تستدرجني ذاكرتي على أعتاب الكهولة فأرحل معها بتحنان صوب مرافيء الحلم الجميل هناك على عتبات طفولتي الموغلة في البداوة، وأنا أهش على غنمي بعصا من جريد نخلة جدي الوحيدة التي غرسها على شاطئ وادي العين بشط الشواعر، أراني هناك طفلاً بدوياً غريراً يمشي بشموخ خلف قطيعه الصغير المختلط من أغنام وعنزات جدتي الحاجة فاطمة الشاعري، وأنا أتأمل وادي العين الفسيح والأراضي الخضراء المترامية على مد البصر، والتقاء الصحراء بالبحر الأزرق الشاسع، وتقافز الجديان المستمر ونوبات النطاح التي تلجأ إليها فحول قطيعي الصغير وهي تشعر بالشبع والارتواء من ماء المطر الذي هطل ليلة البارحة، وأنا أتابع فوضى القطيع وتدافع بعض نعاجه لقضم براعم الأعشاب الناتئة بين صخور الشاطئ المتعرج، وأرقب ذلك العصفور الصغير بريشه الجميل وهو يطير من عوسجة إلى أخرى باطمئنان غير مبال بي ولا بجلبة قطيعي السعيد، أقترب من العصفور حتى أكاد أمسك به فيطير دونما خوف على ما يبدو ليحط من جديد على بعد خطوات من قدمي، فأحاول مخاتلته ومخالسة النظر باتجاه الأغنام، وأرتمي عليه بسعادة ظناً مني بأنه لن يفلت هذه المرة، لأفاجأ به يزقزق أعلى أجمة من نبات ” الحلاب” وأنظر في عينيه بحنق فلا أجد سوى نظرة محايدة كأنه جبل عليها، أو بقايا بريق يشع من عينيه الصغيرتين يدعوني للتحدي من جديد، وأظل هكذا في صراع مع هذا الكائن العنيد، محاولاً خداعه دون جدوى حتى تسقط الشمس في البحر ويحل المساء، فأرتد على أثري قصصاً، مقتفياً أثر أرجل نعجاتي التي تعرف في الغالب أقصر الطرق للحظيرة، فأجد والدتي بابتسامتها البدوية الجميلة التي تشوبها شماتة محببة وهي تقول:
كملت يومك وراء ” ملهاة أم الرعيان ؟؟ –
– انظر ملابسك كلها حمراء من التراب
– لن تتحصل على طير واحد منها … وإن تحصلت لن يشبعك
– أنت تضيع وقتك يا وليدي فيما لا ينفع !!!
تلوح لي الآن عبر الغياب ابتسامتها الحنون، وترن في مسمعي كلماتها التي مضى عليها عمر طويل، وأنا أنفق مزيداً من الوقت هنا عبر الكتابة، والصحافة، والانترنت، و” الفيس بوك ” فيما ينفع وما لا ينفع، وصدى صوت والدتي ينادي في الآفاق:
أنت تضيع العمر وراء ” ملهاة أم الرعيان”
وأكرر المحاولة ولا أتوب
مطروح: صيف 2010م