الحرب والطاقة الحيويّة:
تذكرتُ في هذه الحرب مشهدا سينمائيا من فيلم ليلة سقوط بغداد، وهو كيف أقبل الفنان حسن حسني/ شاكر حضرة الناظر على امرأته، وانفكّت عقدته، بعد أن نجحت سلمى في ضرورة التغلب على (جاك- الجندي الأمريكي المارينز) بمشهد له سيميائيته العالية. عادت لشاكر قوته، وهو فرح مسرور، وتدفق الدم في عروقه، وصحت لديه قوته الحيوية. لم يعد قلقاً وأصبح أكثر قدرة على الشعور بمتعة الحياة، ومعه كل من في الحيّ؛ فالأمر يبدأ بالنفس وإقناعها بأننا قادرون على المقاومة، تحرر العقل وتحريره من سيطرة الآخر عليه، مهما كان طاغية ومتجبّراً.
مررت بهذه الحالة فعلا، كوني قلقا، متوترا، مهجوساً، دائم التفكير، وأخاف من المفاجآت المدمرة التي تقلب تأرجحنا بين اليقين واللايقين، وأخشى أن يضربنا العدو المجرم قنبلة نووية، فقد سرّب لنا الخبر من خلال أحد مجانينه، فهو عمليا يهيئنا لهذه الصدمة الكارثية، لا سمح الله، مع أن ما ضربه على غزة من قنابل يعادل قنبلتين ذريتين.
هناك لحظات تمرّ عليّ، أتابع وأنا مطمئن وقد استقرت الأمور على ما هي عليه، أعداد قليلة من الضحايا. أستمع بلهفة كبيرة إلى (أبو عبيدة)- حرام أن تكسره اللغة، يجب أن يظلّ مرفوعاً- تتدفق الدماء في عروقي، وأرتاح، ثمة ما يخيف أعداءنا إذاً، لن يتهوروا، مع أنهم لو تهوروا أكثر مما هم فيه، ستجد من يقلّدهم نياشين العزة والفخار من عرْب وعجم وفلسطينيين. لا أحد يظن أن “الفلسطينيَّ” المنصوب القابع في رام الله يدعو لأهل غزة بالنصر، لا والله، إنه لا يريد أن تقوم لهم قائمة، يستقبل المجرمين، ويسافر للقاء السفاحين، وهو وإياهم على قلب رجل واحد، إنه شبيه بتلك الشخصية النكرة التي ظلت مجهولة طوال الفيلم، صاحب عبارة “حينضفونا”، وكان مصيره القتل على أيديهم. إنهم بالفعل نضّفونا من أمثاله.
أنظر إلى الفعل في رام الله فأنكمش، وأخاف، لاسيما وهذا الموتور الأمريكي يطلب بكل صفاقة ووقاحة من الأمن الفلسطيني منع التحرك الشعبي وأفعال المقاومة في المدن الفلسطينية التي يدعي أنها تحت حكم الفلسطينيين. يا له من غبي! ألا يعرف أن الاحتلال استباح كل الاتفاقيات وأرجعنا إلى نقطتين- بل أكثر- تحت الصفر. على أية حال فقد شكر هذا المجرم “عباسنا” النشمي على جهوده المبذولة للحفاظ على الأمن والاستقرار في الضفة الغربية.
عاد وعادت لعبة الرواتب اللعينة، وأصبح الضغط علينا بلقمة العيش، ويتلاعبون في الأخبار، لتصبح الرواتب ورقة أخرى من أجل أن نأكل ونشرب وننام، لا علاقة لنا بغزة، وكأنهم ليسوا “نحن”، يريدوننا أن نتبرأ من قلبنا أو أطرافنا أو رأسنا. إذا لم تنفذوا الأوامر كالعبيد الطائعين، لن تجدوا دولارا واحداً. معادلة معروفة ويطبقونها، كما طبقوها مرات عديدة، ببساطة وبكل أريحية، ولا يعنيهم الشعب ولا أية قيم. جوعوا وموتوا وإلا عليكم أن تحموا الكيان الذي غصبكم واغتصبكم ودمر أحلامكم. وها هي غزّة وحصارها الإنساني أكبر دليل على وحشيتهم العلنية المعولمة.
صوفي حبيبة في الحرب وحبيبة في السلم:
غارق في كل هذه الهواجس وهذه الأفكار، تنقذني يد رحيمة من لجة اليأس، تتصل بي صوفي، أتذكرونها؟ تلك المرأة التي كتبت عنها في ديوان “على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت” مجموعة قصائد “إلى صوفي”، وتبادلنا وإياها الرسائل. طال صمتي كثيرا هذه المرة لم أحدثها ولم تحدثني. أخجل من شيء ما إن تبادلنا الحديث خارج الحرب. لذلك لم أتصل بها ولم تتصل بي طول فترة الحرب منذ السابع من أكتوبر، على ما يبدو؛ أصابتني بكل شيء “لعنة” “الإنسان الوطني” كما جاءت في فيلم “ليلة سقوط بغداد”. عليكم حضور الفيلم لتتعرفوا على هذه “اللعنة”.
في يوم (5 نوفمبر 2023)، اليوم الثلاثون للحرب، اقتحمت صوفي عليّ عزلتي برسالة فيها من العتب المبطن الشيء الكبير الحاد: “لا زلت في مخدع العزلة قائما”. أنقذتني رسالتها من هوة العدم، وانتشلتني من حالتي، يومان وأنا ببالها وتخشى أن تتصل بي لتطمئنّ عليّ، خاطر أتاها فأقلق راحتها عليّ، هكذا تسترسل قائلة: “أمس أحسست بخوف تجاهك غريب، مررت ببالي وقلبي صار يخفق بشدة، هذه الرعشة عندما تصيب قلبي أشعر بالخوف”.
شُجاعةٌ هي صوفي، وأشجع مني. تشبه كثيرا “بسمة/ سلمي” الملقبة أم النضال في فيلم “ليلة سقوط بغداد”، لقد أعادت إليّ الحيوية في صوتها، وتدفق الدم في عروقي، وغادرتني برودة أوصالي، واشتقت إليها اشتياقا مجنونا، بعد أن عادت الحرارة إليّ بعد غياب، كم تمنيت لو أنني أستطيع الوصول إليها لأحضنها، وأكمل مشهدية الحب معها، كما اكتملت بين سلمى وطارق صاحب فكرة سلاح الردع.
للحرب أحيانا قوانين ليست مفهومة، المرأة تنقذ كل من شارف على الهلاك، فيعود إلى الحياة مجددا، إنها عشتار، إنها هي الحياة ونهرها المتدفق. اليوم فهمت بعمق المشهد السينمائي لحسن حسني في هذا الفيلم “ليلة سقوط بغداد”، غزة وبغداد وصوفي، وكل امرأة شجاعة أمان من الموت والتلاشي، هؤلاء الشامخات لا يعرفن الموت إطلاقاً. ورد ذكر للمرأة الفلسطينية المناضلة في فيلم “ليلة سقوط بغداد”.
منذ عامين، صوفي شارفت على الموت، وودعتني باكية، لكنها كانت عصية على الموت وعادت من براثنه، حلوة، سمراء، كنعانية، ممشوقة القوام، أشد شهوة من إلاهات الخصب قاطبة، تتدفق في أوصالها نشوة الحياة التي تسعى إلى صناعتها بقوة الروح، وجلَد النضال من أجل هذا الأمل المقدّس.
تحدثنا عن الحرب، والأدب في ظل الحرب، لم تعاتبني سوى بجملة واحدة، لا شيء غير الحرب يسيطر على لغة الكلام، ولكن ليس حديث الميتين اليائسين، كان مشوبا بالحذر، لكنه كان محقونا بالأمل. أنا وصوفي متفقان جدا في وجهة النظر تجاه الحرب، وتجاه الحب، وتجاه الحياة. حاءاتنا الثلاثة في وئام تام، لذلك هي موضع سري، وأنا موضع سرها، نتبادل الأحلام والأفكار والأمنيات ذاتها، نحاول صنع المستقبل. لو صمتنا إلا أن روحها معي دوما تحرسني من الوقوع في هوّة الجنون والعدم. وتعتادني في المنام لتكون لي سكني الذي أحتاج إليه. إنها ليست مجرد أحلام عندما نكون معاً ملتحمين في ذات واحدة، إنه اتحاد كينونتين في إطار واحد.
صوفي امرأة تشبه السلام الخارج من بين يديِ الجيش المنتصر، تنهض من تحت الركام بقوة، تنفض غبار الحرب، وتبتسم، وتصبح أندى من وردة، وأنقى من ماء الكوثر، وأشهى من حورية الجنة. هذه هي صوفي التي أعطتني الحياة كلها منذ عرفتها وعرفتني. لم تنكسر يوما وها هي تواجه كل وحوش الموت دفعة واحدة بالصبر وصناعة الأمل. لذلك كله أعادت لي صوفي هذا النهار طاقتي الحيوية بكامل عنفوانها المتدفق.
