يقول أنسي الحاج في خواتمه: “بإمكان كاتب واحد، بما له من ثقل معنوي، أن يقمع مجتمعه أكثر مما يفعل طاغية”.
سؤال تطرحه هذه العبارة الحادة للشاعر والكاتب المتأمل أنسي الحاج: كيف يمكن لكاتب لا يملك إلا الحبر والورق وقليل من القراء أن يقمع مجتمعا برمته ويتحول مشروعه الفكري إلى نوع من الطغيان؟
قد يبدو توصيف (كاتب) في هذا السياق واسعا وعاما إلى حد كبير، وربما نذهب إلى تخصيص يقربنا من هذه الصورة بناء على حجج تاريخية، فالمفكر وحده، أو المصلح بالمعنى الإجرائي، يمكن أن يكون له تأثير أوضح في المجتمع، ولن يتأكد هذا التأثير ويصبح له ثقل معنوي، للدرجة التي يمكن وصفه بنوع من القمع، إلا عندما تتبنى أفكاره سلطة تبحث عن مضمون فكري لمشروعها، فالمفكر من حقه أن يجتهد ويشطح بأفكاره كيفما يشاء لأن غاية ما يطلبه أن تكون بين دفتي كتاب، وأن تكون عرضة للجدل والنقاش, لكن حين يتبنى صاحب مشروع سلطوي، أو ثوري، هذه الأفكار سيحيلها إلى أيديولوجيا مغلقة عبر تأويلها واختزالها إلى لافتات وشعارات، وهذا الزواج بين المفكر والسلطة كثيرا ما أنتج نظما قمعية لا تنصت سوى لمونولوجها الداخلي. فأين يلتقي المفكر والعسكري؟ وما الذي يجعل العسكري يقع اختياره على مفكر بعينه ليكون مصدر إلهامه؟
أيضا تخبرنا التجربة أن النزوع الثوري الذي يطمح لتغييرات جذرية، واليوتوبيا الحالمة، هما المعبد المناسب لإجراء طقوس عقد القران هذه، بالطريقة نفسها التي أول فيها هتلر – نيتشة وهيدجر، أو موسيليني – جوستاف لوبون، أو ستالين – ماركس، إلى آخر قائمة طويلة من مثل هذه الثنائيات.
****
مثلت الستينيات في الذاكرة الليبية عقد الترميم الكامل لمقومات الكيان الليبي الناشئ، فهي المرحلة التي أعقبت صراعات عالمية على هذه الأرض، نمت في حضنها صراعات اجتماعية شكلت الأقاليم والقبائل الكثير من حيويتها. وعلى هامش هذه الصراعات، ومن داخل النخب الثقافية، برزت العديد من التيارات محدثة طفرة سياسية تستجيب لحراك المحيط العربي، بينما على المستوى الاقتصادي شكلت بداية إنتاج النفط طفرة اجتماعية، تمثلت في ارتفاع نسبي لمستوى الحياة، وفي تبرعم برجوازية وطنية مرتبكة، وحدود غير مرئية لبنية طبقية. بدأت ملامح طبقة وسطى من الأعيان والتكنوقراط تتشكل بخجل ضمنها، وكان افتتاح أول جامعة ليبية العامل الأساسي في تغذية هذه الطفرات بالمحتوى التقني والمعرفي، إضافة إلى استثمارها كفضاء لحراك ثقافي، ساهم فيه العديد من الطلاب من جميع أنحاء ليبيا عبر تفاعلهم مع أساتذة مميزين، جاءوا من ثقافات عربية مختلفة، ومع نخب سياسية سابقة، كانت تطرح مشاريعها الهامسة في نسيج الحركة الليبية بكل أقانيمها، وفي هكذا مناخ خرج العديد من الكتاب المستجيبين لهذه الطفرات في مجتمع مازال يتلمس مكونات هويته وعلامات مستقبله، وكان النيهوم أبرز المتفاعلين مع هذه المتغيرات، كنابش أساسي في بنى التخلف المحيطة وطبيعة العلاقات الأبوية المهيمنة، وقد تفرد ضمن جيله في تأجيج حس نقدي عالٍ تجاه الكثير من التابوهات المسكوت عنها، وفي المجمل لم تخلُ كل هذه التفاعلات من روح المغامرة والاستعجال، التي شكلت السمة التاريخية لهذا النسيج الاجتماعي، في الرحيل والحروب والاقتصاد والسياسة، وفي الإبداع والثقافة والفكر.. وعموماً كانت المغامرة المحسوبة نادراً، أو غير المحسوبة غالباً، تمظهراً لهوية مراوغة، أو تعلقاً بيوتوبيا منسوجة في الفضاء كعرجون بلح يلمع فوق عيني كسيح، أو درباً إلى الاندثار تحت رمال الصحراء التي تسوقها ريح التاريخ التي لا تهدأ.
