منذ بدايتها الأولى ظلت القصة القصيرة في ليبيا فناً مدينياً، فن تنتجه المدينة ليعبر عنها.. عن أحلامها وطموحاتها وإحباطاتها، ربما لأن الشعر وهذا افتراض قابل للنقاش، كان فناً ريفياً، يحن إلى الريف ويرسم صوره ومزاجه عبر قيم وجماليات الريف، بل وإيقاعاته، على العكس من ذلك، ولدت القصة القصيرة في ليبيا كأداة مدينية، ليس بالطبع بإمكاني تسميتها بشعر أو قصيدة المدينة، رغم الشعرية الحالية التي طبعت القصة القصيرة الليبية خاصة فترة السبعينات وجعلت كاتب قصة كـ(عمر الككلي) يقول بالقصة القصيرة، قلت ليس بإمكاني تسميتها بقصيدة المدينة مثلاً، ولذا عنونت هذه الورقة (بنثر المدينة) وذلك اعتقاداً مني بأن القصة القصيرة الليبية هي نثر وأدب المدينة الليبية الحقيقي، الذي ولد وترعرع وتكوَّن مدينياً تماماً.
ربما قدمت القصة القصيرة الليبية بادية وريفاً وواحة، ولكنها قدمتها كاستيعاب مديني لهذه البيئات، وقادني هذا الاستنتاج إلى استنتاج آخر (سوسيولوجي) بالدرجة الأولى، مفاده أن الاستقرار والارتباط بالمكان قد وصل في تلك الفترة إلى مرحلة التعبير عن النفس، أو عن حالة الاستقرار والارتباط بالمكان، إلى مرحلة إنتاج الفنون والآداب، التي كانت القصة القصيرة أقواها وأكثرها تعبيراً.
لقد كان النثر، النفي الدائم للغنائية الرعوية التي طبعت الشعر، رغم تأفف الفنانين، ليس في ليبيا بل في العالم، لكأن صرخة كازانتاكي (هذه المدينة نثر رديء)، كانت تعبيراً حقيقياً وصادقاً عن الحنين إلى الغنائية والريف، وبالتالي إلى الشعر الذي لم تخل منه ليبيا رغم صمود نزعة الاستقرار والرغبة في التمدين فترة السبعينات وحتى الآن، وتراجعها الأمر الذي جعل القصة القصيرة في ليبيا كما أسلفت تحن إلى الشعر أحياناً وجعل الشعر في أحيان أخرى يلهث باتجاه النثر، لكأن تداول الشعر والنثر على النص في ليبيا هو تداول الرعوي والمدني على الساحة الاجتماعية.
كانت قضايا ما بعد الاستقرار ربما بالإمكان تسميتها أيضاً قضايا تأسيس الكيان، وتأثيث المكان والتعبير عن الارتباط الوجداني به، قضايا القصة القصيرة الليبية مثل تعليم المرأة وحريتها، وأسئلة التأسيس والنهضة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكان كل ذلك مواجهة للقيم الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الرعوي والريفي (ولابد من الإشارة إلى التداخل المربك بين قيم المجتمع الرعوي والريفي في ليبيا)، وكان بالطبع مواجهة لغنائية الرعوي والريفي لصالح (نثر المدينة) ولاستقرارها وارتباطها، لعلاقة (التاريخ) بالمكان للمؤسسة والنادي، والأهم للقراءة والكتابة، وكانت العلاقة بالورق، الظاهرة المدينية رحم (النثر) الذي أخذ ينمو مع الاستقرار وتكون المدينة الحديثة، وكانت (القصة القصيرة) أهم نثر ليبي عبر عن المدينة وارتباكاتها.
ولكنها مدينة (ولابد من إيضاح ذلك) مدينة مختلفة لا ينطبق عليها تعريف المدينة المتعارف عليه في الآداب الأوربية، فهي مدينة لم تنمْ على أسسٍ اقتصادية كتلك التي نمت عليها المدينة الأوربية، وكما هو معروف كمركز لتسويق وتصنيع منتجات ريف وافر الإنتاج، هذا الذي أدى إلى عمارة وفنون ومواصلات وعلامات اجتماعية لها شكل محدد وواضح الملامح.. إنها مدينة بلا قطارات، وبلا نهر وبلا مصنع حقيقي، إنها ما عرفه علماء الاجتماع والاقتصاد بمدن الخدمات، ولكنها أيضاً متواضعة الخدمات عند تألقها، وسيئة الخدمات غالباً.
هكذا يفارق مشهد القصة القصيرة الليبية مشهد القصة الأوربية، ويفارق نثر المدينة الليبية، نثر مدن شقيقة سبقتها في نثرها، وهنا لابد من مراجعة توصيفاتنا الأوربية الجاهزة للقصة، عند تطبيقها على نثر مدينة مختلفة كالمدينة الليبية، وأيضاً وذلك (بارادوكسي) النقد لا يمكن حتى الآن تطبيق توصيف نقدي آخر غير الجاهز الأوربي مع محاولة توطينه، لقد وجد الناقد وهو ناثر آخر يمارس نثر المدينة، وجد نفسه يهاجم (السانية) ويقلع مزروعاتها ويلسط أسلحته الأوربية على نثر طرابلس مثلاً لقيم (ويسله).
إن المكان الذي بدأ الليبي يؤسس علاقته الوجدانية به تتم مصادرته من (أيقونات) الإنسان الليبي ليملأ بأيقونات غير مقدسة، ولكنها بالطبع قابلة للتقديس عبر الزمن، وتعطي هذه الحضارة المصادرة للرعوي والريفي، تعطي للغنائي الحق والحافز في المقاومة بشراسة أكبر، لتصعد الغنائية لاحتلال نثر المدينة ولتهاجم القبائل مؤسسات المدن، وهكذا تصبح غنائية القصة وإيقاعات لغتها الظاهرة ملجأ للاحتماء، إنها تقية النثر تجاه سلطان الشعر، إن قصص (أحمد إبراهيم الفقيه)، وخاصة (اختفت النجوم فأين أنت) مثال صارخ على تلك التقنية، فهي قصص الريفي المهاجر ومحاولاته للتطور وإصراره عليه وكل ذلك على (الصعيد الفردي) بتقنية النثر المتمسح بالشعر أو المدينة المتمسحة بالرعوي الريفي، على الطرف الآخر ينتصب (جدار) (يوسف الشريف)، بين قيم الرعوي الريفي والمديني أو بتعبير أدق بين المديني الساكن الرّيفي القيم، الغنائي اللغة والنزعة وبين المديني الذي يسعى للنهوض وللنثر.
إنه الاكتشاف بأن (نثر المدينة ليس إلا دم أصبع مجروح) وليس دم بكارة، فالمدينة التي أحبها كتاب القصة، كانت بلا بكارة وكل عطورها وحليها وأيقوناتها كل (سوانيها) وحرفها وصناعاتها ووشمها تم تدميره وانتهاكه، لصالح عطور أخرى وحلي وأيقونات أخرى، إن عقدة (أوديب) (ها أنا أسلط أسلحة أوربية على (السانية) وعلى نثر مدينة لا علاقة لها بيوفوكليس)، قلت أن عقدة أوديب تحولت إلى عقدة (إليكترا) عند ناثر المدينة.. سأترك كل هذا الآن لأعود إليه فيما بعد..
ظل بطل القصة الليبية في الغالب ريفياً أو بدوياً يتمدن، يحاول أن يستقر ويبتني علاقة بالمكان، ظل البدور تائها ومرفوضاً إن لم يتخلص من بداوته في المدينة لفترة، وظلت العلاقة بالمرأة لهذا البطل المقياس في انتمائه للنثر أو للغنائي وكل ذلك يتم في علاقة تتمسك بالمكان، بالمدينة.. إن الحديقة والمقهى والمكتب والشارع أمكنة القصة القصيرة الليبية الغالبة، والفاعل في هذه الأمكنة طموح ومتناقض، ينظر إلى الأمام وإلى الخلف ويحلم بالحرية والمرأة المثال والخصوبة والقطارات والأنهار والبارات وينتشي بذكرى رائحة الأم، رائحة الرعوي الريفي.. إن المشهد المديني في القصة القصيرة الليبية يسود دائماً دون أن تختفي منه بقع الرعوية الريفي عند غالبية إن ليس كل كتاب القصة القصيرة، من (الدلنسي) و(المصراتي) و(المقهور) و(يوسف الشريف) و(الفقيه) و(بوشويشة)، وحتى (الككلي) و(العبار) (الزنتاني) إلى (الأوجلي) و(حميدان)، مع اختلاف اتساع بقع الرعوي الريفي في كل منهم، قلت ظل المشهد المديني وظلت المدينة بيئة القصة القصيرة الليبية.
كان البطل الإيجابي الحامل لتناقضه مع هذه الإيجابية هو النموذج المسيطر على فعل القصة القصيرة الليبية، كان المتعلم والعامل الطموح والمرأة المقهورة أبطال نثر المدينة الإيجابية، كان الوطنيون الرومانتكيون الحالمون بالتطور والتغير مفردات نثر المدينة البراقة المتوهجة، وأبطال القصة القصيرة الليبية، إن إبطال (المقهور) و(الفقيه) و(يوسف الشريف) أبطال يناضلون ضد الريفي الرعوي محاولين الانتصار للمدينة ولنثرها، وتعيدني هذه الإيجابية إلى عقدة (أوديب) و(إليكترا) فالتعلق بالبكارة والاشتهاء ورغم (دم الأصبع المجروح) المستعاض به عن دم البكارة، فإن المدينة ساحتهم التي يناضلون فيها ومن أجلها، ليست لها رائحة الأم فكل عطورها وحليها وأيقوناتها كل (سوانيها)، وحرثها وصناعاتها ووشمها تم تدميره وانتهاكه لصالح عطور أخرى، وحلي أخرى وأيقونات أخرى.. إن المدينة ليست مدينتهم فالأوربي يطغى، إن المكان مغترب عن نفسه، البطل مغترب عن المكان، هنا يظهر أبطال آخرون (أقدام عارية)، (ضمير الغائب)، كتل بشيرة تائهة وسط أمكنة غريبة هي المدينة.. إن تحول الأبطال يحول رسم المكان ليجعله غريباً ويناسب أبطالاً مغتربين.
تبرز عدائية المكان تجاه أبطال القصص كحالة عامة، تتحول المدينة إلى امرأة قعواء، وغرباء يبرطمون بلهجات غريبة، وتلقي بأطفالها من الشرفات.. إن عدائية المكان وشعور الأبطال بالتهديد يدفع هؤلاء الأبطال الذين كانوا رومانتكيين مناضلين إلى هامشيين لا يجدون من مكانهم شيئاً آمناً وأليفاً إلا بعض البقايا.
تتحلل الأمكنة وتنهار أعشاش الألفة ويسود البطل الوحيد الممتلئ بالخواء والاغتراب، والمفارقات اللا معقولة، ليمسخ في النهاية من بيروقراطي محترم إلى خروف يجري في بقايا حديقة المؤسسة يأكل العشب.
إن المدينة التي ناضل من أجلها (نثر المدينة) في بداياته تنهار لتبرز مدينة أخرى مختلفة ولينتقل بطل القصة القصيرة الليبية إلى مراقبة جسده يتفتت دون أن ينقذه ما تبقى من غنائية ريفية ورعوية، فالرعوية بكل موروثها الغنائي تتفتت هي أيضاً وتعاني محنتها وتـفـقد أيقوناتها وروائحها وعطورها ليصبح المرعى مكبُّ زبالة للعلب الفارغة المستوردة، ولتبرز إثر عدائية المكان ونثرها المقتضب، قصة الأشياء تلك التي أبطالها كراسي وطاولات، وربما نساء من البلاستيك، إن روح السلف، والحنين إلى الماضي والتحليق باتجاه المستقبل كلها مشاريع مؤجلة بالنسبة لنثر المدينة.. إن (الهُنا والآن) المغتربين والمعاديين يقبضان (نثر المدينة) بكماشتها ويلقيان بأبطال القصة القصيرة الليبية إلى متن العدم والتلاشي ويخلق ذلك (نثر مدينة أخرى)، أو بالأحرى آخر، أقل غنائية ورعوية وأيضاً أقل مدينية.
_______________________
مجلة الفصول الأربعة_ تصدر عن رابطة الأدباء والكتاب الليبيين/ السنة: 23/ العدد: 95/ 4/2001