من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك
تشكيل

متاهة الكائنات… فتنة البياض

في غرفة التشكيل الليبي المليء بالرموز والإشارات ينتحي الفنان علي الزويك ركناً قصياً، فيه يمارس طقوس فنه بهدوء بالغ، وينشغل كلياً بحفرياته في أغوار الذات، دون أن ينقطع عن زخم الراهن وكثافة اللحظة، في ذات الوقت الذي يرتبط فيه برباط وثيق مع ماضيه وتراثه وتاريخه، وتظهر نتائج اجتهاداته لاحقا في أعماله القليلة.

نلج مفازة التأويل وزوبعة المغزى وغابة الرؤى ما أن نتواجه والبياض الذي تكتظ به منجزات الزويك وتتهاطل الأسئلة بغزارة إزاء السطح المشتعل بالبياض، وكمتلقين تتملكنا الحيرة في مواجهته فتتدافع الأستفهامات. أهو الخواء المحض أم الخصب قيد الميلاد؟ ذاك البياض الهائل، هل هو الرجس أم الطُهر الناصع، الفتنة أم اللعنة، نقطة العمى أم فيوض الضوء، ثقب أبيض يجذب إليه الأشياء تمهيداً لابتلاعها أم مركز لتشتيت النور؟ اللا جدوى أم الأمل السكن أم العراء الفسيح؟، وقد استحال لحظة انكسار النظر عليه ملتقى للتناقضات وبؤرة تضاد لكل الممكنات.

وأية مخلوقات هائمة لا تحمل ملامح، تلك التي تسبح في اتساعه ويضطرم شوقها في أتون لا أنتهاءه، وأية ظلال أو خيالات أو أطياف تلك التي تجوس مائيات الفنان وقد تأسست على البلل بفعل تحلل الأصباغ اللونية في النداوة حال الأشتغال على الرطوبة التي تصنعها بقع الماء العريضة كاستهلال مبدئي لتأثيث بياض السطح، وحيثُ الأشكال لدينا قد تخلقها هندسة الصدفة ويطرحها الحظ،   في السعي من صاحب المُقترح المرئي لاستنباط وضعيات أُخرى للون غير وضعياته المعتادة عن طريق إعادة توزيعه بشكل فطري على السطح الرطب واستثمار خاصية الرقة والشفافية اللتان يتميز بهما، وحيثُ الجفاف هنا يعني نضوج الرؤية والتبخر بمثابة الأنتهاء من تفريغ الشُحنة الأنفعالية واكتمال صياغة الدفقة الشعورية والتجسيد للتجربة الروحية التي تشبه في وجه من وجوهها حالة الوجد الصوفي، لذا نجد أن بقدر ما في هذه العملية من بداهة وتلقائية وحتى عبث طفولي، بها من المفاهيم والبدايات المؤسسة لبُنى فنية مختلفة وسلوك واثق لدروب ممهدة.

وينهمك الفنان في خلق أشياءه الخاصة والتي هي بهيئة كائنات تدور في فلك المتاهة المشرعة على المطلق وتحُل في الفراغ وبلا خلفية أو قاعدة في الأعم تستند إليها، وكأنها قُدت من اللا شيء بينما المعنى كله ينطوي بداخلها، ويُتاح ذلك للفنان بضبطه لعملية التبقيع وإذابة الألوان في بعضها البعض برهافة وصبر ومراقبة أو مباركة عملية اقترانها الخلاق، والعمل على تهيئة شعائر تداخلها الغير تعسفي حتى درجة التحلل التام وانعدام الحدود الفاصلة فيما بينها في توجه جمعي تتضافر فيه كل امكاناتها ويتلاشى فيه الواحد لصالح الكل.

وتبدو البقع المنتشرة فوق السطح الأبيض بألوانها المبتكرة للرائي ككائنات مجهرية زئبقية هُلامية رخوة يستعصي احتواءها ويستحيل اقتناصها دون استخدام مجسات وملاقط خاصة، إذ لا مرجعيات جاهزة بمراكز التلقي يمكن بها التقاط المعنى وفض مغاليق الفكرة للوهلة الأولى، هذا في المقام الأول، ولعدم التقاء مستويات كل من منتج الرؤية – باث الخطاب – مع مشروع مثواه الأخير أحياناً – المتلقي  – مع وجود اتفاق ضمني بينهما على الوعاء الذي يتشكل بداخله الخطاب، ولا نكاد نتصور هاته الكائنات الهلامية السابحة، في غير هذا البياض، إذ لو حلت في ما عداه ما كانت  لتظهر بهذا الحضور الآسر والقوي المهيمن، وبالمقابل ما كان لهذا البياض أن يتألق ويصير له معنى لو لم يتجرأ ويحتضن هذه الأشكال الخارجة عن التعين والتجسد.