من هكذا امتداد حائر في الزمان والمكان، ملتبس الهوية، متضارب الأهواء، يظهر كاتب سجالي حتى النخاع كالصادق النيهوم، الكاتب الليبي النكهة العالمي المواطنة، الهيبي الرافض لاصطلاحات الثقافة الغربية، الذي يقول: إن الحاج الزروق في داخلي، والذي يقول أيضاً : أنا لا اتفق مع الليبيين في شيء.
****
في جانب آخر كان عسكري صغير من الهامش يتأهب في عقد الستينيات، وهو مشحون بشعارات المنطقة الصادحة فيما يتعلق بالقومية والتحرر، يتأهب للانقضاض على الدولة الناشئة، وكان مأخوذا بنجم بدأ يسطع في الساحة الليبية بشعبيته المتزايدة، وبأفكاره الغريبة على النثر الليبي، وبروحه المشاكسة والمغامرة والكثير من الصعلكة التي في مجملها أغرت الثوري الحائر بأن يكون، بوعي أو دون وعي، أحد تلاميذ النيهوم، للدرجة التي حاول أن يقلده في ما بعد في أسلوب الكتابة، بل وانتسخ قصة قصيرة سبق أن كتبها النيهوم عن مهندس يقفل مصنعه فيجد نفسه عاطلا عن العمل وينتهي بالانتحار، ليعيدها القذافي في قصته انتحار رائد الفضاء التي جعلها عنواناً لمجموعته القصصية، وهو التأثر الواضح الذي جعل الليبيين يتهمون النيهوم بكونه من يقف وراء تأليف الكتاب الأخضر، رغم ركاكة أسلوبه وسطحية أفكاره التي لا تنطبق مطلقا على أسلوب النيهوم وعمق تحليلاته، وإن كان يلتقي معه في فكرة رئيسية تتعلق بنقد النيهوم، بل سخريته، من كل الأطروحات السائدة والبحث عن بديل ثالث لأيديولوجيتين تهيمنان على العالم .
****
انطلاقا من هذا المدخل يمكن تلمس نقاط تشابه كثيرة، مثل المشابهة التي تحدث لطالب غبي يغش بطرف عينه من طالب نبيه، وهو تشابه يعزز فكرة هذا التأثر من قبل عسكري بمفكر، رغم أن هذه العلاقة التي لم تنقطع ولم تتطور اتسمت بتوجس متبادل لم تخفف من وسواسه اللقاءات المتكررة بينهما، علاقة سمتها المد والجزر لأنها كانت مربكة للاثنين، فنرجسية القذافي وأوهام العظمة كان يعكرها إحساسه بهذا الاستلاب الضمني، واستقلالية النيهوم في التفكير كان يشوبها إحساس بان كثير من شطحاته بدأت تؤثر في حياة مجتمعه اليومية، فكان على القذافي أن يطلق على نفسه صفة المفكر، وعلى النيهوم أن يختار المنفى من أجل الهروب بمشروعه التنويري وإعادة توطيده عبر العمل الموسوعي، وعبر إعادة كتابة تاريخنا، طارحا في إحدى مقالاته سؤاله الأساسي: أين خسرنا ولماذا؟.
هذه العلاقة المتقلبة، ومن ثم عقدة التلمذة، التي شوشت على أوهام القذافي بالعظمة والتفرد، انعكست فيما بعد على ردة فعله أثناء حياة النيهوم وبعد وفاته، فيصدر تعليماته بأن يدفن جثمان النيهوم، القادم رفقة الكوني من جنيف، دون ضجة ودون احتفاء، وبعد سنوات، عام 2008م، أثناء زيارته لدار الكتب الوطنية، ببنغازي، يطلق اسم النيهوم على إحدى قاعاتها، ويوعز إلى مؤسسة الثقافة بإقامة مهرجان احتفاءً بالنيهوم أديباً ( في إشارة إلى كونه مجرد أديب ولا يوجد سوى مفكر واحد في ليبيا) . ليستمر المد والجزر في هذه العلاقة المرتبكة حتى بعد رحيل النيهوم.
****
في بعض حوارته المبكرة تحدث النيهوم عن سويسرا كنموذج للديمقراطية المباشرة، وورد هذا المثال في كثير من خطابات القذافي بعد مغامرته مع المجتمع الليبي في تصوره لديمقراطية شعبية مباشرة، في مجملها كانت تأويلا لفكرة نيهومية منزوعة من سياقها . يقول النيهوم أنا لا اتفق مع الليبيين في شيء، وشكى القذافي كثيراً من الليبيين الذين لم يفهموه، والذين لا يعرف ماذا يريدون منه، وهي الشكوى التي جعلت النيهوم في أحد لقاءاتهما يقترح عليه توجيه هذا السؤال لليبيين في المؤتمرات الشعبية، وهذا ما فعله في أول جلسة انعقاد.
كان النيهوم ولوعا باستخدام ترقيماته الخاصة التي تُلخص قضاياه المعقدة في ثلاثيات عديدة تمثل الأثافي التي تنهض عليها طريقته في المحاجة، والإدلاء بالأسباب المقنعة التي تقوم مقام التحليل العلمي، الذي كثيراً ما يتجنب الخوض فيه، فالقرآن أعاد توزيع المال بين ثلاث خانات، والصلاة الإسلامية تؤدى وفق شروط ثلاث، والمرابون اليهود غابت عنهم ثلاث حقائق، والاقتصاد تتغير أنماطه خلال ثلاث مراحل، ونظرية الحزب الواحد تقوم على ثلاث قواعد إدارية، وغير ذلك من الثلاثيات التي شكلت في الوقت نفسه آثافي اطروحات القذافي في السياسة والاقتصاد، وهيمت على تصنيفه لقضايا شائكة في كتابه الأخضر، بداية من تسميته بالنظرية العالمية الثالثة، إلى تصنيفه إلى ثلاث فصول، وليس بنهاية تقسيم الرفاه الاجتماعي إلى ثلاث مرتكزات، المسكن والمركوب والمعاش.
يرفض النيهوم مصطلحات الدولة المدنية لأنها لم ترد في القرآن، ويعتبر الأحزاب في العالم الثالث مجرد وكيل تجاري للأحزاب الرأسمالية الغربية، ويتوجه بنقده للأحاديث التي جاءت بعد القرآن، وللدعوة إلى تطبيق الشريعة في مجتمع غير شرعي. وهي مداخل لنقد التراث سنجدها تتكرر في خطابات القذافي مراراً، لكن النيهوم لا يكتفي بنقد التراث والتاريخ ولا بطرح الأسئلة، لكنه، وبروح المصلح، سيقترح حلوله الإجرائية الواثقة، متعاليا على الرد على منتقديه، بل ويصف كل من جادلوه “بأن الحوار معهم هو نوع من الحوار المستحيل بين طرشان” أو “الذين أرادوا أن يناقشوه نقاشاً أكاديمياً بارداً في الوقت الذي أراد فيه أن يخاطب العقول والمشاعر معاً” . لم يُخفِ النيهوم أصالة التمرد في خطابه وإن كان هذا التمرد مربوطاً برسن – يطول أحياناً ويقصر – إلى فكرة مسبقة تتمحور حولها أسئلته الساخنة، التي يراود بها فضاء اليوتوبيا المصفحة ضد النقاش، ومأزق اليوتوبيا، سواء أكانت أرضية أو سماوية، أنها أقرب الطرق إلى الاستبداد، حين تُلوى أعناق الأفكار والوقائع التاريخية من أجل خدمتها أو البرهنة على كونها الحقيقة الواحدة المتبقية، وحين تحط هذه اليوتوبيا على الأرض كمشروع سياسي تتحول إلى أشد مظاهر القمع والاستبداد، ما بالك إن تحولت إلى مشروع يقوده عسكري ممسوسا بأرواح الطغاة عبر التاريخ.
ثمة علاقة سرية بين الفكر والطغيان تتعزز بمجرد أن يُبنى الفكر على يقين صارم لا يراوده شك، فكر ينهض بقلاعه العصية عن النقد أو الحوار أو التجاوز، وهي طبيعة الفكر التي تستهوي الثوري الحائر، والتي غالباً ما يتم الهبوط بها اضطرارياً على أرض مفخخة، حيث يجد المفكر نفسه وقد تحول إلى مشروع نظري لدوافع السلطة، مشروع مدجج باليقين تشكل في تلك المسافة الشاسعة بين اليوتوبيا والواقع التاريخي، بين المثالية المطلقة والإنسانية المخلوقة من ضلع أعوج.
يقول النيهوم في إحدى مقالاته المنشورة بجريدة الحقيقة: “انتظر أن أجد لديكم استعداداً للمضي للخطوة التالية.. ولعل بينكم الآن من يستطيع أن يكون أكثر إيجابية مني، وعلى أية حال: أرجو أن لا ينسى أحد أن ما أقوله يعني بكل إخلاص ثلاث كلمات فقط “هذه تجربتي أنا”.
وبالمنحى نفسه رحل القذافي بعد أن قال: أنا لن انتهي لأنني موجود داخل كل ليبي، وكأن لسان حاله يقول عن تجربته في أربعة عقود: هذه تجربتي أنا.. وانتظر أن أجد لديكم استعدادا للمضي للخطوة التالية، ولعل بينكم من يستطيع أن يكون أكثر استبدادا مني.
لينهض تلاميذه المخلصون الذين يطبقون أطروحاته بحذافيرها رغم كراهيتهم له، والفارق أن النيهوم لم يجد التلاميذ الأذكياء الذين يستأنفون أسئلته الهامة، بينما نجح القذافي في أن يجد بيننا تلاميذه الكثر الأغبياء الذين مضوا بإخلاص للخطوة التالية في توطيد دعائم الاستبداد، وتدمير ما تبقى من ليبيا ومن روح شعبها وأحلامه.
_____________
نشر بموقع ليبيا المستقبل