هاجر الطيار
الشمس تغط بنومها العميق، تتململ في الغسق، وعينها الحمئة تغض الطرف مفسحة لهم جمع محصولهم الذي انتظروه طيلة موسم كامل. قطرات الندى مشبعة بعبق السنابل، وهبَّات النسيم العليل تحمل معها عطر المكان، وأهازيجهم توقظ العصافير التي ستشاطرهم الاحتفاء بموسمهم.
“منجلي يا منجلاه
راح للصايغ جلاه ما جلاه الا بعلبه
ريت هالعلبة عزاه منجلي يا ابو رزِّة
وانا شريتك من غزِّة”.
قد لا تكون الكلمات ذاتها، ولكن صوت أبي لا يزال عالقا يرن في أذني منذ ذلك الزمن الذي تبعدني عنه مسافة حفنة حب ودهر حنين. لم أتجاوز يومها العاشرة من عمري. كنت أرافقهم وأنا أفرك عينيَّ لتظلَّا مفتوحتين لأبصر معالم الطريق الوعر، فأفلح مرة وأفشل أخرى. قدماي تتعثران بكل قشة او حجر او حتى كومة تراب. أسقط فتعانقني الأرض بحنو، ثم أنهض وأواصل معهم المسير وأنا اترنح كطفل صغير بدأ للتو يدرج بخطواته الأولى على الأرض. تتسلل إلى جسدي الذي لا يزال يحتفظ بشيء من دفء الفراش قشعريرة خفيفة تجعلني أرتجف كسنبلة داعبتها الريح.
كنت أصغر إخوتي سنا وأرقهم عودا وأقربهم إلى قلب أبي، ذلك الرجل المعروف بعصبيته وصرامته وطباعه الصعبة التي لا تلين إلا إذا تعلق الأمر بي. فكان رحمه الله يمنع الجميع من تحميلي عبئاً قد أنوء بحمله.
وما أن نصل إلى وجهتنا حتى يحدد والدي مواقعنا المتقاربة، مسافة غمر بين أحدنا والثاني، ثم يعلن بداية موسم الحصاد، مطلقاً بصوته الأجش أول الأهازيج، فنردد جميعنا من بعده.
لم تكن الشمس لتصبر علينا طويلا. كنا ندخل معها في منافسة على الوقت، إذ أن يوم الحصاد مقترن بتشبع السنابل بقدر كاف من الندى، ذلك القدر الذي يحول دون انفصال السنبة عن القشة. وعندما تطير أخر قطرة ندى يعلن أبي انتهاء يوم الحصاد بقوله: “طار الندى”.
ننهض جميعنا من مواقعنا. نلملم غمارنا، وننفض عنا بقايا القش العالق في ثيابنا، ثم نتجه جميعاً لتناول وجبة الأفطار. لم يتجاوز إفطارنا في تلك الأيام حدود ما تجود به أرضنا: حبات بندورة وبصل وزيت وزيتون وزعتر، وبعض مما تخلله أمي، وأرغفة من خبزها المملح بعرق يديها، والمعجون بحبها، والمخبوز على نار الطابون الذين يشبه صبرها.
رائحة تلك الأيام تأسرني كلما حان موسم الحصاد الذي يحمل في طياته نفحات من الماضي الذي عشناه في صبانا، وما يزال يعيش فينا. لم نكن نتوقع أن ذلك كله سيصبح محطة عبور للذاكرة لا غير، تستريح فيها النفس حين يتملَّكها الحنين.
كنا نأكل مما نزرع، وكان للطعام حينها مذاق مختلف، فيه عبق من أهازيج أبي، ونكهة من صبر أُمِّـي.