الى روح الصديق العزيز الدكتور عبد الحميد المجراب في فراديس السماء
((كنت اعد هذه القصة لكي تكون ضمن كتابي الذي صدر في الفترة الاخيرة، قصص من عالم العرفان، لما يتوفر فيها من جوانب روحية عرفانية، ولكنني لحظة اعداد الكتاب للنشر، اكتشفت ان النص غير موجود ضمن ارشيف القصص كما تصورت، وكان البحث عنها يقتضي وقتا قد يوجل صدور الكتاب، فلم يتم نشر القصة، والان وقد عثرت عليها فقد رايت ان ادفع بها الى النشر عبر هذا الموقع وهي هنا تنشر لاول مرة توثيقا للحظة وداع مؤلم لصديق من اصدقاء العمر عليه رضوان الله))
لم افصح لاحد من الحاضرين ذلك اليوم، عماحدث لي مع صديقي الراحل عبد الحميد المجراب، اثناء وجود جثمانه مسجى في غرفة بمدخل المستشفي، وكنا مجموعة من رفاقه، قد اجتمعنا بهذا المستشفى القريب من مكان اقامته في مدينة نصر بالقاهرة، حيث نقل على عجل فجر ذلك اليوم لانقاذه من ازمة قلبية تعرض لها، وتوفى عند وصوله المستشفى، وكنا بانتظار انتهاء الاجراءات الامنية والقنصلية والقانونية التي يتطلبها نقل التابوت الذي يحمل جثمانه الى مطار القاهرة، ليعود على متن الطائرة المسافرة في نفس اليوم الى طرابلس، حيث تتم اجراءات دفنه في اليوم التالي بعد الصلاة على جثمانه، وقد وصلت الى المستشفى قبل وضع التابوت في السيارة التي تقله الى المطار، لاجد مجموعة من الاصدقاء جاءوا لوداعه، وتقديم العزاء لاحد افراد اسرته كان سيرافقه في رحلة العودة الى الوطن، واستاذنت رجل الامن المشرف على اتمام اجراءات النقل، ان ادخل الى الغرفة التي وضعوا فيها التابوت، لكي استطيع وداعه الوداع الاخير، ولم اكن ارجو الا ان اقف قرب راسه واقرا الفاتحة وادعو له بالرحمة والمغفرة واساله السماح والعفو اذا بدر مني شيئا لم انتبه اليه خلال سنوات الصداقة الطويلة التي بيننا فسببت له غضبا او ازعاجا، الا ان هذا المشرف الامني، وكان رجلا صبوح الوجه، انيق الهندام يرتدي الملابس المدنية وليس العسكرية، قال انه لم يقم بعد باقفال التابوت وختمه بالشمع كما يقتضى الاجراء، ومعناه انه يستطيع رفع الغطاء لكي ارى وجه الراحل، والقى عليه النظرة الاخيرة، كما حدث مع بقية الاصدقاء الذين حضروا قبلي، وتقدم فرفع غطاء التابوت، ثم ازاح جزءا من الكفن كان يغطي الوجه، ليظهر لي وجهه، ساكنا، هادئا، كانه في حالة نوم عميق، الا انني كنت اعرف انه النوم الابدي الذي لا قيام بعده، فهو الان بين يدي خالقه، يتهيأ للتآلف مع حياته الجديدة، في برزخ السلام والخلود، واستقبال اهل واحبة سبقوه الى عالم البقاء، يستعدون هم ايضا لاستقباله في غبطة وفرح، لم استطع ان امنع العبرات ان تهطل ولكن في صمت ودون صوت، وقد تركني الرجل الى طرف بعيد من الغرفة ربما يهيء الشمع الذي سيقفل به التابوت، وانا مستغرق في قراءة ما تيسر من ايات القرآن، واتامل هذا السلام وهذا الهدء وهذه السكينة التي تلف وجهه، مدركا انني لن ارى وجه صديقى بعد الان في عالم الاحياء. وفي غرفة من غرف الذاكرة يدور شريط خمسة وخمسين عاما، هي عمر الصداقة التي جمعتني به، منذ ان التقينا في مطلع الشباب لاول مرة، في حانوت صغير في شارع الساعدية بوسط طرابلس، كان مقرا لفرقة التمثيل المسرحي، التي انشأها عبد الحميد المجراب واسماها فرقة الامل، وكنت واحدا من اول الملتحقين بالفرقة، وعلى اجنحة الامل والمحبة مضت رحلة العمر عبر خمسة عقود ونصف حتى وصلت الى هذه المحطة الاخيرة التي حان فيها الفراق وانتهى اجل هذا الرفيق، علاقة ود لم تخالطها شوائب الخصومة والخلاف والشقاق على مدى هذه الاعوام الكثيرة، سار مركبها كانه قارب يتهادى فوق نهر الزمان في هدوء وامان وسلام، تسلمنا محطة الى اخرى، ومرفأ من مرافيء الحياة الى مرفأ آخر، وعلى عهد المحبة يتجدد اللقاء، وتتجدد الصداقة، وتنتهي مرحلة فرقة الامل لتتنامي اهتمامتنا الادبية واقدم له اول ديوان شعر يصدره بعنوان “رياح في المدينة” ويزودني بعنوان لاول مجموعة قصص اصدرها “البحر لا ماء فيه”، واذهب الى بيروت احمل مخطوط اول مجموعة مسرحية له لكي اتولى طباعتهامع كتاب لي وهي مجموعة “بلادك ياصالح”، وينتقل بنا النشاط الى الاذاعة حيث يقوم هو بالتاليف والاخراج واعداد البرامج التي استعان بي في تمثيلها، واقوم انا بكتابة المادة لبرامج، يتولى هو اختيار من يقوم باخراجها وتقديمها عندما كان مديرا اداريا للاذاعة، وتنقل بين مناصب ثقافية مديرا لهيئة المسرح ومديرا لفرقة الفنون الشعبية قبل ان تاتي مرحلة النزوح الى الخارج لتاسيس مراكز ثقافية كان يستعين بي في احياء برامجها وتقديم محاضرات لجمهورها، ويستقر بنا المقام سويا في مدينة القاهرة، لكي نتفاعل مع اجوائها الثقافية، ونلتقي برموز الفكر والادب والفن فيها، ونسعى لان نكون معا جسر تواصل تقافي بين البلدين وبين الشعبين، وكانت ايامه في مصر فرصة للاعتكاف على جمع انتاجه الادبي واعادة طباعته واصداره في خمس مجلدات تحمل اشعاره وبحوثه ومسرحياته، التي يؤكد بها بصمته في مسيرة الابداع الادبي والفني في بلاده قبل السفر الى عالم البقاء والخلود.
وقفت امام التابوت وصديقى الاعز عبد الحميد المجراب مسجى في هذا السرير الخشبي، الذي سينتقل به، الى بقعة من ارض ليبيا، وعاصمتها طرابلس، مدينته ومدينة اسلافه، ليدفن في ثراها، وتمتزج ذرات جسمه بتراب ارضها، فمن تراب خلقنا والى تراب نعود، ولا يبقى الا وجه ربك ذي الجلال والاكرام، سبحانه وتعالى، الملك القدوس، وانهيت دعائي وتلاوة ما تيسر من اي الذكر الحكيم، وانحنيت اطبع قبلة وداع على جبينه، وافترت شفتاي عن تحية اقولها له قبل ان اغادر المكان، قلت: “سلام الله عليك ورحمته وبركاته اخي عبد الحميد”… ولم يخالطني اي فزع، ولم اجد في الامر معجزة تقع خارج نطاق العقل والمنطق، عندما رأيت شفتيه تتحركان، وتهمسان همسا مسموعا، وصل الى اذني واصحا جليا لا لبس فيه: “وعليك سلام الله ورحمته ورضوانه اخي احمد”.
وقفت ذاهلا، هذا صحيح، الا انه ذهول الاعجاب والاكبار والاعتزاز بهذا الصديق، وليس ذهول الفزع والانزعاج لان انسانا تكلم وهو ميت، بل ان احساسا من النشوة والفرح سرى في جسمي، ازال من نفسي كل احاسيس المرارة والالم والفجيعة التي كانت تهز بدني، وتجعل العبرات تنسكب دون توقف من مآقي عيني. تقبلت ما حدث في تسليم بحقيقة انني امام رجل ليس كغيره من الناس، ولهذا لم اصرخ انادي الاصدقاء الجالسين في مدخل المستشفى مع قريبه الذي ينتظر السفر مع التابوت الى المطار، قائلا لهم تعالوا فقد عاد عبد الحميد المجراب الى الحياة. كنت اعرف انها النهاية، وان الرجل قد وصل الى ختام حياته، وانه انتقل الى الضفة الاخرى التي يذهب اليها الناس ولا يعودون. ولهذا فانه لم يراودني اي احساس خادع بان هذا الرد على تحيتي الذي جاءني بصوت واهن خافت هامس، والذي يبدو كانه قادم من عالم الغيب، يعني عودة صديقي عبد الحميد المجراب، من عالم الموتى الى عالم الاحياء. ليس فقط ليقيني بان الرجل قد فارق الحياة منذ بضع ساعات، وصدرت له من المستشفى شهادة وفاة، وامضى جزءا من هذه الساعات في ثلاجة الموتى، ولم يخرج منها الا منذ لحظات لكي يهيئونه للسفر الى بلاده، ولكن ايضا لانني اعرف معرفة الوثوق واليقين ان عبد الحميد المجراب رحمه الله، ينتمي لاهل الولاية من احباب الله، وانه اختار منذ سنوات كثيرة مضت انتهاج سبيل التصوف والتبتل والانصراف لعبادة خالق الكون، والاقتداء بسيرة الاجلاء من اهل التقوى والصلاح، اولياء الله الصالحين، الذي كما قال عنهم، جل وعلا، لاخوف عليهم ولا هم يحزنون، واعرف ايضا ان له تجليات عرفانية، وانه من اصحاب الكرامات التي يابى ان يتباهي بها، او يعلن للناس عنها، فهي تحصل في صمت وتكتم وسرية، وان هذه المكرمة من مكارم اهل الصلاح، عندما رد وهو ينام نومته الابدية على تحيتي، وهذه اللمحة الجليلة من لمحات العرفان، ليست غريبة على شخص مثله، قضى العقود الاخيرة من عمره، ناسكا متبتلا، يقضى ليله في العبادة والتواصل مع خالقه والذوبان في الروح الاعلى. وليس غريبا بعد ان خصنى بهذه الكرامة ان تغمرني فيوض كراماته بعد ان غادرت هذا الموقف، فارى ان مشاكل معيشية اعياني حلها، تتبخر مثل سحب الصيف من سماء حياتي، وارى سعة في الرزق، وصفاء في النفس، وجمالا في محيط العمل والعائلة يظهر لي، فاعرف انه صاحب الفضل في هذه النفحات من الخير والهناء والسعادة، وانه ابى الا ان يكون مصدر سعادة لي، في حياته وبعد مماته، رضوان الله عليه.
______________
نشر بموقع ليبيا المستقبل