من جديد وفق ما يشتهي المقاول.. والأستاذ “سالم” يرفض أن يتحول الناقد إلى مقاول..  كذلك أوافق الأستاذ رأيه في أن الكائن المؤنث يصيخ السمع للحالم الهائم في أعماقه.

الشاعرة “سعاد سالم” في هذا الديوان كانت فعلاً ترهف السمع فقط لضجيج نداءات الأعماق دون أن تعطي للواقع الحي الذي يجري حولها أي التفاتة.. هذا لا يقلل من أهمية الديوان.. ومن أهميتها كشاعرة.. هي لم تغادر شوارع ذاتها. وما شوارع مدينة طرابلس ومقاهيها والمسماة بأسمائها ما هي إلا شيء من الذات الخاصة.

فرحي بهذا الديوان دفعني لأن أكون وسيطاً بينه وبين القراء من خلال تقديمه، في هذه الحالة، على المقدم أن يبحث عن نقاط مشتركة بين القارئ والمبدع لغرض تحفيز الأول على القراءة وتحفيز الثاني على ضرورة المواصلة، كي ترتسم خطوط المثلث بنجاح. مبدع، قارئ، كتاب.

يتكون ديوان بن يتحمص.. جزر ممكنة من واحد وعشرين نصاً

هناك عنوان لفت انتباهي وهو الشلالات.. ماء ينتحر.. يحمل هذا العنوان معنى فلسفيا عميقاً وتصويراً جماليا أخاذاً.. من رأى هذا المشهد مباشرة وسمع ضجيجه المرعب وتبلل برذاذه المتطاير يفهم معنىَ انتحار الماء.. ترى هل استقت “سعاد” عنوان نصها عقب رؤية مباشرة للشلالات.

عنوان آخر أثار حيرتي وهو (مقعد من بكاء).. في قصيدة لماذا للشاعر الكبير الراحل “نزار قباني” هناك مقطع يقول:

لماذا رحلت

وخلفت هذي الصديقة

هنا عند سور الحديقة

على مقعد من بكاء

القصيدة شهيرة جداً شهرة صاحبها، جملة على مقعد من بكاء أخذت حظها من التعليق في حينها قد يكون التناص أو التوارد.

كل عام وأنا شجن

عندما

أخوض بلا رفيق

الأرصفة المبللة

رزمة لا تخص أحداً

وأتلاشى وسط ابتسامات

تخمه الحضور

وعجل العشاق الطازجين

للمقاهي الدافئة

شيء ما في هذا النص يطرح سؤال الهوية والجغرافيا.

الشاعرة (سعاد سالم) ستواصل تجربتها الخلاقة مع الشعر. فهي مسكونة بالقلق الجميل الذي سيفضي إلى عوالم شعرية  متطورة. وها هي قد وضعت بثقة مولودها الأدبي الأول الذي يحمل بعض صفاتها. والذي سيحتاج منها إلى شيء من الهدهدة والعناية.

_________________

مجلة المؤتمر/ تصدر عن مركز أبحاث ودراسات الكتاب الأخضر/ السنة: 02/ العدد: 19/ التاريخ: 09/2003- شهرية

مقالات ذات علاقة

قراءة الوصف في قصة إشارة ضوئية للمرحوم القاص أحمد إبراهيم الفقيه

إبتسام صفر

أشواق علي الرقيعي الصغيرة

نورالدين خليفة النمر

مشاهدات قصيرة من الوطن الغائب

المشرف العام

اترك تعليق