وفي ظل حضور الغمامة والضبابية وانتفاء التزيينية والتشخيص والتكوين واللعب بمهارة على سُلم الغموض والإبهام، قد تلعب العتبات هنا دوراً جوهرياً، عندما تكون منطلقاً لقراءة ما تم تدوينه باللون، وموجه نحو دلالات بعينها تتساوق مع مشمولات السطح وفي غير هذه الحالة قد تصلح لأن تكون جُمل ايحائية تأملية مكتفية بذاتها ويُستطاع قراءتها بمعزل عن العمل الذي تُصاحبه في أفضل الأحوال، ولا بأس من أن نورد بعضاً من هذه العتبات كأمثلة إذ نتصادف وعناوين للوحات الفنان ك “أستنطاق الجرة” و قاموس البهجة ” و”سجلات التشخيص” و”حروب لا تُروى تفاصيلها” و”التدرب على وشم الورد” وغيرها من العناوين فلا نستغرب وفقاً لهذا المنطق لما نتقاطع وخطاب تنظيري وتحليلي ببعض الزوايا الثقافية للفنان الكاتب يعاضد التجربة الفنية ويرفد صدق وجدية المقولة البصرية لديه أو اللوحة تحديداً، نقول هذا ونُحيل إلى بعض كتاباته القليلة ومساهماته في الصحافة المحلية.

إذ نعاين رُقي الخطاب في صياغته المتماسكة هذا ناهيك عن محمولاته المثقلة بالثقافة الفنية والتاريخية قديماً وحديثاً والتي تتجاوز النطاقين المحلي والإقليمي لتنفتح على العالمي بشكل يجعلنا نستشف القراءات المتنوعة والعميقة التي تقف وراء هذا الخطاب والقاعدة المعرفية التي تتأسس عليها التجربة في جانبيها التشكيلي والتحليلي. يأتي هذا في ظل تطور المشروع الفني للزويك وفي لا نمطية المنجز البصري لديه وعدم استقراره على اتجاه معين والقفز على السائد والمُهيمن وانتحاء ركن قصي كما أسلفنا في عملية اجتهاد متواصلة لطرق باب الأجد والمُغاير.

بالتوازي مع لا جنوحية المغامرة التشكيلية، ويتبدى ذلك خاصة في انتقالها الهادئ والمتزن من مرحلة إلى أخرى، وأقرب ما يدل على هذا التبصر والروية الأنعطافة الأخيرة بالأنفكاك من أسر بقايا المنهجية والتزيينية التي توجها بلوحة المدينة البيضاء التي لا يُذكر الزويك دونها باعتبارها أيقونته وقمة تجربته وما ذهب مذهبها من اللوحات الأخرى ليتبنى أسلوبه الحالي الذي يجوس مناطق المفاهيم واختزال الرؤى دون التنصل من الجانب الفني والأستغلال الأمثل للمادة المٌشتغل بها عبر ترميز الأشكال المُجسدة وتفكيك ذراتها إلى شيفرات وإشارات متوسلاُ في ذلك خامة المائية فقط مستثمراً جمالياتها وخواصها المتميزة لتنضيد التجربة.

وهذه الأحكام المبدئية والسريعة والألتقاطات العابرة هي نتاج تأمل عابر أيضا في لوحات الفنان كونه قليل لناحية مشاركاته في المعارض الفنية – خلال السنوات الأخيرة على الأقل محلياً – ولعدم امكانية الأطلاع على أعماله خارج نطاق الشبكة المعلوماتية العالمية وموقع الأتصال العالمي الفيس بوك، ولهذا تظل هذه الأحكام مجرد محاولة لملامسة عصب التجربة والأقتراب من بعض ملامحها، وهنا أدعو القارئ لهذا المقال إلى تأمل اللوحات المرفقة للحصول على قراءته الشخصية للوحات كونها أيضا قابلة للتعدد التأويلي والتنوع في الدلالات إن امكن بالأستعانة بما مر من أحكام وأراء احتواها المقال حتى تكتمل الرؤية وتتبلور الفكرة.

_________________________________

* كُتبت هذه المقاربة سنة 2008 ونُشرت بصحيفة الشمس الليبية.

مقالات ذات علاقة

المغترب

منصور أبوشناف

أنصتت هادئة لطينتها الطيبة فأبدعت وتميزت بهدوء

المشرف العام

وقفة مع الفنانة مرام حمودة

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق