فقه التدوين
(عن الصحافة)
المؤسسة العامة للصحافة من ألم وذهب المحابر، إلى رفوف التوابل بمطاعم مانشستر
حلقة (2)
مرجعية الحلم .. والعشر العجاف
لكن القليل من الحبر يكفي ولو لبيت من الشعر
كانت (لا) مجلة معارضة بمعني هذه الكلمة، لأنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء التي خطها (مؤسسها)، أما عن اختيارهم لعدم الجلوس معه (سواء قلة لا تكاد تذكر منهم حضرت معه اجتماع التأسيس، كانت دوافع بعضهم التغطية على غياب معظم زملاء السجن)، والذي جلس على صدر مائدته هؤلاء الغائبون، والذين آلت مجلة (لا) أليهم لاحقاً، فهم أكثر من علمنا درس أن المفكر والمثقف والصحفي، لا يتحاور مع السلطة، ثم أنهم أدركوا أنه لم يكن يملك لهم حينها سوى الاعتذار منهم، والذي لم يكونوا ليقبلوه منه، وإعطاءهم بعض الوعود والتي لم يكونوا ليصدقوها.
أما خطوطه الحمراء وتوجهاته، فلم يقفوا عندها، فهو لا يطاولهم معرفة وعلماً وثقافة وتنويراً، وطالما وقعت المجلة ومسئوليه أصدرها على عاتقهم، فهم أدرى برسم سياسة تحريرها.
كانت مجلة (لا) تصدر عن رابطة الأدباء (لذا كانت مجلة نخبة مثقفة)، واختارت نتيجة الفراغ الحاصل، أن تعمل لأجل صالح الشارع الليبي، وتعبر عن همومه، وهذا ما زاد في تقديرها في عيون روادها ومقتنييها. ثبت لاحقاً أن هذا سبب انزعاج المنظومة الحاكمة منها، والدفع بها على عكس المرات الماضية ليس لغياهب السجن، لكن بإغلاقها بالتقطير، وذلك عن طريق الحصار عليها، وإثارة فتنة المطابع وحججها ألا متناهية مع المطبوعة، وهذه لعبة يتقنها النظام جيداً، فليبيا إلى وقتنا هذا لا تملك حل لمشكلة المطابع، في حين مدينة في دولة مجاورة تملك 80 مطبعة، وقد نجح النظام أخيراً في إقفال المجلة، بعد أن حرمت منها الشعب الليبي بكامله، والذي لأول مرة منذ الانقلاب صارت له وسيلته الإعلامية، التي تعبر عنه ويشعر إنه منها.
وعود لمسطرة الحكاية الذي استهللت منه. أضيف أن مجلة (لا) لم تكن هي دافعنا ومرجعيتنا الوحيدة حين التحفنا بالمؤسسة الجديدة، بل كانت هناك تجربة أخرى سبقت مجلة (لا)، كانت هي الأقرب لعالم أحلامنا كصحفيين، في صحيفة مكتملة، وأشرف على إصدارها صحفيين ويميزها كونها مشروع لصحيفة يومية وليست بمجلة شهرية، كما إنها كانت أنتاج لصحفيين ولم تكن بمشروع لمثقفين وإن استعانت بهم، كانت صحيفة تحمل من كمال المهنة كل أوسمة التميز، بل كان لها شرف المنافسة على مثيلاتها، على الأقل بالدول المجاورة، كانت تجربة لم ينقصها من شروط المهنة سوى استمرارها، وكيف لا وهي صدرت عن رابطة الصحفيين، وعمل عليها نخبة من خيرة صحفيي ليبيا، لكن (الحلم يجهض وليداً في ليبيا)، فلم يصدر من منها سوى عدد وحيد كافح الأستاذ “محمود البوسيفي” بصفته أمين رابطة الصحفيين، ومجموعه من الزملاء على إصدارها، وكان لي شرف الحظ، في أن أكون قريباً منهم وواحداً، منهم بصفتي عضو برابطة الصحفيين الليبيين، لكن عند أول اختبار، وصدور عددها الأول، والتي اختار لها الأستاذ “محمود” اسم (الصحافة) اكتشف الرقيب والمنظومة الحاكمة، أنها أمر دبر بليل، نسجته محابر وأقلام وأحلام صحفيين، يقودهم توقهم لحمل مشعل حرية التعبير والعمل بصحافة للرأي والرأي الأخر، كذلك الاستطلاع عن هموم المواطن، والعمل صحفياً على إظهار المساوئ والفساد والذي كان يتلبس كل من في النظام حينها، والتي يعاني المواطن البسيط تبعاتها، لكل هذا سعى الرقيب بعد أن فوجئت المنظومة الحاكمة بخروج الأعداد الأولى من ماكينة المطابع للأكشاك ومحلات الصحف، لمصادرة جميع أعدادها حتى لم يتبق لدينا ما نحتفي به منها، سوى عدد واحد قمنا بوضعه في إطار بشقة الاستاذ “محمود” سيظل ذلك العدد مصدر فخارنا بمهنتنا وبمغامرتنا (المجنونة) بإصداره. كذلك لن ينسى كل من ساهم في هذا الإصدار، احتمال “محمود البوسيفي” لوحده تبعات تلك الجريمة حينها، الأمر الذي كان بمثابة (خيانة عظمى)، والذي ثبت فيما بعد، وخيم عاقبته، بل وصبر جلاده (كم للحقد مقدرة ع الصمود) عليه، نتيجة خطيئته تلك، حينت تم التآمر على آخر أحلامنا كصحفيين، بإنشاء نقابة عامة لنا بدلاً عن شبه رابطة، نحاول من خلالها ما أمكن جمع شتاتنا على كبر خارطة الوطن (فقد أتضح لاحقاً أن أحد حفاري الساق، ومنظري الفكر الجماهيري، الصندوق الأسود للحقد تجاه الصحفيين، لم ينسى هذا التجاوز الفردي لـ”محمود” بإصدار صحيفة في غفلة عن عيون النظام، فبعدها وبفترة طويلة، تم مصادرة حلمنا بجمع شملنا بنقابة تحمي حقوقنا كصحفيي العالم، فعمل على قتل حلمنا في مهده، تشفياً ليس إلا، وبانقلابٍ لازلنا نعاني تبعاته إلى الآن، عديناه حينها الضربة الأخيرة).
