ـ1ـ
أمضى ثلثي الليل و هو جالس بالقرب من الموقد….
لم يشعر بلسعات البرد. الصقيع بدأ يتسلل الى أطراف الصحراء. شتاء هذا العام سيكون قارساً. رمى ببعض الحطب على بقايا الجمر الملتهب، فرك يديه بعنف ليبعث فيهما الدفء، تزحزح من مكانه و إقترب أكثر من الموقد. مدَّ يديه فوق اللهب، فركهما من جديد، تدثر ببقايا الرداء. رمى مزيد من الحطب، تأمل اللهب المتصاعد. أخذته الأفكار بعيداً.
تذكر كلام أخيه. شيئاً ما إنهار بداخله… تكسر… تحطم. تصارعت بداخله الأفكار… تشابكت و تشوشت. مزيج من الحيرة و الإستفهام يتصاعد الى ذهنه.
ـ لا… لا لا. لايمكن… لا يُعقل.
هزَّ رأسه بعنف محاولاً طرد الأفكار المشوشة التي بدأت تدب في ذهنه منذ أن طرده أخوه، أو توأمه كما كان يحب دائماً أن يسميه.
بالأمس طرده من الخيمة. عنَّفه بشدة. إنهال عليه بسيل من الشتائم. توعده بالشر… ثم طرده. خرج مذهولاً و غير مصدق لما سمع. ثورة الأخ أثارت في نفسه شجوناً غريباً.
ـ هل جننت؟… أنت مجنون… كيف نتقاسم؟!!
قال مسعود معنفاً أخاه قبل أن يطرده من الخيمة و يتوعده بالشر.
ـ و لكن هذا حق و لا ينكر الحق إلا ظالم.
ردَّ خليفة محاولاً شرح الأمر لأخيه.
ـ حق… ظالم. هههاااااههه… أنت مجنون… أنت معتوه. أي حق هذا الذي تتحدث عنه؟ آااه… أي حق؟ قل أيُّها المتعلم… أي حق؟
قال مسعود و هو يلوّح بيده اليمنى مُشهِراً سَبّابَته أمام وجه أخيه خليفة. إستدار من جديد و ضرب بكف يده على صدره قائلاً:
ـ أنا من إشتغل. أنا من ذاق حرارة الصحراء. الإبل لي وحدي… أنا من تَعِبَ لكي تكون هكذا بهذا العدد.
إلتفت الى أخيه مواصلاً:
ـ و أنت ماذا فعلت؟ آااه… قل. كنت تنعم بالظِل في خيمة الفقيه. أباك أراد لك أن تكون متعلم. العلم و المال لا يجتمعان ياأخي… أتفهم؟… لا يجتمعان. إذا أردت أن تكون لك إبل كان يجب عليك أن تعمل لذلك. أن تترك خيمة الفقيه و أن تترك اللوح و المحبرة. أن تشمر على ساعيديك. أن تذق حرارة الشمس و عطش الصحراء. أن تذق برودة الشتاء… أتفهم؟
ـ و لكن هذا حق ياأخي. الإبل لوالدي رحمه الله و قد كنت أساعده طوال الصيف. أنت تعلم ذلك. هذا حق. لا تنكر الحق فتكون ظالماً.
ردَّ خليفة محاولاً تهدئة أخيه و إعادته لرشده.
ـ أي حق؟… أي حق؟ أنت مجنون ـ ردَّ مسعود بعنف ـ أنت جاهل. المال مالي و لاتحدثني في هذا الأمر مرة أخرى ثم لا أريد أن أراك بعد اليوم… هيا اُخرج من خيمتي، لا أريد أن أرى وجهك. إن عدت الى هذا الأمر من جديد… إن عدت الى هنا… سأقتلك.
خرج و هو غير مصدق لما سمعت أُذْناه. جال ببصره في المكان، هزَّ رأسه محاولاً طرد بقايا كلمات أخيه التي ظلت تتردد برأسه. خرج و هو يجر نعليه. نار الغضب في عيني أخيه بعثت في نفسه شعور غريب و كريه. شعور لم يألفه من قبل. نظرات الكره التي رأها في عيني أخيه لم يسبق له أن رأها حتى في عيني غريمه و عدوه… غريمه القديم و عدوه اللدود… الجمل الكريه. تسأل في نفسه أيعقل أن يصل الكُره بالأخ الى هذه الدرجة؟… الى التعنيف… الطرد… الوعيد، و التهديد بالقتل؟. أيقتل الأخ أخاه من أجل بعض رؤوس الإبل؟ من أجل بعض النوق الجُرب؟
لم يكن يتوقع أن يرى الكُره و العداوة في عيون أخرى غير عيون عدوه الجمل.
ـ2ـ
ولدوا معاً…
كبروا معاً…
في صغره لم يعرف غيرهما.
كانا رفيقيه. لم يعرف غيرهما… توأمه الآخر و الجمل، أو توأماه كما كان يطيب للجدة تسميتهما. عاشوا معاً و كبروا معاً و قبلها رضعوا معاً من نفس الصدر. كانت مصادفة عجيبة جعلت منهم ثلاثة توائم. أحب توأمه الإنسان و كره توأمه الجمل.
ماتت الأم هزيلة بحمى النِفاس…
إشتدت الحرارة و إعترتها موجات من الهذيان و التشنج. لم يكن قد مضى على ولادتهما سِوى ثلاثة أيام.
مرضت الأم… إستمر النزف لمدة ثلاثة أيام متتالية. نزفت دماءاً كثيرة. بعض العجائز أخبرنها أن ولادة التوائم دائماً صعبة و أليمة. الحمل كان ثقيلاً و صعباً، و الولادة كانت أصعب. صرخت بشدة… عضت على أسنانها… أحضروا لها عود من السدر لكي تعضه عله يخفف شدة الألم. قبضت على التراب… شدت بعنف على يد جارتها التي كانت تساعدها. صرخت… تصبب العرق… تمتمت ببعض التعاويذ و الكلمات المبهمة… قرأت بعض الآيات. إزداد الوجع و الصراخ… إختلط صراخها بصراخ آخر… أرق و أقل حِدة… أنجبت طفلاً. إستمر الألم و إستمر معه الصراخ… صراخها و صراخ آخر أرق و أقل حِدة… أنجبت الطفل الثاني.
حملت العجوز الطفلين. رفعتهما الى الأعلى و أطرافهما تتمواج في الهواء. مسحت العجوز بقايا الدم و السوائل من على الجسدين البكرين. قالت مهللة:
ـ الله أكبر… ماشاء الله… ماشاء الله… إنهما توأمان… ماشاء الله… ذكران.
لفّت الطفلين ببعض الخِرق. عصبت رأسيهما و وضعتهما بجانب الأم التي مازال العرق يتصبب من جبينها. نظرت اليهما… إبتسمت. في خارج الخيمة علت الزغاريد.
عمت الفرحة الأرجاء. ذبح الأب و أطعم القبيلة. فرحت القبيلة بأسرها. ولادة التوائم نادرة في هذه القبيلة، و قدوم توأمان ذكران شيء أكثر ندرة. تفاءلوا بذلك… إنها إشارة ما.
إستمر نزف الأم لمدة ثلاثة أيام. أصبحت شاحبة و صفراء اللون… نزفت بشدة. أحضروا لها الأعشاب و المراهم المجلوبة من الواحات. دقوا لها الأعشاب و خلطوها بالسمن. سقوها خلاصة بعض الأزهار المجففة و المنقوعة في الماء. شربت العصارات و خلطات الأعشاب لكنها لم تفلح في جعل النزف يخف بل زاد حِدةً. في اليوم الثالث أصبحت أكثر نحولاً و تحول لونها الى الزرقة… أصابتها الحمى… إلتهب بدنها بالحرارة. وضعوا لها الضمادات المنقوعة في الماء البارد لكن الحرارة إستمرت في الإرتفاع… هذيت… غابت عن الوعي… أفاقت… تمتمت ببعض الكلمات التي لم يفهمها أحد… غابت عن الوعي من جديد… إستعر البدن بالحرارة… إرتعشت الشِفاه و تصبب العرق من كامل البدن. إستمرت الحمى طوال الليل و في الصباح وجدوها قد سكنت و عمت البرودة الجسد المشتعل. سكنت الحرارة و سكن معها الجسد. غارت العينان و سادهما البياض… غطوا الجسد المنهك… صلوا عليه بعيد الضحى… و أنزوله القبر.
في المساء علا الصراخ و شق سكون الصحراء…
صراخ رقيق و حاد. صراخ البطون الصغيرة الخاوية التي أحرقها الجوع. طافوا بهما مابين الخيام… فتشوا في أركان المظارب. لم يجدوا مرضعة. منذ ثلاثة سنوات لم تلد أيًّا من نساء القبيلة، آخر ولادة في القبيلة كانت منذ أكثر من ثلاثة سنوات و نصف. حارت الجدة و حارت معها عجائز القبيلة في تسكين تلك البطون الخاوية. الأب جاء بالحل الذي لم يخطر ببال العجائز.
ترك المظارب قبل مغيب الشمس، إتجه نحو المراعي. مع نهاية ثلث الليل الأول عاد الى المظارب و هو يجر خلفه ناقة جوفاء، ربط الناقة بالحبل و جرها خلفه. إنقادت خلفه بخطوات متثاقلة و خلفها حُوَار*صغير أجوف البطن.
وصل الخيمة، ربط الناق في أحد أوتادها. تنحنح… خرجت الجدة مسرعة… خلفها تعالى الصراخ الرقيق… بلغ الجوع مداه.
ـ أعطيني إناءاً أو أي شيء.
قال الأب للجدة. فهمت العجوز. عادت بسرعة الى الخيمة. فتشت بين الأواني ثم عادت له بقدح. همز الناقة فوقفت. إقترب منها الحُوَار الصغير، دسَّ رأسه بين قوائمها الخلفية، مص الحلمات فامْتلأ الضرع بالحليب، دفعه الأب و شرع في الحلب.
ـ آآع ع آع آع آع آآآآاا ع ع ع ع ع.
أصدر الحُوَار صوتاً شبيهاً بالصراخ… صراخ الجوع ربما. مَلأ الأب القدح و أعطاه للجدة. عادت به مسرعة الى داخل الخيمة لتُسكن البطون الخاوية. في الخارج تعالى صراخ آخر:
ـ آآع ع آع آع آع آآآآاا ع ع ع ع ع.
مع سكون الليل سكت الصراخ و عم السكون المظارب. ظلت الناقة مربوطة أمام الخيمة لعدة أسابيع… إمتدت الى شهور. كان الأب يقوم بإحضار الأعشاب و بعض القش. يخرج الى المراعي و يجتهد في إنتقاء الأعشاب و الحشائش، ينتقي طعام الناقة الذي سيصبح فيما بعد طعاماً للتوائم.
بربط الناقة أمام الخيمة تكونت علاقة من نوع آخر… رابطة من نوع آخر… توأمة مابين التوأمين و الحُوَار. أصبحوا توائم ثلاثة يتشاركون و يتقاسمون الضرع نفسه.
إستمرت العلاقة الثلاثية لمدة عام كامل…
في نهاية العام الأول ترك “مسعود” الرضاعة أو ربما عافها بينما إستمر توأمه الآخر “خليفة” في الرضاعة و مشاركة الحُوَار نفس الضرع. شاركه في الرضاعة لمدة عام آخر. تقاسمه للحليب لمدة عامين كاملين زرع في نفسه شعوراً غريباً تجاه الحُوَار… أخاه الحُوَار… توأمه الثالث. شعوره بالمشاركة ولَّدَ في نفسه الشعور بالمنافسة، مع مرور الوقت أصبح يشعر بأن الحُوَار غريمه.
توالت الأيام….
شبَّ التوأمان و كبر معهما الحُوَار. بلغا سن الشباب و أصبح الحُوَار فَصِيلاً**.أخيراً ترك ثلاثهم الضرع. تركوا تعلقهم بالضرع و أخذ كل منهم دربه و تفرقوا.
أرسل الأب خليفة الى خيمة الشيخ “مختار” ليتعلم القراءة و الكتابة، و ليتعلم أصول الفقه و الدين كما كان يقول الأب دائماً، و بعث مسعود الذي لم يبدي أي رغبة في التعلم أو الجلوس في خيمة الشيخ بعثه الى المراعي ليلازم الرعاة و يشرف على قطيع الإبل.
هام مسعود خلف القطيع. تتبع الكَلأ و مياه الأمطار المتساقطة في الشتاء، فينحدر بالقطيع الى الأودية و الشِعاب السفلى الدافئة و المُتاخِمة للحمادة الحمراء، أما في الصيف فيتتبع بقايا العشب و القش في أعالي الحمادة. سرَحَ بالقطيع في أطراف الحمادة في “وآن هسهس” و “وآن هنكط”، تتبع العشب في وادي “أوآل” و “تناروت” و “مغرغر”. في الصيف قصد به صحراء الرمال الواسعة في “بندقيش” و “نزوة”. عافر الإبل الهائجة… روّض الجِمال الثائرة… عافر الصحراء القاسية و عافرته.
لازم خليفة الشيخ مختار كظِله. تعلم منه القراءة و الكتابة على الألواح. قرأ الكتب… حفظ ثلثي القرآن. ملازمته لخيمة الشيخ مختار أبعدته كثيراً عن الصحراء. كان يستيقظ في الصباح الباكر و بعد تناوله لفطوره يأخذ قصبته و محبرته و يتأبط لوحه و يتجه لخيمة الشيخ. كان سريع البديهة. حفظه لسور القرآن أذهل شيخه. قال الشيخ يوماً للأب:
ـ خليفة لديه قدرة عجيبة على الحفظ.
طرح الحصيرة الصفراء المصنوعة من عيدان القصب الجافة. وضع عصاه بجانبه، إلتفت الى الأب الذي مازال واقفاً. أشار الى طرف الحصيرة قائلاً:
ـ إجلس… إجلس.
جلسا أمام الخيمة المعزولة في طرف المظارب.
منذ أن نزل الشيخ مختار بالمظارب قبل عدة سنوات و هو يحب البقاء منعزلاً عن باقي المظارب. نصب خيمته في الطرف الشرقي للمظارب بمحاذاة التل. لا يكاد يدخل المظارب إلا نادراً. قليلاً ماكان يدخل الخيام الأخرى، لا يترك خيمته إلا للمشاركة في فرح أو أداء واجب العزاء أو عيادة مريض. كان رجال القبيلة هم من يأتون اليه. في الصباح يأتيه الأطفال للتعلم، كان يُجلِسهم في نصف دائرة حوله، يأخذ الأطفال الألواح و ينظفونها بالطين ثم يكتبون مايمليه عليهم الشيخ مختار… آيات… و بعض السور. يدقق في الألواح و يصحح ماكتبوا، يتركهم يقرأون بصوت عال ثم يستمع اليهم واحداً تلو الآخر ليعرف مدى حفظهم لماكتبوا.
في المساء يتقاطر عليه الرجال و الشيوخ. يستمعون اليه بإنتباه، كان يحدثهم عن أمور الدنيا… الدين… و الآخرة. كانوا يقدرونه كثيراً و يتفاخرون بصحبته و مجالسته. العزلة التي فرضها على نفسه أضفت عليه هيبة و إحتراماً كبيرين بين أهل النجع.
أتى الى القبيلة قبل ثمان سنوات. يقولون أنه ترك الحياة في الواحات الشرقية المُتاخِمة للجغبوب، و أنه عزل نفسه في الصحراء بحثاً عن السكينة و التأمل كما كانوا يقولون. لاأحد يعلم بالضبط من أي الواحات هو، و لم يتجرأ أحد على طرح هذا السؤال عليه، الهيبة التي أحاطت به منعت كثيراً من الألسُن على طرح الأسئلة. بحثه الدائم عن السكينة هو مادفعه الى نصب خيمته بعيداً عن المظارب، كانت المسبحة و المصحف دائماً لايفارقان يديه.
نظر من جديد الى الأب الواقف، لفَّ ردائه على كتفه و أعاد قائلاً:
ـ إجلس… إجلس.
جلس الأب قبالته، مرر يده اليمنى على الحصيرة و كأنه يتحسسها ثم قال:
ـ يبدو أن اليوم سيكون حاراً.
الحديث عن الطقس و تخمينه هو أفضل مفاتيح الحديث عند البدو، يتحدثون دائماً عن الطقس… عن الصيف و الحرارة… عن الرياح و “القبلي”***… عن الصقيع و الأمطار. الحديث عن الطقس ممتع جداً و لا ينتهي.
تبسم الشيخ مختار و قال:
ـ نعم… نعم. قلت لك إن لخليفة مقدرة عجيبة على الحفظ، سيكون له شأن كبير. يجب عليك الإهتمام به.
ـ هذا ما لاحظته أنا أيضاً و هذا مادفعني لإحضاره اليك.
ردَّ الأب و هو مايزال يتحسس عيدان القصب المنسوجة على سطح الحصيرة و واصل قائلاً:
ـ إنه فطين. لاحظت هذا منذ صغره و لهذا لم أتركه يتتبع قطيع الإبل. أتمنى أن يكون له شأن.
ـ إن شاء الله… إن شاء الله.
ردَّ الشيخ مختار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الحُوَار: ولد الناقة من حين يوضع الى أن يُفطم و يفصل (لسان العرب).
الفَصِيل: ولد الناقة إذا فُطم و فصل عن أمه (لسان العرب).**
***القبلي: رياح محلية موسمية شديدة الحرارة تهب في فصل الربيع و بداية الصيف و تكون محملة بالأتربة و الغبار، سميت برياح القبلي لهبوبها من جهة القبلة.
ـ3ـ
بلغا سن الرابعة عشر….
أكمل خليفة حفظ القرآن. فرح الأب لذلك، نحر جملاً و أولم للمظارب، حضرت القبيلة… الشيوخ و الأطفال… النساء و الصبايا. ترك الشيخ مختار عزلته في تلك الليلة ملبياً دعوة الأب، أفسحوا له مكاناً في صدر الجلسة و بجانبه أجلسوا خليفة. جلوسه بجانب الشيخ مابين تلك العمامات و القامات جعله يشعر بالفرح و الفخر أيضاً. الأب الجالس في طرف الصف يسترق النظر الى إبنه و عيناه مليئتان بالفرح. في آخر الجلسة مابين الفتيان في الطرف المقابل جلس مسعود، عيناه تحدقان في خليفة يملؤهما إحساس ما لم يلاحظه خليفة في غمرة فرحته.
في صباح اليوم التالي إستيقظ خليفة كعادته باكراً رغم أنه سمر حتى ثلث الليل الأخير. البارحة و بعد إنفضاض الجلسة و تفرق الشيوخ جلس خليفة مع بعض أقرانه، ظلوا يتسامرون حتى الثلث الأخير من الليل. أعدوا الشاي الأخضر، و حكوا عن كل شيء. عن الطفولة و الصِبا… عن الصحراء و الحر و العطش… عن الحرب و الفروسية… عن السيول و الغدر… عن الربيع و الأعشاب، و عن الدين و القرآن. تغيب مسعود عن تلك الجلسة، كان أول المغادرين بعد العشاء. خرج و لم يُعلِم أحداً بذلك. بعض الفتية قالوا إنه خرج قبل العشاء، لم يتناول شيئاً. قالوا إنهم رأوه يغادر بإتجاه الوادي نحو المراعي حيث قطيع الإبل. لم يهنىء أخاه خليفة كما فعل فتية النجع، لم يُسَلّم عليه… إنسل خفية و غادر.
مع شروق الشمس جاء الأب و هو يجر خلفه فصيلاً مشدوداً بالحبل. ذهب قبل بزوغ الشمس الى المراعي. تغيب بعض الوقت، قال الرعاة فيما بعد إنهم سمعوه و هو يُعنّف مسعوداً على تركه مجلس الرجال بالأمس و كيف أنه لم يهنىء أخاه كما كان يجدر به أن يفعل. لقد فعل باقي الفتية ماكان يجب أن يفعله هو. عنّفه بشدة، تركه جالساً حول الموقد و إتجه نحو قطيع الإبل في ركن الوادي. دار بين رؤوس الإبل البارِكة، تفحص الجِمال… رأه أخيراً. طلب من الرعاة إعانته على تثبيته، كان فصيلاً يافعاً. تدافع الرعاة و أمسكوا به.
ـ آآع ع آع آع آع آآآآاا ع ع ع ع ع.
ربطوه بالحبل. وضعوا الرًّسَن حول رأسه، شده الأب و إتجه نحو المظارب يجره خلفه.
عندما رأه خليفة تذكره بسرعة، إنه نفس الفصيل، مضى زمن طويل لم يره. إنشغاله بالعلم في خيمة الشيخ مختار أخذه بعيداً عنه، إنه نفسه…. نفس الصوت.
ـ آآع ع آع آع آع آآآآاا ع ع ع ع ع.
تذكر الصوت و تذكر وقوفه مربوطاً أمام الخيمة. في تلك اللحظات تذكر أُمه العجفاء… أُمه الناقة، حرَّك ذلك في نفسه شعوراً ما. ذلك الشعور الذي كان يراوده إتجاه توأمه الثالث. الشعور بالمشاركة… بالمقاسمة… مقاسمة الضرع، أو الشعور بأنه غريمه. نظر اليه من جديد… تفحصه… لقد أصبح يافعاً و يعلوه سِنام كبير. يبدو أن مسعود كان مهتماً كثيراً بقطيع الإبل. مدَّ الأب اليه الرسن قائلاً:
ـ هذا لك… هذا الفصيل لك منذ اليوم. يمكنك أن تتخده قَعُوداً* إن شئت، هذه هي هديتك. حفظك للقرآن يستحق أكثر من ذلك بكثير.
أخذ خليفة الرسن و عيناه تتفحصان الفصيل… توأمه الثالث و غريمه السابق… شريكه في الضرع.
ـ لقد كبرت و أصبحت يافعاً.
تمتم خليفة و هو يمسح على رقبة الفصيل و عيناه تتفحصانه ببلاهة.
ـ آآااه… ماذا قلت؟
سأل الأب الذي لم يسمع كلمات خليفة.
ـ لا… لاشيء ياأبي. أردت أن أقول إنه أصبح فصيلاً يافعاً.
ردَّ خليفة.
بعدها أصبحا رفيقين. كان خليفة لا يفارق قعوده أبداً. بعد إتمام حفظه للقرآن بعثه الأب الى المراعي خلف قطيع الأغنام. في الصحراء يجب أن تتقن كل شيء، كان الأب دائماً يقول كلاماً كهذا.
ـ لكي تستطيع المعيش في الصحراء يجب عليك أن تفهمها جيداً و أن تحفظها عن ظهر قلب كحفظك للقرآن تماماً.
قال الأب و هو يخطط الأرض بعود الحطب:
ـ حفظك للقرآن ينجيك من التيه و من شرور الدنيا و تفوز بالآخرة، و حفظك للصحراء ينجيك من التيه فيها. يجب أن تعافر أهوالها لكي تتعلم العيش فيها.
شبك الأب الخطوط المرسومه على الأرض ببعضها بطرف عود الحطب. رسم دوائر و نقاط و واصل قائلاً:
ـ يجب أن تتعود على قساوة العيش في الصحراء. لكي تعيش مرتاح يجب أن تقاسي كثيراً. القعود سيكون رفيقك.
إلتفت خليفة الى رفيقه الجديد البارك و هو يجتر بقايا الأعشاب و القش. تأمله… الجسم المكسوّ بالوبر الأحمر، في الأطراف يميل اللون الى الحمرة الداكنة، القوائم مكتنزة باللحم. فوق الظهر سِنام يملؤه الشحم… الرقبة الطويلة المعقوفة و الرأس المدبب. الرأس المدبب المتوج بعينين واسعتين و اُذنين صغيرتين يكسوهما الوبر، ذكره ذلك بمنظر الصّل**. لم يرى الصّل في حياته و لكن سمع عنه من أحاديث الشيوخ الذين سبق و أن رأوه. روَوْا الأساطير عنه و حكوا قصصهم معه. قلة هم من رأوا الصَّل في حياتهم و لكن تلك القلة لم تحول دون نسج الأساطير المفزعة عنه. قالوا له كيف أن الوبر يغطي الظهر الأملس الملتوي، و كيف أن له رأساً مدبباً و تعلوه عينان تتوهجان بالغدر و الشر. في طرف الرأس قرنان صغيران يكسوهما الوبر. وصفهم للصّل ربط في ذهنه صورة توأمه الثالث… شعوره بالكره أو إحساسه إنه غريمه كرَّس تلك الصورة في مخيلته… إحطاط منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القعود من الإبل: ما اتخده الراعي للركوب و حمل الزاد و الأمتعة (لسان العرب).
** الصّل: الحية التي تقتل إذا نهشت في ساعتها (لسان العرب).
ـ4ـ
يحكي كثيراً من البدو عن غدر الجِمال، يروون القصص الغريبة كيف أن الجِمال غدرت بأصحابها و مزقتهم تحت الأقدام. روَوْا قصصاً عن جِمال هائجة قطعت بأنيابها الحادة أطراف و أحياناً رؤوس أصحابها و كيف أن الجمل الوديع يمكن أن يتحول الى غول مخيف. بعض الجِمال بركت بثقلها على صدور أصحابها، كسرت الضلوع و هشمت العظام و الجماجم.
سمع في إحدى الأمسيات بعض الشيوخ و هم يروون تلك القصص. جلست العمائم حول موقد النار، إلتفوا حوله في شبه دائرة، جلس هو بعيداً خلف الدائرة.
ـ الجمل الهائج كالسيل… كالطوفان لاأحد يستطيع أن يوقفه أو يقف في طريقه.
قال أحد الشيوخ و هو يلوّح بيده في الهواء على شكل دوائر مقلداً تدفق الأمواج، قال مواصلاًً:
ـ مجنون من يقف أمام السيل و مجنون أكثر من يحاول ترويض جمل هائج… هذا إنتحار. الجمل الهائج كالسيل يجب أن تنزاح جانباً و تتركه يمر و إلا سوف يقضي عليك.
ـ لا… لا ياحاج… ليس كل الجِمال سواء.
ردَّ العجوز الآخر الأكبر سناً و الأقصر قامة. رفع طرف عمامته الى الوراء و قال:
ـ الجمل لا يغدر أبداً… الجمل حيوان نبيل. الإنسان هو من يغدربه، يأخذه الغضب أحياناً فينهال على الجمل ضرباً بالعصا و أحياناً بالسوط.
شبك أصابعه فوق اللهب. تفحص العيون المتقابلة و قال:
ـ ضرب الجمل بالسوط تماماً كضرب الرجل… إهانة كبيرة. ضرب الرجل بالسوط هو إهانة للكرامة، و من فقد كرامته يتحول الى غول. الجمل النبيل كالرجل النبيل لايحتمل الإهانة أبداً.
بصق بعض اللعاب المتولد من مضغه لورقة التبغ، ثبَّت الورقة أسفل شفته السفلى بطرف لسانه، إلتفت جانباً و بصق. ردم البصاق بالرمل، نفض يده و حك أطراف الأصابع ببعضها لتخليصها من بقايا حبات الرمل العالقة. إلتفت الى الحضور و قال مُهمّهماً:
ـ الجمل النبيل كالرجل… كالفارس النبيل يجب أن لا يضرب. في كلاهما غول… وحش نائم. الضرب يوقظ هذا الوحش.
طأطأ رأسه، حدق في الأرض مواصلاً حديثه:
ـ صدقوني الجمل لايغدر… الجمل نبيل. الإنسان هو من يغدر. إذا غدر الحيوان فذلك بسبب الإنسان. الحكمة تقول لاتأمن للبشر و أمِن للحيوان، إن غدر بك الأول فلن يغدر بك الثاني أبداً.
إستمر الجدال بين الشيوخ بين معارض و مؤيد لفكرة غدر الجمال. حديث الشيوخ عن الغدر جعله يراقب رفيقه الجديد و يحصي عليه خطواته. صحيح إنه لم يضرب الفصيل أبداً منذ أن كان حُوَاراً صغيراً مربوطاً أمام الخيمة. لم يضربه أبداً و لكن لم يحبه أيضاً. شعوره بأنه غريمه جعله يحطاط من غدره. فكرة الغدر لم تفارق ذهنه أبداً و إزداد ذلك الشعور عندما رأى أحد الرعاة و هو مهشم الجمجمة و الدماء تنزف من أنفه، ذلك المنظر لم يفارقه أبداً.
أحضروه في الضحى. وضعوه على رداء صوفي أبيض و ثبتوه على ظهر المهري. الدماء النازفة من الرأس لوثت وبر المهري. الرأس المهشم مدلى من جانب الرداء و الدماء تنزف منه. في أطراف الشعر تيبست حبات الرمل الملوثة بالدماء. من الأنف نزف سائل مصفر.
عند وصول المهري الى ساحة المظارب تقاطر عليه أهل النجع. تجمهر الرجال و الشيوخ خلف الجثة المعلقة على ظهر المهري. خلف الشيوخ تجمع الفتيان و الأطفال و عيونهم تحدق في الرداء المعلق. علا الهمس و الهمهمة بين الحضور. خلف الخيام تجمعت النسوة الفضوليات محاولات إستطلاع مايجري في ساحة النجع.
وضعوه على الأرض. أحدث البدن هشهشة عند ملامسته للأرض. أزاحوا عنه الرداء. الوجه غطته الدماء و إختلطت حبات الرمل و التراب بالدماء، تيبس بعضها حول العينين. الرأس مهشم، الوجه تعلوه زرقة و العين اليمنى نصف مفتوحة لتخبر بالفاجعة، تسربت بعض حبات الرمل و تيبست تحت الجفن. الرقبة تملؤها الخدوش و جرح كبير غائر في أسفلها، حول الجرح بقايا اللعاب و سائل رغوي أبيض. الأنياب الوحشية أحدثت الجرح الغائر في الرقبة.
بين الجموع علت الهمهمة من جديد. خلف الصفوف غطى الأطفال أعينهم بأطراف أيديهم و إنسلوا هاربين، لم يستطيعوا رؤية منظر الدماء. خلف الصفوف إقترب الشيخ مختار، أحد الأطفال أبلغه بالنبأ. ترك عزلته و نزل الى ساحة النجع. شق الصفوف الملتفة حول الجسد الممدد… وصل أخيراً.
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله… إنَّا لله و إنَّا اليه راجعون.
قال الشيخ مختار و عيناه تتفحصان الجسد الممدد.
ـ كلنا لها… كلنا لها… كلنا سائرون اليها.
واصل كلامه. إرتكز على ركبتيه بجانب الرأس المهشم و قال:
ـ كل نفس ذائقة الموت… الموت حق ياجماعة… الموت حق…. أذكروا الله.
ـ لا إله إلا الله… لا إله إلا الله…
ردَّ الجمع بصوت خافت.
بعدها هدأت الهمهمة. هول المنظر أنساهم جلالة الموقف. وقفوا يثرثرون و يتبادلون الهمهمات عن سبب الوفاة. كلمات الشيخ مختار ذكرتهم بجلالة الموقف… سكت الجمع.
غطى الشيخ مختار الوجه بطرف الرداء، رفع يديه و تحركت شفتاه بصمت. مال برأسه نحو الجثة و قرأ في سره بعض الآيات… دعى للميت. مسح بيده على وجهه، رفع رأسه مخاطباً الجمع:
ـ الموت حق ياجماعة. إكرام الميت دفنه، عجلوا بالدفن يرحمكم الله. ستستعر القائلة1 عما قريب، عجلوا بالدفن قبل إشتداد الوغرة2… أكرموا ميتكم يرحمكم الله.
إلتفت برأسه من جديد الى الجسد الممدد. تأمله… مسح دموعه بطرف كم القميص الفضفاض. رفع رأسه مخاطباً الجمع من حوله:
ـ إسرعوا بحفر القبر…
بعد إنتهاء الدفن جلس خليفة خلف الصفوف يتأمل منظر القبر و الحجارة المصفوفة فوقه. كان قد شارك في حفر القبر مع بعض رجال النجع. بعد إنتهاء حفر القبر سأل بعضهم عن سبب الوفاة بهذه الصورة الفاجعة. قالوا له إن الراعي إنهال بالضرب بعصا السدر على ظهر الجمل. أحد الرعاة الموجودين في المرعى ساعة الواقعة أخبرهم بذلك. قال لهم إن الراعي عافر الجمل ليبركه لكي يضع المؤونة على ظهره. الجمل لم يستجب مما دفع الراعي لينهال عليه بالضرب. ضربه بالحبال، إستل عصا السدر المعلقة بطرف الراحلة و إنهال على الجمل ضرباً بكل قوته. الرسن الخشن المشدود في رأس الجمل لم يسمح له بالهروب. شدَّ الراعي الرسن من جديد و جذبه نحو الأرض… قاوم الجمل. لوى الراعي الحبل المشدود و لفه حول ظهر الجمل ثم جذبه الى الأرض من جديد، قاوم الجمل بعناد أصم، لم يبرك و إستمر مُنصِباً قامته. إستشاط الراعي غضباً، إنهال بعصا السدرعلى ظهر و رأس الجمل. ثورة الغضب أعمت عقله و عينيه، تكسرت العصا، رماها و إتجه نحو أكياس المؤونة المكدسة على الأرض، قلّبها بسرعة، نَكًت الملابس و الأواني و فتش بينها. وجده أخيراً، سحبه بقوة… سوط أسود وحشي مفتول من جلد الحيوانات. في طرفه مقبض ثخين مغطى بالقماش. مسك الطرف القماشي و ضربه في الهواء، أصدر صوتاً شق سكون الصحراء. لسع الجمل بطرف السوط الخشن المفتول. ضربه بشدة و عنف، مزق السوط الوبر… قطع الجلد و لسع اللحم… رغى الجمل مصدراً أنيناً فاجعاً:
ـ آآع ع آع آع آع آآآآاا ع ع ع ع ع.
لم يلتفت الراعي و إنهال عليه بشدة، ضربه على رأسه و قوائمه و ظهره. ضربه أمام باقي القطيع. لم يهتم لأنين الجمل، ثورة الغضب أعمته. ثأر الجمل، لم يحتمل المزيد من الضرب… و الإهانة. لوى رأسه بعنف… شد الحبل بقوة فإنفلت من يد الراعي… دار بسرعة البرق… إلتف حول نفسه و حول الراعي… بعثر بأخفافه3 أكياس المتاع المكدسة على الأرض. وجد الراعي نفسه في لمح البصر وجهاً لوجه أمام أنياب الجمل الثائر… المظلوم… المجروح و المُهان. قبل أن يدرك الراعي الموقف قضمه الجمل من عنقه، أطبق عليه بالأنياب الشرهة المسنونة… غطى رأسه الزبد الأبيض… لفظ من فمه سائل لزج… جذب الراعي المشدود من العنق و رماه أرضاً. برك على صدره… نزل بثقله الهائل فوق الضلوع… تمرغ فوق الجسد الهش. تعالت صرخات الراعي و إستغاتته… إختلطت برغاء الجمل الثائر. تطاير الزبد و سقط على الأرض، إمتزج بالرمل و بالدماء النازفة من الجسد الهش.
تجمهر الرعاة حول الجمل الثائر، إنهالوا عليه بالعصي و الحجارة و الحبال. لم يتحرك، ظل جاثماً فوق جسد الراعي. ضربوه بشدة… جروه… شدوا الحبل المربوط في رأسه… لم يأبه لهم. أوقدوا النار تحت قوائمه الخلفية، لسعته حرارة النار… وقف. بوقوفه كانت قد هدأت ثورته و هدأ معه جسد الراعي الى الأبد.
حملوا جثمان الراعي المهشم و إتجهوا به نحو المظارب…
جلس خليفة فوق الكُدية4 المقابلة للقبور المبعثرة في السفح، تأمل القبور و منظر الحجارة المنصوبة فوقها. مرت بذهنه صورة الراعي المغدور و الدماء تغطي وجهه، منظر الرأس المهشم و الرقبة المكسورة و الملفوفة لم يفارق ذهنه. تعجب كيف يمكن للجمل أن يفعل ذلك بصاحبه. تذكر توأمه الثالث و غريمه السابق، و تسأل في نفسه هل يمكن أن يفعل به يوماً ما مافعله هذا الجمل بالراعي؟… قفزت الى ذهنه كلمات الشيخ العجوز ” ضرب الجمل بالسوط تماماً كضرب الرجل إهانة كبيرة. ضرب الرجل بالسوط هو إهانة للكرامة، و من فقد كرامته يتحول الى غول. الجمل النبيل كالرجل النبيل لايحتمل الإهانة أبداً”. تسأل في نفسه “كيف؟!!…. هل ضرب الجمل إهانة له؟…. هل يشعر بالإهانة؟… هل ضربه بالسوط يمس بكرامته؟ و هل يغدر الحيوان ليثأر لكرامته؟”، هنا تذكر كلمات ذلك الشيخ الحكيم “الجمل لا يغدر أبداً… الجمل حيوان نبيل. الإنسان هو من يغدر. إذا غدر الحيوان فذلك بسبب الإنسان. الحكمة تقول لاتأمن للبشر و أمن للحيوان، إن غدر بك الأول فلن يغدر بك الثاني أبداً”.
نفض الغبار العالق بأطراف ثوبه. نظر الى القبر من جديد… تمتم ببعض الكلمات في سره. إستدار و لحق بالجموع العائدة الى المظارب.
بعدها راقب توأمه الثالث و غريمه السابق…..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ القائلة: نصف النهار. 2ـ الوغرة: شدة توقد الحر. 3ـ أخفاف: خف البعير هو مجمع فرسن البعير و الناقة. 4ـ الكُدية: الأرض المرتفعة (لسان العرب).
ـ5ـ
مراقبته المستمرة لرفيقه الجمل و غريمه السابق غرست في نفسه فكرة الغدر. رأى الغدر في تصرفات القعود عدة مرات، كان يتتبعه دائماً. رأى في نظرات الجمل ملامح الغدر. غريمه السابق لم ينسى أبداً مشاركته له في ضرع الناقة، ظلا معلقان بالضرع لعامين. الشعور بالمشاركة مازال منسوجاً في ذهن الجمل، لابد و أن ينتقم منه يوماً… الجمل لاينسى… لاينسى أبداً. مهما طال الزمن فإن الجمل لا ينسى ثأره هكذا يقول شيوخ البدو الحكماء في الصحراء.
رأى الغدر في عيني رفيقه عندما كان يهش قطيع الأغنام الى البئر. كان الجو حاراً جداً، أشعة الشمس الملتهبة كانت تحرق الأشياء. ترك الأب رفقة القطيع في أسفل الشِعاب و سبقه الى البئر. إصطحب القعود لكي يجر به المياه. كان يستخدمه دائماً لجر المياه، يربط الدلو بطرف الحبل المدلى في البئر و يربط طرفه الآخر بالحبال المثبتة حول سنام القعود. يسوق القعود أمامه فيجرالحبل و يخُرج الدلو المملؤ من قاع البئر. كان يطيعه دائماً أو ربما كان الخوف هو مايدفعه لذلك… الخوف من العصا التي يلوح بها خليفة في الهواء خلف الجمل.
في ذلك اليوم سبق الأب نحو البئر. حاول الإسراع قبل أن تستعر القيلولة و يشق عليه عمله. ساق القعود المشدود بالحبل، قطع الشِعاب و هو يجر القعود خلفه، صعد الرابية المكسوّة بالحجارة. وهج الحرارة كان يلسع عينيه، حرارة الشمس و وهج الحجارة الساخنة كان يحرق الأعين. لفَّ العمامة حول رأسه و جذب طرفها السفلي فوق طرف الأنف. شد الحبل و واصل سيره بين الحجارة الملتهبة. تعثر بأطراف الحجارة، صهيد* الشمس و وهج الحرارة الهبا عينيه فلم ينتبه للحجارة، تعثر بها وسقط… سقط على بطنه. و هو يهم بالوقوف من جديد إلتفت فجأة ليرى ذلك الرأس المدبب ذو الاُذنين الصغيرتين المكسوّتين بالوبر الأصفر، الفم الشره المفتوح يحاول قضم كتفه. قفز بسرعة البرق، قفز فوق الحجارة، أدمت الحجارة طرف أصبعه الأيمن. إلتفت خلفه بسرعة لينظر هل أصبح في مأمن من ذلك الفم الشره أم لا؟. قفز من جديد بدون شعور، إبتعد عن القعود بعدة خطوات، إلتفت الى القعود و هو يرتجف من الخوف:
ـ لعنك الله… أيها الغدار… تريد قضمي هااااه… لعنك الله. إنك لاتنسى… الحقد يملؤك… الغدر يملؤك. لعنك الله.
أومى بالعصا في الهواء و لكنه لم يضربه. شدَّ الرسن و ساقه من جديد و عيناه لاتفارقان ذلك الرأس الكريه… لن يأمن له بعد اليوم أبداً.
عند البئر قص ماجرى لأبيه.
ـ أنت مخطي ياولدي. الجمل حيوان نبيل و رفيق وفي… الرفيق لا يغدر ياولدي.
قال الأب مستغرباً لما حكى خليفة.
ـ و لكني رأيته بأُم عيني ياأبي… كان يحاول قضمي بفمه الكريه. عندما تعثرت و سقطت على الأرض مدَّ رأسه خلفي، رأيت فمه مفتوحاً. صدقني كان يريد عضي.
ردَّ خليفة و هو يحاول توضيح ماجرى لأبيه.
ـ في الأمر خطأ ياولدي. ربما كان يريد مساعدتك.
قال الأب.
ـ مساعدتي؟!!… كيف؟!!… يساعدني.. يعضني؟!. لقد رأيت الفم الكريه و تلك العيون المملؤة حقداً و غدراً.
ردَّ خليفة. غسل يديه في طرف الحوض المصنوع من الحجارة. نفض يديه في الهواء ثم مسح وجهه. إلتفت الى الأب و قال:
ـ صدقني ياأبي إنه غدار، هذا القعود غدار. ياأبي هذه ليست المرة الأولى لقد سبق و أن فعل الشيء نفسه عدة مرات و لكني لم أكن أهتم لذلك، ظننته شيئاً عارضاً، لم أهتم بنظرات الغدر في عينيه. نعم لقد سبق و أن فعلها ياأبي، لقد حاول عضي عدة مرات. عندما أتعثر ينقض عليَّ محاولاً قضمي، فعلها في المراعي و حتى في أطراف النجع، إسأل الرعاة لقد رأوه و حذروني منه… إنها ليست المرة الأولى ياأبي.
إلتفت الأب نحو القعود البارك بجانب البئر ثم قال دون أن يشيّع بصره عنه:
ـ إسمع ياولدي الحكمة تقول إن الحيوان لايغدر. إذا غدر الحيوان فذلك بسبب الإنسان، قد يغدر بك رفيقك الإنسان و لكن أبداً لن يغدر بك رفيقك الحيوان.
حدق خيلفة في الأب مستغرباً. إلتفت الى القعود البارك و تمتم في نفسه:
ـ غدااارررر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الصهيد: شدة الحر. صهدته الشمس: أصابته و حميت عليه (لسان العرب).
ـ6ـ
توالت الأيام…
تغيرت الأمور…
مات الأب. مات فجأة، مات و هو في أشد عنفوانه، لم يشتكي من شيء و لم يتألم من شيء. كان في قمة صحته و عافيته، لم يستيقظ كعادته في الصباح الباكر، ظل نائماً تحت الغطاء حتى بعد شروق الشمس. إستغرب خليفة أن ينام أبوه لهذه الساعة المتأخرة، لم يعتاد على ذلك. عندما أيقظه لم يرد، هزه بعنف فلم يُجِب، رفع الغطاء من على رأسه فوجد الجسد خامداً و قد عمته البرودة.
بعد وفاة الأب بشهرين فاتحه أحد الشيوخ بالأمر. سأله عما عساهما يفعلان بتركة الأب؟. تسأل خليفة ببلاهة:
ـ أي تركة ياشيخ؟!!… لم أفهم.
قال العجوز و هو يلوك عود السواك بين أسنانه:
ـ أنت تعلم… ذلك حق. يجب أن تتفاهم مع أخيك مسعود حول ذلك. أنتما الوريثان الوحيدان لأبيكما. عليكما بالتفاهم… التفاهم سيد الأعراف ياولدي… التفاهم هو مفتاح المصالحة.
ـ أي تفاهم؟!… لم أفهم بعد.
ردَّ خليفة مستغرباً. لفَّ العجوز الرداء حول كتفه الأيمن و قال:
ـ لقد أخبرني الشيخ مختار بأنه فاتح أخاك مسعوداً بالأمر و لكنه تعصب و أنكر حقك في المشاركة.
ـ أي مشاركة؟!… و أي حق ذلك الذي أنكره أخي مسعود؟
ـ إسمع ياولدي أخوك مسعود يُنكر حقك في الميراث، يقول بأنه ليس لك حق في شيء، هو من قاسى و كابد أهوال الصحراء و هو من إهتم بالقطيع و ليس أنت، لذلك لا يريدك أن تقاسمه في شيء.
قال العجوز و هو يحدق في الأرض. ثفل بقايا السواك الصغيرة العالقة بين أسنانه، إلتفت الى خليفة قائلاً:
ـ يقول إنك لم تتعب كما تعب هو. أمضيت صغرك و أنت تنعم بالظِل في خيمة الشيخ مختار بينما هو يكابد حرارة شمس الصحراء اللافحة. يقول إنه جعل القطيع ينمو و يتكاثر، وإنه أمضى حياته بين الأودية و الشِعاب و لولاه لما أصبح القطيع بهذا العدد.
ـ ………………..
لم يُعقّب خليفة على كلام العجوز. مسح العجوز فمه بيده اليمنى و واصل قائلاً:
ـ الشيخ مختار جادله كثيراً لكنه عنيد، رأسه كرأس الضب… عنيد كالصخر. هداه الله لايعرف إن هذا حق و لاينكر الحق إلا الجاهل… هداه الله.
حديث العجوز فاجأ خليفة و أدهشه، لم يفكر يوماً في المال و لا في الإبل، إعتكافه على حفظ القرآن غرس في نفسه الزُهد في متاع الدنيا. كان يقوم بمساعدة الأب لأجل المساعدة لا غير، متاع الحياة لم يبهره يوماً. لم يدهشه منع أخيه لحقه و لكن أدهشه نكران الحق في حد ذاته، ألا يعلم إن نكران الحق ظلم مابعده ظلم. مهما يكون هذا الحق زهيداً و صغيراً فلاينبغي نكرانه.
ـ سأذهب الى أخي مسعود و أفهم منه الأمر. في الأمر خطأ ما… سترى ياعم.
قال خليفة و هو يهم بالذهاب الى خيمة أخيه مسعود.
مضى شهران على وفاة الأب لم يرى خلالهما أخاه مسعوداً، ملازمته الدائمة لقطيع الإبل أبعدته كثيراً عن النجع و عن خليفة. في الخيمة إستقبله مسعود بوجهٍ عابس، لم يصافحه و لم يدعوه للجلوس. إستغرب الأمر، لم يفعل مايغضب الأخ بهذه الصورة. لم يصدر منه مايعكر العلاقة بينهما، حتى الإبل… التركة لم يطالب بها يوماً فمالذي دفع مسعود لكي يستقبله و يعامله بهذه الصورة السيئة.
ـ مالذي جاء بك هااااه؟… ماذا تريد؟
قال مسعود و عيناه تنظران بجحوظ الى خليفة.
ـ جئت لكي أراك و………
ـ و ماذا هاااااه؟
ردَّ مسعود مقاطعاً كلام أخيه.
ـ قل…. ماذا تريد؟…. لماذا جئت؟… هااااه.
ـ ……………….
لم يرد خليفة. تًهجُم مسعود عليه بالأسئلة أربكه، لم يتوقع إستقبالاً كهذا من أخيه. واصل مسعود قائلاً:
ـ لقد أخبرني الشيخ مختار بأمر القسمة، طلب مني القسمة بالعدل… بماشرع الله.
ـ الحق حق ياأخي.
ردَّ خليفة بنبرة خافتة. إلتفت اليه مسعود جاحظ العينين و قال:
ـ أي حق هذا؟… أي حق؟ هل أنت مجنون؟… أي حق؟
ـ ماحدثك به الشيخ مختار.
أجاب خليفة بنفس النبرة الخافتة.
ـ هه… ماحدثني به الشيخ مختار… شيخك… أتعلم ماذا يريد؟
ـ ………………
ـ يريدنا أن نتقاسم القطعان بالتساوي… قطيع الإبل و قطيع الأغنام…. بالتساوي…. أتفهم؟
قال مسعود ملوحاً بيده في الهواء. إلتفت الى خليفة و واصل:
ـ كيف يكون ذلك؟… هذا لايعقل. أنا أكابد الحر في فيافي الحمادة الملتهبة و اُقاسي ليالي البرد القارس في شِعاب الصحراء و أنت تنعم بالظِل الوفير في خيمة الشيخ مختار ثم نتقاسم… بالتساوي. هذا جنون.
ـ و لكني أنا أيضاً عانيت ما عانيته أنت.
ردَّ خليفة بنبرة خجولة. إلتفت اليه مسعود قائلاً:
ـ عانيت!!… ماذا عانيت؟ أتقصد تتبعك لقطيع الأغنام؟ ههااااهه. كم تبعته؟… سنة… سنتان… ثلاثة… أربع؟ هل أضعت شبابك خلفه؟ هل أمضيت حياتك تتبع الكلأ و الماء في أعالي الحمادة؟ قل… هاااه. مالذي فعلته؟
سكت خليفة و لم يرد. واصل مسعود شاهراً سبابته في وجه أخيه:
ـ أنت لم تفعل شيئاً و لم تقاسي شيئاً أبداً. لقد كنت الإبن المدلل لأبيك، لقد خاف عليك من وهج الصحراء فدفعك لظِل خيمة الشيخ مختار، وحتى عندما أرسلك خلف قطيع الأغنام أرسل معك مَطِيَّة… توأمك السابق… رفيق تعلقك بالضرع… لاتنسى ذلك.
كان يعيره دائماً بتعلقه بضرع الناقة. منذ طفولتهما، عندما يتعاركان كان ينبزه بذلك، كان يصفه بالإبن المدلل، بالإبن المعلق بالضرع و أن لا فرق بينه و بين الحُوَار. كان يقول له “لافرق بينكما، الحُوَار يمشي على أربع و أنت تمشي منتصباً، لا فرق بينكما إلا هذا”. كان فظاً جافاً و غليظاً و كان كلامه قاسياً. عندما شبَّا كانا لايلتقيان و عندما يتصادفان في النجع كان لايعيره أي إهتمام، كان يشيح عنه بوجهه كأنه لم يره. إبتعاد مسعود عنه قرّبه من بقية الفتية في النجع.
