عليّ الإقرار بأنني لا أعرف المشهد التشكيلي السوداني المعرفة المُثلى التي تؤهلني لبلورة فكرة كافية عنه كما في المشاهد التشكيلية لبعض الدول العربية، بل وحتى الأجنبية بالرغم من أنني كنت ومنذ زمن طويل قد اطلعتُ على نماذج منهُ، غير أنها تظل محدودة، فبالإضافة إلى ما كنت أطلِع عليه في المجلات العربية المختلفة التي كانت تصدر في الوطن العربي مثلا أتذكر أنني تابعت وعبر حلقات أسبوعية عديدة برنامجاً يهتم بالرسم والتشكيل كانت تذيعه وتبثه القناة السودانية الرسمية الفضائية بدايات الألفية الثالثة – إن صح تقديري – ونسيت أسمه الآن وإسم مُعِدهٌ ومُقدمهُ، وعبرهُ اطلعت على الكثير من التجارب الراسخة والتجارب الجديدة التي أثبتت جدارتها وحرفيتها المبكرة آنذاك خاصة في الرسم الواقعي، والتي كان البرنامج يقدم أعمالها للمشاهدين.
تداعت إلى ذهني هذه الذكريات والمشاهد القديمة وأنا أتصفح مؤثثات حساب الأستاذ طارق عثمان على الفيس بوك والذي يقدم نماذج وأعلام الفن التشكيلي السوداني بعد أن اهتديت إلى صفحته ذات تسكع في فضاء الفيس بوك مترامي الأطراف واتخذته صديقا، ففي هذا الحساب نجد منشورات كثيرة يضم كل واحدا منها مجموعة من الصور لأعمال فنان سوداني معين بالإضافة إلى صورته الشخصية وأحيانا بورتريه له قام برسمه أحد الفنانين، ومن خلال هذا الحساب الذي يظهر غنى وثراء وتنوع المشهد التشكيلي إلى الحد الذي لا يستطيع معهُ المُتابع أن يحيط به بالكامل، سوى أن الأطلاع على هذا الكم من التجارب الفنية كفيل بإعطاء فكرة حتى وإن كانت جزئية عن هذا المشهد المتنوع والزاخر بالتجارب المتميزة التي تستحق الوقوف عندها، ولعل أبرز ما يميزها هو أنها معاصرة وتحدث الآن وليست من الماضي البعيد وأصحابها في الأغلب أحياء إذ هذا ما استشففته من خلال النبذة البسيطة جدا التي ألحقها الناشر بالصور المنشورة كما لو أنه يحث الناظر على استكشاف الأعمال بنفسه دون مساعدة من أحد حيث أنه اتخذ موقفا محايدا ولم يمهد لما نشره من أعمال، ولعل السودان بهذا الزخم الفني والكثافة يشهد ويعيش نهضة تشكيلية غير مسبوقة في تصوري سيكون لها مكانة مرموقة على المستوى العربي والعالمي بالرغم من تعذر إقامة المعارض خارج السودان وتقديم الأعمال للمتلقي مباشرة كما هو الشأن في بقية الدول العربية، ولكن نامل في مواقع التواصل الأجتماعي خيرا في أن تقدم هذا المشهد تقديما يليق بتنوعه وزخمه وتميزه، ونجد أنهُ من الجائر والمُجحف ألا يطَّلع الآخر المهتم على هذا الثراء والتميز والأشتغال الجدي، إذ ومن خلال تتبع ما نُشِرَ في حساب الأستاذ طارق عثمان رأينا الكثير من الأعمال الفنية التي تعود لفنانين سودانيين وعلى سبيل المثال لا بد أن يتوقف المرء عند تجربة الفنان ” معتز الإمام ” فالمتأمل في رسوماته ستلفت انتباهه تلك الشخوص المنكفئة على ذواتها، شخوص بملامح غائمة وأجساد ضبابية تظهر في هيئة كتل لونية بالأكريليك – إن صدق تخميني – على خلفية سوداء كما لو أنها طارئة على هذا العالم، شخوص تتفق في حمل تعبير الشرود والحيرة على وجوهها التي لا نكاد نتبين ملامحها، وفاقم من حيرتها وشرودها، تموضعها في فضاء اللا مكان، إذ لا يحوطها في الأغلب إلا الفراغ والسديم، بل أن بعض اللوحات الأُخرى التجريدية بتداخل ألوانها ولا تعيينها لما هو مرسوم تبدو وكأنها أماكن طبيعية لم تدوسها قدم إنسان بعد، أماكن لا زالت تحتفظ بطهارتها الأولى ونقاءها البدائي، والفنان في لوحاته يبدو مشغولاً بقول شيء لا يستوعبه الرسم التشخيصي ولهذا يتجه إلى التجريد في كل مرة لبلورة أحلامه ورسم هواجسه واقتراح بدائله، في ذات الوقت الذي يرسم فيه متخففاً من أعباء الأفتعال والأختلاق، هنا الفنان يرسم كما لو أنه طفل يتلذذ بملء المساحات الشاغرة بألوانه المحببة، هنا الفنان يرسم ليضيء دواخله ويتطهر من العتمة التي تلف الواقع، ولا يقل شغله بالأبيض والأسود بأقلام التحبير تعبيراً عن لوحاته الملونة فمن خلالها نجد ذلك الشرود أيضا على ملامح وجوهه التي أنجزها بهذه التقنية كما لو أنها تطل علينا من وراء تاريخ طويل من الغياب والتواري، كما لو أنها – أي الوجوه – بعيونها النعسة تقول: لا شيء مهم هي فقط أيام ثم يمضي الكل إلى شأنه، ما هي إلا سنين ويغادر الجميع المسرح.
يحتاج مُنجز الفنان معتز الإمام إلى قراءة موسعة، غير أننا نكتفي بهذا القدر لكي تنفرغ للتجارب الأخرى الموازية… وأيضا لا مفر أمام الرائي من أن يرى ويُعجب بأعمال الفنان “محمد خميس” التي تخاطب الوجدان وتستثير الذائقة والذاكرة بنكهتها الخاصة حين لا تذهب بعيدا وترصد الواقع كما هو في لوحات جميلة بالألوان المائية التي يجيد الفنان التحكم فيها، وهي بالمناسبة ألوان يصعب التعامل معها ولا يقدر على تطويعها لفكرته وللوحته إلا الفنان المتمكن من أدواته صاحب الخبرة الواسعة، الفنان يرسم الناس في الشوارع والسيارات، يرسم حركة الحياة العادية والتي قد لا تلفت انتباه أحد سوى أنها تصبح مدهشة وآسِرة لمَّا نراها متجسدة بالألوان الشفافة والنضِرة واللمسة الأولى والنهائية الواثقة التي يضعها الفنان بريشته بعد أن يغمسها في ماء الروح، كما أن للفنان لوحات أكريليك – إن لم يخونني التوقع – أشتغل فيها بتجريد ظاهر على بعض المفردات التراثية والزخارف الشعبية في تماس مع الذائقة الجمعية التي أنجزتها.
وستجذب أعمال الفنان “رزق الله فضل رزق الله” المتابع بتنوعها وستعكس حرفية وجدية صاحبها فهي وإن كانت تُسخًر الألوان المائية الشفافة إلا أن موضوعاتها تختلف عما سبقها فالفنان اتجه قدماً إلى رسم الطبيعة وحاول محاكاة جمالها الظاهر رسم الأشجار والجبال والخضرة إلى جانب رسم المعمار والبورتريه وبدا مسيطراً تماما على مادته.
كما سيشده بخيوط لا مرئية إلى تفاصيله الغزيرة وحرفيته وصبره ودأبه ما أنجزه النحات “فتح الرحمن الزبير” الذي اجتهد في استنطاق الحياة من خلال تماثيله الطينية والخشبية، التي وإن كانت تجسيدية إلا أنهُ لم يتقيد فيها بالشكل الأمثل للجسد البشري ونحتها كما يراها برقاب رفيعة وجذوع طويلة ونحيفة أو رشيقة إلى حد بعيد، كما أن للفنان أعمال حفر ونقش على الخشب إلى جانب منحوتات ذات أشكال تجريدية أنسيابية ما يُشي بتنوع التجربة من الداخل فالتجربة ومثلما نرى نحتية غير أن داخل مفردة النحت توجد مدارس واتجاهات والفنان حاول التنويع أو بالأحرى عزف عدة نغمات على ذات الآلة الموسيقية، وعلى ذكر الموسيقى لا بد أن التماثيل الأنسيابية تحتوي على الكثير منها.
كما أن الناظر لا يمكنه أن يتجاوز أعمال الفنان “إدوارد” دون أن يتمعن فيها بتأني ويستشف جمالياتها المخبوءة والأرتحال في عوالمها الشاسعة لغزارة تفاصيلها لا سيما تلك التي اختير لإنجازها أقلام الحبر، فقليلا ما نجد فراغ أو بياض بداخلها فيما تبدو من جهة ثانية كأنها خربشات تم إنجازها في أوقات الفراغ على عجلٍ أو كإسكتشات أولية وتحضير لعمل مستقبلي متكامل، والمهم لدى الفنان هنا هو التقاط الحالة المرسومة وتجسيدها فوق الورق حسبما رآها هو لا كما هي موجودة في الواقع وعبر الواقع ذاته بطبيعة الحال، أي أن الفنان لا يستغني عن الواقع ولكن يُحورهُ كما يريد ولا يتقيد بضوابطه وصرامته.
وثمة موسيقى غامرة تعزفها لوحات الفنانة “نجاة الماحي” ولا يمكن للمتلقي إلا أن يسمعها ويستجيب لوقعها وتردد صداها في نفسه بأعمالها التجريدية ذات الألوان المُبهِجة للنظر فيما يخص لوحات الألوان المائية وبعض لوحات المائية الثقيلة، وباللون الأسود تضع لوحاتها التي تتشابك فيها الخطوط المتعرجة والمنحنية العريضة والدقيقة وتتداخل ببعضها البعض حتى أنها لتبدو مثل الأغصان المتشابكة أو كدغل، تعبيرا عن حالة محددة تراها الفنانة، ولعل هذا التشابك العشوائي الذي يُذكًر بتقاطع المصائر يُشير إلى واقع متأزم أو حياة معطلة تنتظر من يعيدها إلى صفائها ويفكك تشابكها ويخفف من تعقيداتها الكثيرة.
وهنالك ما يعتمل في نفس الفنان “حاتم عبدالقادر الفاضلابي” ويدور في خلده ويضغط على روحه فيجتهد في نقله إلى الأسطح البيضاء للتعبير عنه وقوله بطريقة مغايرة أداته في ذلك البياض وأقلام الحبر بأعمال هي أقرب للسوريالية منها إلى أي تصنيف آخر، الكثير من الخربشات المحسوبة والتنقيط والخطوط الطولية والعرضية الصاعدة والنازلة بتناسق تظهره لوحة الفاضلابي الذي حاول أن يوازن فيها ما بين السواد والبياض الذي يتخلل الرسم فيضفي عليه من دلالاته وسحره وقوة حضوره، وكما هو واضحاً تحتاج هذه التقنية البسيطة على ظاهرها، إلى جهد مضاعف ووقت أطول بعكس العمل بالألوان الأعتيادية القادرة على تغطية المساحات بسرعة فالعمل هنا في تصوري يحتاج إلى صبر وجهد إضافيين حتى يأخذ شكله النهائي الذي يُرضي صانعه ويستقطب المتلقي بتفاصيله وتقنياته.
ويتخصص الفنان عثمان الحارث تقريبا في رسم الوجوه بأقلام الرصاص بدرجاتها المختلفة وبأقلام التحبير وفيما يرسم الوجوه، يرسمها بدقة عالية بالرصاص، ويرسمها بخطوط مستقيمة فيما يُشبه الأعمال التكعيبية وبخطوط تحاكي الخربشات العشوائية بالأحبار، كما أن للفنان بورتريهات ملونة حرص فيها على الدقة كما في بقية أثاره الفنية وركّزَ تماما على التجاعيد التي ترتسم على الوجه وانعكاس الظل والضوء والخطوط العريضة على الرقبة وحتى النمش والكلف والمسام المنطبعة على البشرة، وحينما استعمل الألوان المائية ظهر كمجرب وكحرفي له خبرة في رسم الوجوه بهذه الطريقة، وفي كلٌ بدا الفنان الذي أكاد أُجزم بأنهُ ينتشي ويستمتع بعملية الرسم، بدا متمكنا من صنعته حائزا على خبرة عميقة وله نظرة واقعية للفن التشكيلي ويهمه أن يُشبِع روحه من الجمال ويلبي حاجته لهُ ويشيعه من حوله بهذه الموهبة التي يمتلكها.
