في عام 1994م نشر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيدكتابه المهم باللغة الإنجليزية عن المثقف والسلطة، وعنوانه (Representations of the Intellectual)وفي عام 2006م ترجم الدكتورمحمد عباني، كتاب أدوارد للغة العربية تحت عنوان المثقَّف والسلطة، ونوه المترجم في مقدمة الكتاب إلى أنه اختار هذا العنوان بدلاً من الاعتماد على الترجمة الحرفية للنسخة الاصلية بالانجليزية لأن نقل كلمة representation)) للعربية يسبِّب له «عنتًا شديدًا» لأن الكلمة ذاتها حمَّالة أوجه و«متشابكة الدلالات» خصوصًا في تنوِّع توظيف المفكر سعيد ادوارد لها في ثنايا الكتاب. وفي جميع الأحوال وتحث أي عنوان حظى الكتاب وقت نشره مترجما للعربية ولايزال كعادة معظم كتب أدوارد بنصيب وافراً من الاهتمام والتدوال والدراسة والنقد.
ففي مائتين وثمانية صفحة، موزعة على ستة فصول قدم أدوارد دراسة قيمة جداً، عن العلاقة الشائكة المعقدة بين المثقف الانسان والسلطة بأشكالها المتعددة والمتنوعة من سلطة الدولة و سلطة المجتمع إلى سلطة الأيديولوجيا و المال و النفوذ..متطرقا بشكل موسع لتعريف المثقف،وتعريف المفكر محدداً مهام كل منهما،ليخلص في أحد فصول الكتاب للقول، بأن الانسان المثقف يجدر به أن يمتلك وعياً مختلفاً عن الاخرين، وعياً نقدياً -بحسب ادوارد- يمكن بواسطته أن يكون المثقف قادراً على تفسير الواقع وتحليله أيضا.كما يميز أدوارد في كتابه بين نوعين من المثقفين فيشير لوجود مثقف تقليدي يؤدي عمله بشكل روتيني وغالباً مايكون هذا العمل متكرراً وبنفس النمط والمضمون وعلى مدى سنوات طويلة، ويعطى مثالاً لذلك على مايقدمة المعلم أوالكاهن.أما المثقف المنسق فهو المرتبط بشكل مباشر بالطبقات او المشروعات التي تسعى لتحقيق وتنظيم مصالحها، والتي في الغالب أيضا تسعى لاكتساب المزيد من السلطات، وحتى المزيد من اعمال الرقابة، والمثقف المتسق هو الذي يشارك بإيجابية في النشاطات الاجتماعية ويناضل في سبيل تغيير الأفكار وتطويرالمؤسسات بشكل عام.
وفي سياق أخر فالمثقف الحقيقي عند ادوارد سعيد كما وصفه في هذا الكتاب هو «من لديه افكار يعبرعنها لغيره وعليه ان يستمسك بقيم الحرية والعدالة،ولايقبل بالحلول الوسط، كما يجب كما عليه التحدث باسم العامة في معارضة جميع اشكال السلطة منطلقاً مما يؤمن به من قيم ومبادئ انسانية عامة ومؤكداً ان ينهض المثقف بدور الهاوي وليس المحترف».
فصول كتاب أدوارد الستة تكمل بعضها البعض، وتعطى للقاري بوضوح وجهة نظرهذا المفكر حول قضية متشابكة خاض فيها قبله وبعده كثير من الكتاب والمفكرين، قضية علاقة المثقفون بالسلطة،ودورهم المناط بهم في هذا السياق،فأستعرض في الكتاب صور تمثيل المثقَّف، وحددهما بتعريفين مختلفين مستشهداً براي انطونيو غرامشي من «إن جميع الناس مفكرون، لكن وظيفة المثقف أو المفكِّر في المجتمع لا يقوم بها كلُّ الناس». كما ركز أدوارد في هذا الفصل على أن المثقف ليس مجرد مهنة يمارسها شخص محدد، ينظرإلى عمله، باعتباره «شيئًا يؤديه لكسب الرِّزق، ما بين التَّاسعة صباحًا والخامسة مساءً، وعينه على السَّاعة، والعين الأخرى مصوبة نحو ما يُعتبره السُّلوك المهني الصَّحيح؛ أي عدم قلقلة المركب، وعدم الانفلات خارج النَّماذج أو الحدود المقبولة، وأن يجعل نفسه قابلًا للتَّسويق، وقبل كل شيء، لائق المظهر، ومن ثمَّ، يصبح لا خلاف عليه، ويصبح غير سياسيِّ؛ بل يصبح موضوعيًّا».. لكن المثقف عند ادوارد سعيد شخص «يتمتَّع بموهبة خاصة» يمكن من خلال هذه الموهبة نقل رسالة ما أو وجهة نظر، أو فلسفة معينةأو تبني موقف معين.
كما لخص ادوارد سعيد الاختلاف بين الثقافات والمثقفين مبيناً أن «كلُّ مثقَّف يعكس واقعًا معينًا لبلد معين لتاريخ معين لأحداث معينة لفشل أو لانتصار معيَّنين». يبدو في العالم العربي خصوصًا أنَّ دور المثقَّف هامشيٌّ، لأنَّ السلطة هي سلطة المجتمع والسياسة وسلطة رجال الدين هي السائدة، وعبِّر ادوارد سعيد في كتابه عن منفى المثقَّفين مبيناً أنه يمكن تقسيم المثقفين إلى منتمين وغير منتمين. فالمنتمون لمجتمعاتهم ويتكيَّفون في واقعها القائم والذين تزدهر أحوالهم فيها دون الإحساس بالاختلاف والمغايرة وهم أولئك الذين هم من ناصية «نعم» أما الذين هم في شقاق مع واقع مجتمعاتهم والذين هم من ناصية «لا» والمنفيُّون من مزايا السلطة ومظاهر التكريم،موضحا «إنَّ المغترب الذي يدفعه إحساس المنفى لا يستجيب إلى منطق ما هو تقليدي عرفي بل إلى شجاعة التجاسر، وإلى تمثيل التغيير، والتقدُّم إلى الأمام لا الثبات دون حركة».
ومع ان المفكر ادوارد سعيد تناول بشكل موسع ومستفيض علاقة المثقف بالسلطة منذ اكثر من عقدين من الزمان، الا انه أكد انه «وعلى مر التاريخ الحديث، فكل الثوراث كان محركها المثقفين» وقد حدد أدوار هؤلاء المثقفين لكنه لم يتنبأ إن صحت المفردة أو لم يحدد مكانة المثفقين في هذه الثوراث، كما لم يحدد طبيعة هذه الثوراث، وماذا قدم لها المثقف؟!
____________
نشر بموقع المستقل