قصيدة النثر الليبية الآن تُكتب ببساطة مبهرة مع مواكبتها لليومي، فتجد أنها في انفتاح دائم علي غيرها من التجارب العربية، مع حفاظها علي خصوصية أفكارها ولغتها.
وعلي الرغم من توقف أغلب من يكتب قصيدة النثر عن النشر بشكلٍ مستمر إلا أن ما حققته القصيدة من تراكم يجعلها تحتل موقعاً مناسباً في تجربة الشعر العربي عامة.
ويرجع الفضل بالدرجة الأولي لوجود أصوات حقيقية أخلصت لهذه التجربة ومنها مفتاح العماري، عاشورالطويبي، مع ما أتاحته التقنية من انفتاح علي الكثيرمن التجارب، وبعض تجارب الشعراء الشباب بلغت من النضج الحد الذي مكنها من الوصول إلي التجارب الأخري بثقةٍ قل أن تجدها في مسيرة الشعر الليبي من قبل (الذي كان يغلب عليها أنها صدي لتجارب شعرية أخري).
قصيدة النثر الليبية.. تسترد أنفاسها بعد الثورة، وتحتوي الكثير من الأصوات الجديدة التي بدأت الكتابة بعد الثورة، وبعض الأصوات الأخري توقف (لأسباب غير معروفة عن الكتابة والنشر).
من خلال نسقٍ معين يمكن اختزال الكثير من الحديث عن البدايات والجذور والمؤثرات في الشعر الليبي.فهناك الكثير من الدراسات التي تنصب علي هذا المجال وتجدها منشورة في الكثير من الكتب والمواقع والصحف.
أركز هنا علي (قصيدة النثر في الوقت الراهن) محاولاً التركيز علي حالات الكتابة التي واكبت التغيير الذي احدثته الثورة في (القصيدة الليبية).
الشاعر المعاصر يواكب هذا الفيض الإلكتروني، ولا يسبح ضده مع الإخلاص لخطوته الأولي، وارتباكه الأول، أعتقد أن الشاعر سيموت عندما يحسن الظن بأفكارها، وعندما يعتقد أن خطواته أصبحت أكثر ثقة.
علي الشاعر أن ينثر ارتباكه في كل قصيدة، أن يظل مسكوناً بالبحث الدائم علي أفق جديد في كل محاولة للكتابة.
البحث عن الكتابة اليومية وبهذه الكثافة لا شك أنها مغامرة غاية في الخطورة من ناحيتين:
سهولة النشر جعلت الكتابة متاحة أكثر من قبل،وقلصت الفارق بين لحظة الكتابة ولحظة النشر، فلم يعد هناك كتابة أولي، وكتابة ثانية، وتلاشي زمن المسودات، وأصبح النشر متاحاً بنقرة واحدة.
الالتقاط اليومي للأفكار، وهنا أعتقد أن هذا النشر اليومي المكثف هو رهان قصيدة النثر من حيث عنصري (اليومي والمجاني الأمر الذي يجعل قصيدة النثر، أكثر خطورة من قبل في ظل هذا الفيض الإلكتروني.
الكتابة وشكل التفاعل تغيرا كثيراً، فنجد مثلاً: صفحة لشاعر غير معروف، يقبض علي جذوة الفكرة ويكتب قصيدته بهدوء، تخلو صفحته من زائر واحد، بينما تجد (شاعراً معروفاً) تم تكريسه من قبل وسائل الإعلام والصحف، يكتب نصاً عادياً جداً، تجد صفحته ممتلئة بمئات نقرات الإعجاب.
هناك عبثٌ صاخبٌ في مقابلِ نصوص واثقة، لكن هناك إصراراً مكثفاً من قبل من يكتب هذه النصوص مُصرٌ علي انتزاع حقه في هذا النشر المجاني الذي توفره هذه المواقع، هناك رهان دائم علي الزمن والأفكار والمتلقي.
(الفيس بوك) كموقع تواصل اجتماعي، جعل التواصل بين النصوص والمتلقي أمراً متاحاً دائماً، الانفتاح الذي تحقق بعد الثورة جعل من (الفيس بوك) ساحة كبيرة للتجريب من كل النواحي، فكما أن هناك عدداً كبيراً من المحللين السياسيين، والمخبرين، والأشباه، هناك الكثير من الشعراء الجدد، زادهم تجريبهم وأفكارهم الجديدة.
وأعطاهم الفيس بوك جرعة زائدة من الجرأة والعناد، هناك أصوات كثيرة وتواصلي اليومي معها، يكسبني بالدرجة الأولي الكثير مما يفتقده الشعراء الكبار (بالمفهوم العمري)، أحاول أن أكتسب منهم المرونة التي تفقدها نصوصنا.