وثمة تجارب أخرى حتى وإن لم نتناولها بالتعليق هنا إلا أنه نجد من الضروري الإشارة إليها مثل تجربة الفنان تاج السر الملك متعددة الجوانب وتجربة الفنان الشامل عصام عبد الحفيظ ومراوحته ما بين العدسة والريشة وتجربة خالد بحر أيضا مع التصوير وأعمال منعم حمزة الكاريكاتيرية ومنمنمات حسن عبدالرحيم سالم وخطوط محمد عبدالرسول وخزفيات ليلى مختار أحمد أدم وبورتريهات اسماعيل حسن اسماعيل ومائيات مسكة محمد نجيب إلى جانب أسماء أخرى مؤثرة ولديها إنتاج مقنع مثل محجوب بابكر ومنى عبدالله ريحان ورأفت عمر ابراهيم وغيرهم ممن أتاح لنا الأستاذ طارق عثمان الوقوف على أعمالهم.
وكم تلاحظون هنا فنحن نكتب أو نطلق الأحكام على الأعمال والفنانين دون معرفة سابقة بهم ويعود ذلك فقط إلى ما استنتجته الذائقة وقادتنا إليه المشاهدة العاشقة وحب الفن التشكيلي، ولا تعد هذه الأحكام نهائية وبالأصح هي ليست أحكاما مطلقة بقدر ما هي ملاحظات عابرة وانطباعات ارتسمت في الذهن حال الأطلاع على هذا الكم من اللوحات والأعمال النحتية، وطبعا لا تستطيع.
هذه القراءة المتواضعة الإلمام بكل التوسع الذي ينطوي عليه المشهد التشكيلي السوداني وإنما أردنا عبر هذه الألتفاتة أن نضع شهادتنا على ما رأينا ونسهم في تأطيره والتعريف به أو ببعض وجوهه بشكل عابر وسريع ولا يعني عدم الإشارة إلى بعض التجارب الأخرى أنها أقل قيمة مما استعرضنا وأشرنا إليه، بل أن بعضا مما لم نستعرضه من الجمال والجدوى ما لا نستطيع حتى استنطاقه والحديث حوله لأنه يندرج في إطار الأعمال التي ليس بوسع المرء إلا أن يقف أمامها متأملاً مندهشا دون أن ينطق بحرف لأن الكلام في حضرتها إفساد للحظة النشوة وخدش لحالة السكون والأنخطاف التي يعيشها بقلبه وعقله ووجدانه، وفي الوقت الذي نبارك فيه هذا الحراك الفني والمجهود الجمالي الكبير نرى أنُ بتنوعه وتعدد مدارسه وتجاورها جنبا إلى جنب دون إقصاء لإحداها من قِبل الأُخريات، حيثُ شاهدنا أعمالاً واقعية وواقعية مفرطة بجوار أخرى أنطباعية وثالثة تجريدية وتلك التي تنحاز للمدرسة التعبيرية وغيرها من مدارس الفن الحديث في الرسم والنحت، نرى أنهُ قد قدم الفن التشكيلي السوداني كأحد أهم وأنشط المشاهد الفنية في اللحظة التاريخية الراهنة في الوطن العربي، بل وأحد المتفاعلين مع تطور الفن التشكيلي عامة، خاصة وأن الفنان السوداني لديه من واقعه ما يستطيع أن يلهمه لأن يقدم ويُنجز أعمالا مقنعة ويترجم هذا الواقع إلى رؤى فنية خالصة بها يُسهم في إغناء الذائقة الجمعية الإنسانية وينشر الجمال ويعالج قضايا فكرية ومجتمعية ويلفت الأنتباه إلى قصور محدد تراه عينه الناقدة بل أنه أحيانا يقدم الحلول والبدائل عن الحروب والأقتتال والتصادم ويقترح واقعا أقل مأساوية وتأزماً بنماذجه الفنية العالية كونه في الأساس يخاطب إحساس وشعور المتلقي، والأهم من كل هذا أن الفن التشكيلي السوداني قدم السودان بوجه جديد هو وجه الفرح والأمل والحلم، سودان آخر بعيد كل البعد عن ذاك الذي تقدمه نشرات الأخبار سودان يعج بالحروب الأهلية والمجاعات والتشرذم والأنقسام.
عبر هذا المشهد المتألق بوسعنا أن نحلم بسودان يسوده السلام وترفرف في سماءه عصافير الطمأنينة وتزنره الموسيقى، سودان غارق في الألوان والأنسجام.