البلاد، لفظة ما دخلت على قصيدة إلا زانتها وما تربعت في شعر إلا رصَّعتهُ بدلالاتها وإيحاءاتها وإيقاعها وموسيقيتها.
البلاد، المفردة التي وجد فيها بعض الشعراء البديل عن مفردة الوطن التي ابتُذلت واستُهلكت لكثرة استعمالها في أوجه الحق والباطل.
البلاد، اللفظة التي تكاد تكون لوحدها نسيج أو قصيدة فكيف إذا ما تخللت الشعر أو تصدَّرت القصائد، فلا شك في أنها ستزداد جمالاً إلى جمالها.
البلاد، الكلمة التي وافقت تماماً تطلعات الشعراء وعبَّرت عن خلجات أنفُسهم تِجاه أوطانهم حين ابتغوا رِثائها أو تمجيدها أو التغني بجمالها المادي المحسوس والمعنوي غير المنظور.
البلاد، الكلمة التي أسعفت العديد من الشعراء للخروج من حالة الأجترار والتقليدية وموت الدِلالة حين حلت مكان الكثير من الكلمات التي قتلها التكرار وكثرة الحضور في البلاغة الشعرية العربية القديمة والحديثة.
وإذ نقول البلاد ككلمة استثمرها الشعر وأغنى بها مدونته تتداعى إلى الذهن روائع شعرية تأسست شهرتها وترسخت فنيتها على هذه الكلمة مثل قصيدة الشاعر التونسي الراحل مؤخراً الصغير اولاد حمد “أُحب البلاد” التي امتدح فيها تونس أيما امتداح ورسم من خلالها عشقه المتفاقم لها بطريقة أقل ما يمكن أن نصفها بأنها مُغايرة لِما سبقها من قصائد تقليدية ليس في شكلها فحسب، بل حتى في تفاصيلها وطريقة تناولها للموضوع.
نحب البلاد..
كما لا يحب البلاد أحد
صباحاً مساءً
وقبل الصباح
وبعد المساء
ويوم الأحد
ولو قتَّلونا
كما قتَّلونا
ولو شرَّدونا
كما شرَّدونا
لعُدنا غزاة لهذا البلد
وعادَ إلى أرضنا الشجر
وعاد إلى ليلنا القمر
وصاحَ الشهيد
سلامٌ
سلامٌ
على من صمد
نُحب البلاد
لكي لا يحب البلاد أحد
ولو قتَّلونا
ولو شرَّدونا
لعُدنا غُزاة.. لنفس البلد. ْ
هكذا في سلاسة واختصار شديدين لا يتطلب الشعر أكثر منهما ويصير كل إطناب وزيادة في حضورهما نوعاً من الحشو وضرباً من الهذر، هكذا يقبض الشاعر على الحالة الشعرية المنفلتة ويحبسها في كلمات معدودة ليظل صداها يتردد حتى بعد رحيله.
هذا فيما يخص المدح وإبراز نقاط الجمال في الأوطان أو البلاد التي كما نرى تحتمل حالتي المفرد والجمع، أي أننا نستطيع أن نقول البلاد عن بلاد واحدة معينة من جهة وكذلك نستطيع القول البلاد للإشارة إلى بلدان عدة مجتمعة.
وفيما يتعلق برِثاء الأوطان والتحسر على جمالها الضائع ومجدها الزائل، نقول التحسر والرِثاء ولا نقصد البكاء والتباكي على الأوطان و، وهذا تماماَ ما تعبر عنهُ رائعة الشاعر الليبي عمر الكدي ” بلاد تحبها وتزدريك ” فالشاعر وقد أعيتهُ الحيلة وفاضَ إناء صبره وفقد الأمل في صلاح البلاد والعباد في ظل أعتى الديكتاتوريات العسكرية، رثى البلاد، رثاها كما يرثي إنسان إنساناً آخراً وهو لا يزال على قيد الحياة، فالبلاد موجودة عندما رثاها الشاعر غير أنها في حكم اللاوجود اللا حياة والطغاة يتحكمون في كل مفاصلها ويخنقون حريتها ويحاصرون حدائقها ويصبغونها بالجهل والتخلف حتى تظل كلمتهم هي العُليا.
قصيدة وضعَ فيها كاتبها كل ثقله الشعري وضمنها كل أحاسيسه ومشاعره حيال بلاده ليبيا التي وكما استعرض ما يُبغض فيها ومنها عاد مجدداً وعدَّد فضائِلها ومحاسنها الكثيرة فهيَ:
بدوية شرسة تُحب حين تُحب من تشاء
وتكره حين تكره من تشاء
تسقي العابرين القاحلين بدلو من أُجاج وغناء
وتستسلم لمن يطوقها بالأغاني
وينفذ إلى قلبها على صهوة الخيال
ليبيا فرسٌ جامح
لا يمتطيها إلا من يركب الريح
بلا سرج أو لجام.
