تراث

عينٌ على عوالمِ (عين وطارت) للشاعر ‫‏سالم درياق‬ – 1/3

لم تَزَلْ فِتْنَةُ الغِنَاءِ تجتاحُ وجدانَاتِ النَّاسِ، وتستميلُ أذواقَهُم، فالأغنيَةُ نشيدُ الأَرْوَاحِ، هتافُ الأعماقِ، بَخُورُ الجَوَانِحِ، رِضَابُ الأفواهِ، الأُغْنِيَةُ حلوًى سحريَّةٌ لا تفتأ الشِّفَاُه تَتَلَمَّظُ شهيَّتَهَا، وتتلمَّسُ بألسنَةِ الأَرْوَاحِ مَذَاقَهَا الشَّهِيَّ؛ وإن سَالَتْ برنيمِ الحزنِ، وإن بَاحَتْ بالمواجِدِ والآلامِ، لذا نظلُّ نَتَمَسَّكُ بالأُغْنِيَاتِ الأبكارِ، مفاتيحِ الوُلُوجِ لِعَوَالِمِ الفَرَحِ والدَّهْشَةِ، وَبَوَّابَاتِ العُبُورِ لمدائنِ الأحلامِ، الأغنيَةُ الدِّفءُ، والدِّثارُ، والسَّكَنُ والسَّكِينَةُ، البَوْحُ والنَّوْحُ، الشَّوْقُ والتَّوْقُ، الأَلَقُ والعَبَقُ، التَّجَلَّي والتَّسَلِّي، الفَضْفَضَةُ والابتهاجُ والاغتباطُ وَالانْشِرَاحُ، الانْدِغَامُ الحَمِيمُ في سماواتِ الحلمِ، التَّصَعُّدُ المأمولُ في فضاءاتِ الخيالِ، والانشداهُ السِّحْرِيُّ في غيبوبَةِ المجازِ المُفْتَتِنِ، والانذهالُ الشِّائقُ في بَرَاحَاتِ الأَمَلِ والتَّطَلُّعِ والإِشْرَاقِ..

وهنا بينَ ضفَّتي (عين وطارت) ديوانِ شاعرِ الأغنيَةِ الجميلِ سالم درياق، تتكدَّسُ كلُّ هذهِ التَّفاصِيلِ البَاذِخَةِ، وتحضرُ كلُّ المشاعرِ والأحاسيسِ التي تَمُسُّنَا، وَالَّتِي تَخَصُّنَا، أعني تلكمُ الَّتِي يُمْكِنُ أن تُظِلَّنَا معًا، فنتخاصرُ تحتَهَا، وَنَتَعَانَقُ حَوْلَهَا، وتتواشجُ فيها أرواحُنَا، وتتماهى إزاءَها مشاعِرُنَا وإحساسَاتُنَا على إيقاعٍ دفيءٍ مُثِيرٍ هُوَ الحُبُّ بمعانيهِ السَّامِيَةِ، وتجلِّيَاتِهِ الْمُذْهِلَةِ، وإشراقاتِهِ المُثْلَى.. ذلكَ لأنَّ ما يعدُنَا به سالم درياق، الشَّاعِرُ التِّلقَائِيُّ المتدفِّقُ حُبًّا وعاطفةً وغناءً، دعواتٌ مُخْمَلِيَّةٌ إلى جزرِ الأحلامِ، إلى نزهاتٍ وجدانيَّةٍ فَارِهَةٍ بينَ أفياءِ الشِّعْرِ الوارفِ، فهوَ المختلفُ، الاختلافَ الأسمى، الهابِطُ على حقولِ القصيدةِ بمظلَّةِ الشِّعْرِ الشِّعبيِّ، إلى عَالَمٍ آخَرَ للسِّحْرِ والدَّهْشَةِ، وَمِظَلَّتُهُ مضمونةٌ مأمونةٌ، منسوجةٌ من حريرِ البَوْحِ الآسرِ، مطرَّزَةٌ بدمقسِ الصَّدْقِ الفارهِ، مشغولةٌ بأسلاكِ المعاني المتقنَةِ، فَالعَامِّيَّةُ تمنحُ للشَّاعِرِ الغِنَائِيِّ قاموسًا إضافيًّا وافرَ التَّعابيرِ، جزيلَ المعاني، واسعَ الخيالِ، يمكنُ للشَّاعِرِ أن يرفُدَ به أغنياتِهِ، وأن يُسْعِفَ بِهِ مَجَازَاتِهِ الشعريَّةَ الْمُبْتَغَاةَ، فَالقَامُوسُ العَامِّيُّ هوَ لُغَةُ النَّاسِ، تفكيرُهم، وتدبيرُهُم، وَتعابيرُهُم، مَشَاعِرُهُم وَأَحَاسِيسُهُم، وهذا البراحُ الإِضَافِيُّ المَمْنُوحُ لِلشَّاعِرِ الغِنَائيِّ يُتِيحُ لَهُ خِيَارَاتٍ شَتَّى تُخَوِّلُهُ لأنْ يَرْصُدَ خوالجَ النَّفْسِ، وَيُقَيِّدَ شَواغِلَ الرُّوحِ ببراعةٍ واتقانٍ؛ فتلامِسُ أَغَانِيَهُ، قصائدُهُ، أرواحَنَا، وَتُشَاغِبُ دواخِلَنَا، وتستفزُّنَا بوضاءةِ بوحِها، وبحرارَةِ شجنِهَا، ودفءِ مضامينِهَا، وَصِدْقِ معانيها.

*****
سالمُ درياق شاعرٌ يُحْسِنُ اختيارَ مَفَاتِيحِ قَصَائِدِهِ، عتباتِ الولوجِ الأولى إلى فَضَاءاتِ النَّصِّ، تَخْطِيطَاتِهِ لاجتيَاحِ الأَعْمَاقِ المَأْهُولَةِ بِجُوعٍ مُزْمِنٍ لِلْغِنَاءِ؛ لذا فهوَ يُجيدُ الدُّخُولَ بكلمَاتِهِ المَفَاتيحِ إلى الأَرْوَاحِ، فَهْوَ مُبْدِعٌ في اختيارِ عَنَاوينَ تَتَحَوَّلُ إلى مفاتيحَ مدهشةٍ لأغانيهِ، إلى مَدَاخِلَ مُغْرِيَةٍ آمِنَةٍ لِنُصُوصَهِ، بَوَّابَاتٍ وَرْدِيَّةٍ لِعِنَاقِ أَنْفَاسِهِ، وَلِلإِنْصَاتِ لِبَوْحِهِ وَوَشْوَشَاتِهِ وَوَسَوْسَاتِهِ.

انظروا، مثلاً، إلى هذهِ المَفاتيحِ في نَصِّي (في خاطري، هارب ليك) التي تَجْعَلُنَا نَفْتَحُ لَهَا قُلُوبَنَا وَأَرْوَاحَنَا قُبُولاً وَعِنَاقًا وَاشْتِيَاقًا ..!؟

*****
في قصيدَتِهِ (هارب ليك) يُقَدِّمُ الشَّاعِرُ فَلْسَفَتَهُ الخَاصَّةَ لِلْهُرُوبِ، مُفَسِّرًا الهُرُوبَ مِنَ الحَبِيبِ بِاللُّجُوءِ العَاطِفِيِّ، الهُرُوبَ مِنْهُ إِلَيهِ؛ فَكُلُّ هُرُوبٍ يُلْقِي بِهِ بينَ يديهِ.. كُلُّ دُرُوبٍ تُؤَدِّي إِليهِ. يقولُ:

” هارب منك ..
هارب عنك ..
هارب ليك ..
كل مسارب عمري تمشي
يا غالي شور جلاويك …”

*****

الأَغْنِيَةُ لديهِ دَائريَّةٌ، تَتَّصِلُ بِدَايَتُهَا بِمُنْتَهَاهَا عَبْرَ رِحْلَةٍ مَاتِعَةٍ مِنَ المَشَاعِرِ المُتَشَابِكَةِ، عَلَى جِسْرَ إِيقَاعَاتٍ سريعةٍ رشيقةٍ مَرْصُوفَةٍ بِمَقَاطِعَ قَصِيرَةٍ مُشْبَعَةٍ بِالعَوَاطِفِ المُونِقَةِ، وَالأَحَاسيسِ الصَّادِقَةِ، تُؤَطِّرُهَا لَغَةٌ غِنَائِيَّةٌ تَصْطَنِعُ تَعَابِيرَهَا، وَلا تَسْتَلِفُ أَلْفَاظَهَا، وَلا تَسْتَورِدُ غِنَائِيَّتَهَا، لُغَةٌ تنتجُ وَهْجَهَا، وَتُظْهِرُ وَجْهَهَا، وَتُبْدِي نَهْجَهَا، وَتَنْفُثُ عَبَقَهَا.

*****

يُقَسِّمُ الشَّاعِرُ عَاطِفَتُهُ بَيْنَ الحَبِيبَةِ المَعْشُوقِ، وَالحَبِيبَةِ المَكَانِ المَدينَةِ (سرت) و(ليبيا السمحة) بَلادِ الخَيْرِ، يقولُ من قصيدَتِهِ (سرت):

” … يا حب ما فسَّرته
حَتَّى ولو فسَّرت
يا رايعه وجميله
يا غالية يا سرت … “

وَيَقُولُ من قَصيدَتِهِ (ليبيا السمحة):

” … يا ليبيا يا سِمْحَةْ التُّوصيف
يا جنان فايح بالمودَّه ديما
يا جود دايم يا دلال الضَّيف
فِ قلوبنا لك شان وأكبر قيمه
ما يوم فيك انفرِّطوا يا سمحه
يا مجد من يقدر أفضالك يمحى
فيك شعب ما يقبل اتجيك ظليمه …”

وتَمْضِي القَصِيدَةُ تَنْشُبُ شَجَنَهَا الآسِرَ فِي القُلُوبِ بإيقَاعٍ سَاحِرٍ بَدِيعٍ، وَتَعَابيرَ مُذَابَةٍ في لُغَةِ العِشْقِ الصَّادِقِ، والوِدَادِ النَّقِيِّ. وَفِي قَصِيدَةٍ حَمِيمَةٍ أُخْرَى هي (بلاد الخير) ذاتُ الرُّومانسيَّةِ العَالِيَةِ، يَنْطَلِقُ مُغَرِّدًا بِحُبِّهَا فَيَقُولُ:

“… يا بلادي يا بلاد الخير
يا عطر أنسام الحرِّيَّة
يا ترنيم غناوي طير
يا رخَّات أمطار نديَّة
عاشق في حبات ارمالك
هايم في توصيف جمالك
ساكن فيك سكنتي فيَّا
يا بلادي يا بلاد الخير
يا عطر أنسام الحرِّيَّة…”

*****
والشَّاعِرُ لا يَتَكَلَّفُ عَاطِفَتَهُ وَلا تَعَابِيرَهُ، وَلا يَتَوَانَى عَنْ إِدْرَاجِ أَلْفَاظٍ مُغْرَقَةٍ في العَامِّيَّةِ، بَعْضُهَا نُسِيَ، أَوْ يَكَادُ، فَلَمْ تَعُدْ نَضِرَةً طَازِجَةً إِلاَّ عَلَى أَلْسِنَةِ الشُّيُوخِ كَاسْتِخْدَامِهِ لِلَفْظَةِ (كيوفي)، وَتَعْنِي المُدْمِنَ المُعْتَادَ على فِعْل شَيْءٍ يَعْتَدِلُ بِهِ مَزَاجُهُ، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ نَفْسُهُ، وَيَجِدُ فِيهِ رَاحَتَهُ وَهَنَاءَهُ، فَلا يَطرِبُ ويِهْنَأُ إِلاَّ بِهِ؛ يَقُولُ مِنْ قَصِيدَتِهِ (كيوفي):

“… ديما نشعر أنك كيفي
نفرح وين علي اتُّوقي
وديما نشعر إنَّي كيفك
وين انطلّْ عليك اتروقي
ووين علي غفلة انتلاقوا
ونحنا فِ الغيبة نشتاقوا
يطفا شوقك طفيةْ شوقي ..”