من هؤلاء مثلاً: (أنيس فوزي، يوسف سنيدل، حمزة الفلاح، حفيظ الشراني،أكرم اليسير، كمال المهدي، مهند شريفة.. وغيرهم الكثير).
وأخاف أن أقع في فخ النسيان من خلال تجاهلي إحدي هذه الرموز الملهمة التي تكتب باستمرار، زادها انفتاحها علي الغير بشكلٍ كبير جداً.
لنقرأ مثلاً ما كتبه الشاعر مهند شريفة علي صفحته (خفقة يراع):
(من خلال ما سوف تطالعونه في هذه السطور ستكتشفون ما كتب علي جدران هذه الأوراق البيضاء مجرد همسات وشذرات فتي ذي طابع خاص ومختلف ولديه الرغبة في أن يُحدث تغييراً جذرياً وثورة مفصلية في ذاته ونفسه تصل حتي أعماق كينونته النفسية إن ما يحمله هذا العمل بين دفتيه لهو تفريغ لطاقات دفينة أخرجه هذا الفتي ليقول للعالم أجمع أنا هنا أحاول أن أثبت ذاتي للكل وللجميع بالكلمات والعبارات ولدي رجاء وأمل في أن تنال هذه الأسطر قدراً ولو بسيطاً من التقدير والإعجاب)
يجوز لنا أن نقول: (الجميع كُتاب / الجميع ناشرون / والزمن والمتلقي هما من يصنع الفرق)
بعد الثورة (بعد عام 2011)، ارتبكت بعض التجارب الشعرية الشابة التي كان لها حضور مميز ويرجع ذلك إلي مجموعة ظروف، لبعض التزم الصمت، بعض الشعراء تحولوا إلي محللين سياسيين، وبعضهم اكتشف نفسه في مناصب الدولة الجديدة.
الثورة أربكت الكثير من الأوراق والمواقف، وكذلك أربكت الكثير من الشعراء الكثير من الشعراء توقف عن الكتابة بعد الثورة، أو توقف عن النشر، الأمر محير جداً.
بعض الشعراء توقف بالكامل عن ممارسة الكتابة الشعرية، في ظل تساؤل ملح ومستمر من متابعيه، الكتابة المحمومة قبل الثورة وفي ظل القمع والتأويل الخاطئ الذي كان يقود صاحبه إلي ظلمات السجون، وكانت الكتابة محمومة ومشفرة بمجموعة من الرموز في تلك الفترة هي الغالبة علي التجربة بشكلٍ عام.
هل الكتابة وليدة القمع أم أن الكاتب باغته التغيير فلم يحتوه أو ينظر له بل وقف موقف المتفرج المبهوت المصدوم من هذا التغيير، تجارب شابة توقفت في قمة عطائها، وارتبكت في مهرجان التغيير الكبير.
لا أريد أن أذكر أسماء، لكن بمطالعة بسيطة للمشهد قبل الثورة وبعده، نلاحظ الفرق هناك حالة من الشلل أصابت الساحة الشعرية، لكن في نظري ليس شللاً كاملاً.
فكما أربكت الثورة التجارب السابقة، نراها فتحت المجال لأصوات جديدة، زادها التجربة اليومية المستمرة المنفتحة علي التجارب العربية، بل كان (الفيس بوك) إحدي وسائل هذه الأصوات في إيصال صوتها وتعميق تجربتها، والساحة الشعرية الليبية (مثل غيرها) تعج بأصحاب هذه التجارب المتوقدة، خلق عندها التغيير مناخاً عاماً للإبداع.
بعد ظهور (مواقع التواصل الاجتماعي) في السنوات الأخيرة، ظهر شكل جديد للكتابة اليومية (الشعرية وغير الشعرية) رهانها علي عدد كبير من المتابعين وكذلك انفتاحها علي غيرها من التجارب العربية.
وظهرت بالتالي أصوات شعرية شابة لها نسقها المختلف في الكتابة والتفكير، حيث وجدت براح الكتابة مفتوحاً علي مصراعيه، وبالتالي كانت فرصتها أحسن.
(الفيس بوك والتويتر) الآن مساحة ملهمة لكتابة ونشر ونقاش الأفكار والقصائد وعلي المستوي الشخصي استفدت كثيراً من هذا البراح مع تقلص الفترة بين كتابة النص ونشره، جعل نصوص هؤلاء الشباب تتميز بطزاجة الطرح في عكس ما يكتب في الصحف والمجلات الرسمية التي تفقد بعض النصوص هذه الخاصية.
تجربة قصيدة النثر الليبية.. مسكونة ببعض المشعوذين ولكن الأصوات الحقيقية ستشق طريقها بهدوء عبر إنجازات التقنية التي فتحت الابواب للجميع دون استثناء للتفكير والكتابة وأيضاً الكثير من الثرثرة!