ويُردف الشاعر في مكان آخر من القصيدة ها أنني:
إُحبها مثلما أُحب اسمي
الطالع من فيافيها عشبة برية
الناتئ من صخرها مُكشِراً مثل وجه ذئب
وأكرهها مثلما أكره عاداتي السمجة
وهذا التطاول الأحمق على العقل والألم.
واستمراراً لملحمة حبه لها يُنشد:
أُحبكِ ببساطة قاحلة لا تنبت الغيرة
أُحبك بلا ابتذال
وكأنني آدم وكأنكِ حواء.
ولا ننسى أن كل هذا الفيض من البوح الشفاف جاء تحت مسمى “بلاد تحبها وتزدريك” لأن الشاعر كان موزعاً ما بين حبه لوطنه وما بين صعوبة الحفاظ على إنسانيته بداخله، وهذا الرثاء المصبوغ بالحنين والشفقة في ذات الوقت هجاء للديكتاتورية التي كانت سائدة وقت كتابة القصيدة وتنديدا بظلمها وطغيانها.
ونعثر على ما نصبو إليه وأكثر عند البحث في مُنجز الشاعر الليبي مفتاح العماري الذي يقرر قائلاً في شأن البلاد بقصيدة “لا بأس يا فتى”:
لا بأس يا فتى علًّ نهاراً يُشبه توقنا
يأتي بأسمائنا الأولى
ويهب المواقيت صهيل خيولنا
لا بأس
يا بلاد الرماد الكثيف.
أو يقول ذات شعر شفيف:
أيه يا زوجتي
يا بلادي الطيبة
التي وجهها فاكهة طرية
تستدرج بلاغة الموسيقى.
وفي حالة عشق عاتية يجد نفسه مدفوعاً إلى القول:
تعلمت الأسماء، قلتُ بلادي
شكّلت من أحرُفها منازل حلمي
وحفرت قريباً من سُرتها
بِئرَ ألعابي
وحين هتفت مزهواً بحليب يديها
صِرتُ بعيداً
تُشردني أسبابي.
أعرفُ أنكِ الآن بعيدة
وأن الطريق إليكِ عصي
يفل خيال القصيدة
وأنني كلما كنتُ أُنادي
تسقط كائنات صوتي
وتنأى بلادي.
هذا ما يقرره العماري حين رأى البلاد تتوغل في التيه وتنأى عن متناول أمنياته ، أعوام ما قبل التغيير السياسي في ليبيا، حدث هذا حين كان الخراب محاصرا ومحصوراً قبل أن يعم، وكأن العماري يتنبأ بما سيحصل لاحقا من فوضى وخراب عظيمين فها هي اليوم تنأى ليبيا التي نحب ونشتهي ليحل محلها كيان ممسوخ لا يمت لنا بصلة.
وأخيراً وليس آخٍراً نختتم بهذه القصيدة العفوية التي كتبها الشاعر محمد العربي لبلاده التي يحبها والمُتاح له فيها ما لم يُتاح لغيره من الناس، ذلك لأنه يحبها من كل قلبه:
لأنني أُحبها
ولأن البلاد بلادي
سأدُس في حلمها المخملي ما طاب َ لي من أمنيات
وسأُسرِب إلى أوقاتها عسل أوهامي
سأسحب نحوها ما أمكن من هناءات
وسأُذوب في فمها سُكَّرَ أشعاري
لأن البلاد بلادي
وأنا أعشقها
سأُخبئها في القصي من فؤادي
وسأُنزلها الشاهق من خيالي
سأُربي نهاراتها على الأغنيات
وسأُلقن عينيها أبجدية الرقص
هذا لأنَ البلاد بلادي.
وعند تقليب دفتر قصائده نقرأ أيضا هذا المجتزأ من قصيدة:
كما لو أنني فقط، أنتقي من الأسماء أسماءها
ومن الصفات صفاتها
كما لو أنني أُفرغ عليها من شِعري
كما لو أنها تُفرغ علىَّ من نعناعها
كما لو أنني أغتسل بندى صباحاتها
وأتنسم عبير روابيها
البلاد التي على خاصرتها يتكئ اللحن
البلاد التي
بقلبي تنام ملء طمأنينتها.
_________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل