خلال أيام الأسبوع الماضي انجذبت بضراوة لغويات السرد . قرأت أربع روايات من بينهما ثلاث روايات مقترحة ضمن قائمة الجائزة العالمية للرواية العربية ، أو جائزة ( البوكر ) ، حسب الاصطلاح الشائع إعلاميا . ولأنه من طبعي حين أعجز عن تحقيق أية شراكة مع المقروء والوصول إلى حدٍّ أدنى من التفاعل في تأثيث فضائه ، والتشابك مع نسيجه بالقدر الذي يجعلني كقارئ جزءا من تلك الطاقة الحية والفاعلة ، الكفيلة بضخ المزيد من الحياة داخل العالم المتخيل . ينطبق هذا بصورة خاصة وفي الأغلب على المنتوج الإبداعي ، وبدرجة أكثر خصوصية مع السرديات . فالحقل الروائي يستأثر باهتمامي ، ويحتل المرتبة الأولى في مقترحاتي القرائية . حيث أعول دائما – وبالضرورة – على توفر نسبة من حظوظ الإمتاع كمحفز لمواصلة وتكريس القراءة . فثمة عناوين لمشاريع روائية اقتضت مني تكرار القراءة ، بحيث وصل بعضها إلى أكثر من عشر مرات ، صحبة عمل روائي واحد . ولعلّ رواية ” مائة عام من العزلة “ هي العمل الوحيد الذي تجاوز هذا الرقم خلال عشريتي الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي . لهذا عندما أفشل في تحقيق تلك القرابة ، أو الصلة الكفيلة بالتجاوب مع حساسيتي وذائقتي ، فأنني سأُبتلى بخيبة يتعذر فهمها ، يختلط فيها الشعور بالخذلان مع درجة عالية من الاستياء ، سيما وأنني غالبا ما أقترح وجبات القراءة بعناية صارمة تخضع لاختيارات شديدة الدقة والاحتراز ، باستثناء تلك اللحظات التي أتواطأ خلالها قصد إشباع فضولي تبعا للإعلانات المتعلقة بالجوائز وما شابه . ثلاث روايات من القائمة القصيرة للبوكر العربية أقبلت عليها بحماسة عالية ، مردّه ذلك بالدرجة أنها ( أي الروايات المقترحة ) تخضع لصناعة شابة .
لكن الأولى لم تصمد ، أعني رواية ” نوميديا “ ، للمغربي : طارق بكاري . فبالكاد استطعت الوصول إلى ثلثي المتن حتى توقفت عاجزا عن استئناف الرحلة ومكابدة مشاق السفر دونما جدوى . فما أن يظهر الأفق حتى يمحو نفسه ، لكأنني إزاء خديعة متسترة بما هو سرد . بالطبع منذ أن تجاوزت الصفحات الأولى كان حدسي غير مشجع، لكنني كنت أعول وبطريقة ما على إنصاف هذه التجربة ، لهذا لم استجب لحدسي ، وواصلت القراءة مكرها ، لعلي أعثر على ما يفاجئني فيما هو متخف ، خلال الصفحات القادمة . لكن دونما جدوى . الخيبة نفسها وان بدرجة أقلّ تكررت مع رواية ” عطارد “ ، للمصري : محمد ربيع . الروايتان كانتا دون المستوى المرجو من أعمال منتخبة ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية . وأقلّ ما ينبغي قوله : أنهما وعلى الرغم من طموحهما ، قد خضعتا في جزء كبير لمجانية السرد ، أي لتلك الفتنة السادرة دونما أية ضوابط فنية تحدّ من انفلات التفاصيل . بحيث غاب عنهما الانشغال بتكثيف الجملة الروائية ، فضلا عن اختزال التوصيف ، عوضا عن التورط في اجترار المشهد ذاته بتنويعات نافلة ، لا تضيف جديدا ، سوى تحميل كاهل النص بأثقال لا تُحتمل . هكذا ، كنت أحاول ترتيق خيبتي مع ” نوميديا “ طارق بكاري ، بغية العثور على شيء من من كرامة السرد ، في “عطارد ” محمد ربيع ، والتي على الرغم من أن المقاطع الأولى فيها كانت تكتنز بإشارات مغوية ، وجمل سردية في غاية التكثيف والسلاسة ، إلا أنها ما لبثت أن تورطت في تكديس اللقطات نفسها ، كمتوالية لمشهديات العنف .
الرواية الثالثة ، كانت ” حارس الموتى “ للكاتب والصحفي اللبناني : جورج يرق . والتي بدت أكثر حرفية وتفوقا من الروايتين السابقتين . برع الكاتب إلى حد ما في إنقاذ سرده من مجانية الحشو ، ومراكمة تلك التفاصيل التي لا تخدم الحدث إلا في كونها مجرد تنويعات إضافية . كما اتكأ جورج على تطعيم جملته بتلك النكهة الشعرية دونما إيغال . وبالمثل أضفى على أجواء العنف ما يليق بها من الموضوعية ، من دون أن يتخلى عن حيثيات الواقع الاجتماعي للنص ، ليتوغل بعيدا في الفانتازي ، والأسطوري كما هو الحال في ” عطارد ” . فقط ، يظل المأخذ الذي استنتجته خلال قراءتي أن حارس الموتى بعد أن تجاوزت نصف المسافة ، قد ارتبكت في القبض على عالمها ، كذلك في تطويع شخصياتها لمسار درامي يحتفظ بشيء من الحبكة المفترضة فنيا . وبدت الشخصية المحوري في الرواية كما لو أنها تنصاع لمشيئة الراوي تبعا لخطاطة جاهزة ، مما أفقدها عفوية نموها وتطورها داخل نسيجها الافتراضي . كما أن الخاتمة التي حاولت أن تستعيد البداية . تلك التي تجاور بين البشر والنفايات ، كمحاولة ساخرة لتأويل العنف . بدت هي الأخرى تقليدية ، ومبتذلة لاقتراح هكذا نهايات ، تحاول ترجمة نفسها عبر هذا الدوران من نقطة ثابتة ، لحظة أن تلجأ إلى استعادة صورها ، لتذكيرنا بأول مشهد اقترحته الرواية على نفسها .
هذه المستويات السردية في الروايات الثلاث ، المنتحبة للقائمة القصيرة ، بقدر ما تشي بمجانية السرد ، تشي في الحقيقة ببؤس لجان التقييم بالدرجة الأولى ، كذلك بإجحاف بعض الشروط المعلن عنها في الترشيح للجائزة ، ولا سيما تلك التي تحصر طلبات الترشّح بدور النشر وحدها ، والتي من خلالها ننصح مؤسسة الجائزة بإعادة النظر في صياغة لوائحها ، إذا كان انشغالها حقا ، يهدف لتنمية مشروع السرديات العربية .