شبَّ مسعود و لم يكن لديه أي رفيق أو صديق بين فتية القبيلة، الجميع كان يتحشاه و يتحاشى الإلتقاء به. كان ذا لسان سليط، لايأبه بأحد و لايتواني في نبز أحدهم أو تعييره أو حتى شتمه، في إحدى المرات روى بعض الفتية إنهم رأوه و هو ينهال على أحد الرعاة بالضرب. ضرب الراعي المسكين لأنه لم يفهم مقصده، أمره بإحضار المهري فأتي له الراعي بجمل آخر. ثفل عليه ثم سبه وعيّره بالغباء و البلاهة و عندما أراد الراعي الإنصراف تحاشياً لسماع السباب رأى مسعود في ذلك عدم مبالاة بكلامه و إهانة له. جذب الراعي من أطراف ثوبه، لعنه و سبّه من جديد ثم سلَّ حزامه الجلدي و إنهال عليه بالضرب. حضن الراعي المسكين رأسه بين ذراعيه محاولاً حمايته من ضربات مسعود. ثفل عليه من جديد… شتمه… سبّه… و سبّ أمه. ركله برجله، هرب الراعي مهرولاً بإتجاه الوادي. توارى خلف شجيرات الرتم. رأوه الرعاة فيما بعد و هو يجهش يالبكاء.
عندما أخبر الفتية خليفة بقصة مسعود مع الراعي المسكين حزن لذلك. تنهد بحرارة و دعا له بالهداية.
منظر مسعود الآن و هو يعيره و يتهجم عليه شاهراً سبابته في وجهه ذكَّره ذلك بقصة الراعي المسكين. نظر الى مسعود من جديد و تمتم:
ـ هداك الله ياأخي… ردك الله الى الصواب.
قاطعه مسعود ثائراً:
ـ أنا لست مجنوناً… أتفهم؟… لست مجنوناً، و لن أكرر ماقلته… لاحق لك عندي.
هزَّ رأسه بعنف في وجه خليفة، رمقه بتقزز، جحظ عينيه مواصلاً:
ـ لاحق لك عندي… أتفهم؟… لاحق.
إستمر الجدل بينهما. حاول خليفة تهدئة مسعود و إعادته لصوابه و لكنه إستمر يزمجر و يتوعد. إستشاط غيظاً عندما ذكّره خليفة بأن الإبل كانت لوالده و إنه كان يساعده طوال الصيف. ذكّره بالحق و ضرورة إعطائه لأصحابه. إقترب منه مسعود، أشهر اصبعه أمام عينيه، زفر بشدة في وجهه و قال محذراً:
ـ أي حق؟… أي حق؟. أنت مجنون. أنت جاهل… المال مالي. لاتحدثني في هذا الأمر مرة أخرى، ثم لا أريد أن أراك بعد اليوم… هيا اُخرج من خيمتي. لا أريد أن أراى وجهك.
زفر بقوة، هز أصبعه في وجه خليفة متوعداً:
ـ إن عدت الى هذا الأمر من جديد… إن عدت الى هنا… سأقتلك.
ـ7ـ
بعد لقائه بمسعود في خيمته و خروجه منها مطروداً لم يره بعدها. لم يحَّكم أحداً في الأمر، ترك الأمر برمته. تركه للوقت، الوقت وحده كفيل بإرجاع مسعود الى صوابه. تجنب الإلتقاء بأخيه حتى لايثير غضبه.
توالت الأيام…
كان خليفة يمضي وقته في قراءة القرآن و أحياناً يساعد الرعاة في سقي الأغنام عند البئر. كان لايفارق القعود، كان رفيقه الدائم. رغم كرهه المكتوم لهذا الحيوان فإنه لم يفارقه أبداً، رغم شعوره بأن هذا الجمل يضمر له الغدر لكنه لم يفارقه.
كان الوقت في بداية الخريف…
تجمعت السحب المتفرقة في كبد السماء، هبت بعض النسمات الباردة. في المساء إزداد تجمع السحب و تراكمها، أصبحت داكنة اللون و بطيئة الحركة. رؤية السحب الداكنة العامرة بالماء في أوقات الخريف بشارة يتهلل لها كل بدو الصحراء.
مع ثلثي الليل الأخير سمع كل من في النجع صوت الدمدمة، خرجوا من أطراف خيامهم يراقبون السحب الكثيفة. في الجهة الشرقية ومض البرق بين السحب الداكنة، قدروا المسافة بحسب إرتفاع البرق عن مستوى الأرض. قال بعض الرجال إنه برق منخفض جداً و بالتالي فهو بعيد جداً، ربما يكون على أطراف الحمادة الحمراء. راقبوا البرق لبعض الوقت، كان السوط الناري يسري بسرعة و يتعرج محدثاً شبكة من الضوء و النار بين كتل السحاب الداكنة. وقف البعض يراقب الحدث لساعات. لسعهم البرد فإنسلوا الى خيامهم.
في البعيد إستمر الخيط الناري يتعرج و يلتوي بين السحب محدثاً دمدمة يتردد صداها في الأفق البعيد المتسع.
في الضحى سمعوا أصوات الصراخ المُحِذرة، تعالت الأصوات و هي تنبه النساء و الأطفال لكي يبتعدوا عن الوادي:
ـ هييييه… الأطفال… أبعدوا الأطفال… هشوا الأغنام بعيداً… هييييه الصِغَار.
كان خليفة يجالس الشيخ مختار عندما سمع الهرج و الصراخ الصادر من أطراف الوادي. هرع مهرولاً ليعرف ماذا يحدث، إلتقى ببعض الفتية المهرولين بإتجاه الوادي حاملين عصيهم. إستوقف البعض و سألهم مالخطب؟
ـ الوادي… السيل… السيل قادم.
ـ أي سيل؟… عما تتحدث؟!
سأل خليفة.
ـ الوادي يسيل… السيل قادم.
ردَّ الفتى بسرعة و إتجه مهرولاً ليساعد باقي الرجال في إبعاد القطعان من الوادي لكي لا يأخذها الطوفان. وقف خليفة في مكانه متسائلاً: الجو لايوحي بالسيل فلا أمطار و لا رياح فمن أين يأتي السيل؟!!، و لكن سرعان ماأدرك أن البرق المنخفض الذي ظنه البعض بعيداً، و أنه ربما يكون على أطراف الحمادة قد غزت مياهه أعالي الوادي فوصل سيله الى المظارب مع الضحى.
هرول بإتجاه الوادي. من بعيد رأى الموجة الهائلة من الزبد الأبيض. في أعالي الوادي إندفع الماء محدثاً موجة من الرغوة البيضاء. غطى الشجيرات مصدراً خريراً و عند وصوله الى النجع تحول الى هدير يصم الآذان. ساعد الفتيان على إبعاد المواشي من مجرى الوادي. إلتفت وسط الجموع، تفحص الفتيان و الرجال فلم يره، هرول الى الجهة الجنوبية من المظارب فلم يجد له أثراً. عاد مسرعاً، سأل أحد الشيوخ:
ـ أين مسعود؟… أين مسعود؟
ـ لم أره.
هزَّ الشيخ عمامته بالنفي.
عاد مهرولاً الى الجهة الشمالية حيث الفتيان. سألهم عن مسعود، فأخبروه أنهم لم يرأوه منذ الأمس. إستوقف أحد الرعاة… سأله… أخبره بأن مسعود بات ليلته في الشِعاب السفلى من الوادي بعيداً عن المظارب. شمّر عن ساقيه و هرول، فك قعوده المربوط أمام الخيمة، قفز على ظهره… همزه بعنف و إنطلق. لسع فخذ القعود بالسوط فسارع خطواته، سارع في لسع فخذ القعود بالسوط فسارع القعود في تسابقه مع الماء المنحدر في الوادي. إنحنى يميناً، قطع الشِعاب… صعد الرابية… رأه من بعيد في الشعبة السفلى من الوادي. على يساره رأى الموجة البيضاء تتقدم بعنف و تلتف كالثعبان مع إلتفاف الوادي. سابق الموجة، نزع عمامته و لفها في الهواء محذراً مسعود. صرخ بقوة:
ـ هييييه…. مسعوووود… هييييه… الوادي… الوادي…. هييييه.
لم ينتبه مسعود و لم يرى العمامة. عاد و صرخ بكل قوته:
ـ مسعوووود… الوادي… السيل… السيل يقترب… هييييه… اُخرج من الوادي… هييييه.
عندما وصل الشعبة السفلى كانت الموجة المزمجرة قد سبقته. ترجل من على ظهر القعود و هرول بإتجاه الوادي. الماء مازال ضحلاً، سارع بإتجاه أخيه.
ـ هييييه… مسعوووود… الوادي… إنتبه.
كان الماء قد أدرك مسعود و لكنه لم يكثرت به كثيراً، ظن إن السيل ضحل. إنهمك في هش رؤوس الإبل لإخراجها من الوادي. لحظات حتى عمت الموجة البيضاء المكان. لم ينتبه مسعود لقدوم الموجة، دفعته أرضاً… سقط… قاوم… تشبث ببعض الشجيرات، رفع رأسه لكي لا يغمره الماء. تشبث أخيراً بصخرة ملساء في وسط الوادي. في تلك اللحظات إلتفت مسعود الى خليفة الذي غمره الماء و قذف به في وسط الوادي… أسقطه… قاوم… جرفت المياه التربة من تحت قدميه… سقط من جديد… إرتطم بالحجارة… جره الماء على الشجيرات اليابسة… تجرع الماء و الطين و القش. غمر الطين رأسه و عينيه… تلاعب به الماء كمايتلاعب الطفل بالحصاة الصغيرة. جره الماء من جديد، أدمت الحجارة أطرافه. تقيأ الماء الممزوج بالطين و القش، حاول الإمساك بالأغصان و الشجيرات. أمسك الحجارة الرطبة… جره الماء بعيداً… قاوم الموج… تعثر… سقط… نهض… قاوم بكل قواه. عرف أن رفع الرِجل يجعله يسقط بسهولة، جر رجليه جراً متحاشياً رفعهما كي لايسقط من جديد.
إقترب ببطء. وصل أخيراً، وصل الى الصخرة حيث يتشبث مسعود. مدَّ يده لمسعود قائلاً:
ـ يدك… يدك يامسعود… يدك… سيأخذني الماء من جديد.
مكث مسعود مكانه، لم يمد له يده و لم يجبه. أعاد قائلاً:
ـ يدك يامسعود… سأسقط… يدك.
هنا ردَّ مسعود:
ـ الصخرة صغيرة… ألاتراها؟ إنها صغيرة و لن تسعنا نحن الأثنين. عليك بالبحث عن صخرة أخرى، هذه لن تسعنا سنسقط نحن الأثنين. إبحث عن صخرة أخرى.
حدق خليفة ببلاهة في مسعود، أدهشه رده. لم يكن يتصور أن يتركه هكذا في الطوفان. لم يرد، تلعثم لسانه و تخشب في حلقه من المفاجأة. ذهوله و تفكيره في رد أخيه أبعد عنه التفكير في الماء… غمره الماء من جديد… أسقطه… قَلبه… و قلّبه. جره على الحجارة، غمره بالطمي الممزوج بالقش و العيدان و روث الحيوانات، تجرع المياه الطينية و تقيأها… فقد عمامته… أخذها الماء بعيداً… تلاعب به الموج. وجد نفسه أخيراً عالقاً في أغسان السدرة… تمسك بالأغصان… وخزه الشوك… جرحت الأغصان الشائكة بنان إبهامه الأيمن، إمتزج الدم بالمياه الصفراء الطينية. شعر بالوخز و الألم و لكنه لم يترك الأغصان، تشبث بها بكل قواه… هذا أمله الوحيد و إلا سوف يموت. كلمات مسعود مازالت تدق في أذنيه، إختلطت في رأسه إشارات الحيرة و الإستفهام و الذهول.
إزداد تدفق الماء… إرتفع منسوبه… غطى الماء منكبيه و وصل الى ذقنه. رأى أمامه صفحة الماء الصفراء الطينية و هي تزمجر جارةً معها الأغصان اليابسة و جيف الحيوانات النافقة و مزيج من الرغوة البيضاء و القش و بقايا الحشرات اليابسة و روث الحيوانات. مزيج كريه و مقزز يطفح أمام فمه الآن، شعر بالدوار و برغبة في التقيؤ.
عرف إن منسوب الماء يرتفع، كاد يصل الى فمه، عرف إنه هالك لا محالة. غريزة التشبث بالحياة تحركت بداخله… رفعت خفقات القلب فدق بعنف. حامت على العينين فرأى طيف الموت يقترب. قفزت الى لسانه… حركته فصرخ بأعلى صوته:
ـ هييييه…. أنقذوني…. هييييه… الماء… الماء… سأموت.
إبتلع الموج الهادر صراخه و إستغاتته. لم يجبه أحد، حتى مسعود الذي لايبعد عنه سِوى بضعة خطوات لم يجبه. عندها إستسلم و أيقن بأنه ميت لا محالة. حاول تجميع بقايا شجاعته و شرع في قراءة بعض الآيات. أحس بالموت يتسلق أطرافه ببطء، علا الطنين في أذنيه، إرتخت أجفانه و سقطت ببطء و قبل أن يغلق عينيه شعر بأنفاس حارة خلف أذنيه. ظن إنها من تخيلات عقله المرعوب. إلتفت فوجد الرأس المدبب المكسوّ بالوبر، الرأس ذو العينين الواسعتين و الأذنين الصغيرتين اللتين تشبهان قرني صّل. الفم الواسع المفتوح الممتد الي عنقه، إنه قعوده… رفيقه… توأمه الثالث و غريمه السابق. أدركه أخيراً… قال في نفسه:
ـ الوغد… الغدار أدركني أخيراً. كنت أعرف إنه غدار، إغتنم الفرصة… فرصة غرقي و عجزي ليصل الى رقبتي… الغدار… الوغد… الماكر… كنت أعرف بأنه سيغدر بي يوماً.
إقترب الفم الواسع المفتوح من العنق المبلل بالماء و الطين و الخوف. برزت الأسنان المصقولة، قضمه أخيراً… قضمه من الرقبة… رقبة القميص. رفعه عالياً و إستدار به، جره عبر المياه و الموج المتصارع. قطع الوادي و كأنه قطة تحمل صغيرها بفمها. لم يفهم خليفة ماذا يحدث… لم يستوعب… تعلقه في فم القعود و هو يجره وسط المياه شل تفكيره. تقدم القعود ببطء، تجاوز حلق الوادي، وصل أخيراً الى الطرف اليابس، وضعه على الأرض. إرتطام أرجل خليفة بالأرض اليابسة حرك عقله المشلول… فهم الآن… لقد خرج من الماء… لقد نجى. غريمه السابق… توأمه الثالث… رفيقه أنقذه من الغرق.
دارت الأفكار بسرعة في رأسه، شريط من الأحداث مر بسرعة البرق بذهنه في تلك اللحظات. تذكر طفولته و هو يشارك الحُوَار في حليب الضرع، تذكر سقطاته و هجوم القعود عليه. كان يريد مساعدته و ليس عضه، كان يريد إنقاذه و ليس قضمه. لقد ظلمه كثيراً، لقد كان مغفلاً و جاهلاً. لم يفهم نية الحيوان، لم يجيد قراءة نظراته. أخطأ الفهم فأخطأ في الحُكم. إنه جاهل… مغفل… غبي. كيف لم يفهم ذلك و لم يلاحظه.
تذكر كيف ردَّ مسعود يده… لم يساعده… لم ينقذه. توأمه البشري تخلى عنه… غدر به و أنقذه توأمه الثالث… الحيوان… النبيل… رفيقه. أساء فهمه و أساء الظن به. رأى الغدر يملى رأسه و لكن كان رأس الحيوان يملؤه النبل و لم يغدر به.
هنا قفزت كلمات الأب الى أذنيه كالشرر ” الحيوان نبيل لا يغدر… الإنسان هو من يغدر”. قفز و طوّق عنق القعود بذراعيه المبللين بالماء و الطين. دسَّ رأسه تحت فكي الحيوان، إحتضنه بشدة و بكى… بكى بشدة…. بكى لأنه ظلم توأمه و رفيقه. ظل واقفاً و يداه تطوقان رقبة القعود. شعر بقطرة حارة تنساب على كتفه الأيسر… قطرة… قطرتان حارتان تسيلان على كتفه. رفع رأسه نظر الى الرأس المدبب المكسوّ بالوبر و الى العينين الواسعتين، رأى قطرات الدموع تتلألأ في أطراف الأهذاب المعقوفة.
عاد الى إحتضان رفيقه الحيوان و أجهش بالبكاء.
خلفهما في حلق الوادي صخرة صماء تدور حولها المياه… بدأت المياه في الإنحسار. فوق الصخرة تشبث التوأم الثاني… البشري و عيناه تحدقان في الجهة المقابلة.
بينهما علا هدير الماء المنحسر… و واصلت الموجة البيضاء سيرها الى أسفل الوادي.
15.05.2010