*****
وَلِيَقْتَرِبَ الشَّاعِرُ من وجدانِ المتلقِّي أكثرَ، وبأقلِّ مفرداتٍ، يتَّكِئُ كثيرًا على التَّعابيرِ وَالأَمْثَالِ الشَّعْبِيَّةِ السَّائرةِ، والدَّائِرَةِ على أَلْسِنَةِ النَّاسِ، مختصِرًا الطريقَ إلى أفهامِ متلقِّيهِ، مثلاً حينَ يقولُ ( ممنون منَّك) ، و(… عاش من بعد غيبه طويله شافك)، أو في إتيانِه بِعَبَارَةِ (عين وطارت)، التي أسمى بها ديوانَهُ هذا، وهي تعبيرٌ شعبيٌّ يُقالُ طمأنةً أو مواساةً لمن يتعرَّضُ لإخفاقٍ أو أسقطةٍ ما، يقولُ فيها:

“… ماني ناسيك ولا صارت
ولو لفَّت ليَّام ودارت
يا غالي يا قطعة منِّي
يا شوق كبير وساكنِّي
حِنِّيتك ما غابت عنِّي
وأشواقك ما يوم توارت
ماني ناسيك ولا صارت ..”

والحكم ينطبق على قصيدة (بدري من عمرك) التي يُوَظِّفُ فيها تعبيرًا شعبيًّا آخرَ يَجْرِي على أَلْسِنَةِ العَامَّةِ هو (بدري من عمرك)؛ ويُقالُ دعاءً بطولِ العمرِ للصَّدِيقِ أوِ الضَّيفِ أوِ الزَّائِرِ، الذي يبادرُ مخاطبَهُ قائلاً (مازال بدري) طالبًا منه البَقَاءَ فيجيبه قائلاً
(بدري من عمرك):

“… قلتلها بدري مازلنا
لا طفَّى جمري لا جمرك
طلَّيتي بيك تكحلنا ..
قالتلي ” بدري من عمرك”
بين اغيوم الشوق توارت
ليش ادروب الموح اختارت
يا حلمه من عيني طارت
شلتي طيف اعزاز فْ غِمرك ..!؟؟….”

وفي قصيدتِهِ (الربح) يُورِدُ تعبيرًا شعبيًّا يدورُ دعاءً على ألسنَةِ الآباءِ والأُمَّهَاتِ لأولادِهم إغراءً لهم بِكَسْبِ بِرِّهِم وَرِضَاهُم (كانك اتريد الربح..)، وهو هنا يُوَظِّفُ التَّعْبِيرَ تَوْظِيفًا جَمِيلاً فَيَقُولُ:

“… كانك اتريد الربح..
العين صايفة شوقك ذبحها ذبح
تعال شوفها .. كانك اتريد الربح..!…”

(علي قلب غافل بعتني ) تعبيرٌ شعبيٌّ ينبئُ عن تفاجئ المرءِ بأمرٍ ما كانَ غافلاً عنه؛ فَكَأَنَّهُ أَتَاهُ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ، أو في غَفْلَةٍ مِنْهُ، وَهُنَا يَجْعَلُ منَ التَّعْبِير الشَّائِعَ مفتاحًا جميلاً لأغنيتهِ التي حَمَلَتِ الاسْمَ نَفْسَهُ، يَقُولُ :

“…علي قلب غافل بعتني
نحساب روحي ضامنك في جيبي
اليوم فِ الكنين لذعتني
ما نحسِّها لو كان موش حبيبي
معاك الخطا متضاعف
ما تقول تبت وشاعف
يصعب علي قلبي معاك ارجوعه
ماني امصدِّق سيَّتك
يا ريتها كابوس منه نوعى..!!”

مقالات ذات علاقة

تقديمة أوبريت “حلّومة”

المشرف العام

الرمله والكاكاوية

زكريا العنقودي

كايد في تحسينة راسه

ميلاد عمر المزوغي

اترك تعليق