غزة وصوفي والحياة القادمة:
صوفي أكثرنا؛ نحن الأصدقاء، انغماساً بالحرب كانغماس سلمى أم النضال في المظاهرات ضد الجيش الأمريكي في حربه على العراق، ليس لها شغل في هذه الأيام سوى الحرب ومتابعتها، أصبح قاموسها ثريا بمفردات الحرب وقصص الحرب ومواقف الحرب. صوفي شهدت كل حروب غزة، مثلي تماماً، وولدت مثلي في سياق الاحتلال والحرب، تدرك على نحو عميق ما يواجهنا من مؤامرات دولية وإقليمية وتواطؤ محليّ، تعرف ذلك واختبرته كثيرا وطويلا، ولها في ذلك تجارب، وتسرّبه بين سطور الكتابة بحذر شديد.
صوفي هي سرّ غزة، وكتاب غزة المتحرك، عقلها ووجدانها مكتنزان بكل تفاصيل هذه المدينة المنكوبة. عندما زارت غزة لم أطلب منها سوى أن تحضر لي كيس رمل من شواطئ بحر غزة. إنه ما زال معها، تحتفظ به للقائنا الموعود. كانت فرحة جدا وهي تخبرني أن حفنة الرمل معها.
على الرغم مما تعاني غزة الآن إلا أنها مدينة لا تحتاج إلى رثاء، لأنها لم تمت ولن تموت، ولكل من اسمه نصيب، والمدن كالأشخاص، فغزة قوية كصوفي، لن تنكسر مهما حدث، ستقوم كما قامت صوفي واستنقذت نفسها في آخر محطة من محطات الحياة، محطة ما قبل الموت بقليل، ستواصل غزة استئصال الكيان الغاصب، هذا الاحتلال الذي يتمدد في جسد الأرض ليلتهمها لكنه لن يفلح في ذلك، فالحياة دوما لها الحق في أن تكون موجودة، لا الموت.
صوفي في هذه الحرب التي فتحت عيوننا، وأذهلتنا كثيرا وطويلا، لم تستطع الكتابة، أنا مثل صوفي لم أكتب إلا منذ اليوم الخامس عشر، احتجت إلى خمسة عشر يوما لأستوعب ما جرى، صوفي أكثر حكمة مني بلا شك، فهي ستحتاج أكثر، لعلها لا تريد أن يخمد توهج النور في عينيها وفي قلبها، ولا أن تبرد نارها، تترقب مثلي تماما بل مثلنا جميعا، كيف سينجلي الظلام، ويشرق الصباح.
سيأتي هذا الصباح بلا شك، “وحننضف” على طريقتنا، وليس على طريقة النكرة المرحِّب بالجيش الأمريكي، وقتلوه، وستغرد صوفي أغنيتها التي تحبها: “راجعين يا هوى، على دار الهوى، على نار الهوى… راجعين”. ستصبح غزة بخير بكل تأكيد، فالله لن يتركها وحيدة، فالله قد رضي عن غزة، كما رضي عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فالمدن أيضا كالأنبياء والصالحين، سواء بسواء، وستعود إليها طاقتها الحيوية، ويعود يسري الدم في عروق أبنائها، ليعودوا إلى الحياة، وينجبوا الأبطال، كما هي عادة غزة التي لن تتخلف ولو مرة واحدة في عمر هذا الكون الضارب في عمق التاريخ، بعد أن أثبتت المقاومة أن الحديد بالحديد يفلح، وتتحقق نبوءة الفنان حسن حسني، وتعود للأمة كلها طاقتها الحيوية، غير المقتصرة على إنجاب الأطفال، أبطال المستقبل، وحماتنا من الغزاة المحتملين، بل أيضا طاقة حيوية للحب والتعمير والبناء، وإثبات أننا لن ننكسر ما دمنا نحب الله وغزة والحياة، وننجب ملايين الأطفال لا ليكونوا بديلا عن الذين اختارهم الله طيورا خضراء في جنته، بل ليكونوا أبطالاً يسومون الأعداء سوء العذاب.
سيشهد بحر غزة علينا أنا وصوفي، ونحن نسير حفاة على شاطئه، ونغني ونضحك بصوت عالٍ، ويكون التاريخ قد خط في سفره الأبدي أن غزة لن تموت، سيعمرها الحب والتقوى والجمال والإنسانية، ما دامت المقاومة باقية والشعب يرفض أن يهاجر صارخا في وجه الاستكبار العالمي: “نرفض نحنا نموت، قولولن رح نبقى بأرضك والبيوت”. حبيبتي يا غزة، وحبيبتي أنتِ يا صوفي.