لكن قلم المثقف والصحفي لا يجف حبره، ولا يكف لا عن الحلم ولا الأمل، ولا حرصه عن فعل الكتابة، بل على العكس تماماً، فقد تبين لاحقاً إن كل هذه المثابرة على رسم ملمح للحلم وبإصرار على إصدار يهم الناس، ويحكي عنهم، فعدد وحيد مصادر لجريدة الصحافة، وأعداد تصدر بدون انتظام من مجلة (لا)، اتضح لاحقاً إنهما السبب الرئيس لقرار عودة الروح وبجسم جديد للمؤسسة العامة للصحافة (لقد تبث إنهما كانا وسيلة الضغط الرئيسية، لدفع النظام لإصدار منظومته الخاصة بحرية الرأي)، وهذا ما كان فعلاً فيما بعد، الأمر والذي تشابه التأخر في صدوره تأخر الكثيرين على استيعابه وفهمه حينها، لذا فالقرار بعودتها سنة 1993، كان نتيجة لكل تلك الجهود، ولم يكن قراراً أهوج كما عودنا النظام، وكما اعتقد الجميع. كذلك لم يكن منةً منه، بل كان نتيجة جهود لأقلام تبحث عن منفذ للتعبير ومكان لتبادل لا حدود للأحلام.
لذا كان الحلم الدائم لكل كاتب وصحفي ومثقف، هو إصدار صحفي دائم وإن كان حكومي حينها (فلا بديل)، فللصحفي حساباته التي تصب في مصلحته عادة، أما الحاكم فهمه قولبة الأمر ووضعه في مستوعبات ومعايير، بحيث لا يتسرب من يده خاصة إذا كان المثقف والصحفي هما مقصد قراراته، لذا كان قراره بإحياء المؤسسة العامة للصحافة (وإن كان حسب تفكير النظام يعد حرية تعبير في قالب متحكم به ومقدور على استيعابه، لكنه حسابياً على العكس تماماً، فمؤسسة للصحافة تعني زخماً من الورق، وبين القلم وآلية العمل والتبويب والتصحيح، و، و، وحتى أخيراً الولادة من رحم الطابعة، تعني الوقوع بدون قصد في كمائن الحبر، وفخ التوقيت وزخم الورق، بالتالي يتسرب الكثير من البياض المحسوب سلفاً لصالح حرية الرأي التعبير، كان بياض صفحات أدهى بكثير من مقاصد الحاكم، الذي كان مقصده العكس وهو التقزيم والحد من هذه الحرية).
بهذه المعادلة تدين ليبيا كثيراً لمجلة (لا) وللعدد اليتيم من جريدة (الصحافة)، كونهما شكلا الهاجس لدى السلطة والتي انتقلت مخاوفها لمهجع الحاكم الوحيد، فدبر لها ولطريقة استيعابها بالطريقة التي أسلفت وشرحت (وهنا الأمر أقل بكثير من قدرة وطاقة القدافي على الاستيعاب، لكن يبدو إنه استعان بمن فتح عينييه، بالتالي ثبت لاحقاً إنه لم يكن ليحتمله)
أما عن مقص الرقيب فالأمر كان ينجح، وكان الإصدار كم ورقة من منشور اسمه الزحف الأخضر (مقصه منه فيه !!!) وصحيفة (تابلويد) هي الأخرى أقرب لمنشور اسمها (الجماهيرية)، إما إصدار مؤسسة كاملة من الورق فبالكاد يطال مقصه صفحاتها الأولى، ومن هنا كانت المؤسسة العامة للصحافة أكثر من مقدرته وسطوة مقصه على أن يمتلك زمام الأمر، فمؤسسة تعني الكثير الكثير من الورق المطبوع، كما أن الأمر برمته يضيق عليه الخناق، فهو محصور بالوقت بين زمن الشروع في العمل ووقت توقف آلة الطباعة عن الصفير، لذا كان براح النشر واسع، وبراحه أكبر من متسع عمله وقدرته على الاستيعاب والمراقبة.
أما صحفياً، فالأمر يعني أن الباب فتح على مصرعيه، لكن قدرتنا كصحفيين كانت تظهر وتتجلى في المراوغة والقدرة على التبطين، وللعارف القارئ كثيرة هي حيل الكتابة واللغة العربية بالذات (حمالة أوجه!!!)، فكثيرة هي حيل الكتابة التي بمقدور المحرر العارف أن يستعملها كي يمر ألم المواطن وهمه اليومي ويأخذ طريقه للمكتبة، خاصة وإن أغلب المسؤولين بالمؤسسة، والذين لا انتماء لهم للوطن، والصيادين في الماء العكر، كانوا أقل بكثير من أن يطالوا مثل هذا المعرفة والنهج الذي اعتدناه لعملنا طوال السنين القادمة، وكانت بدايته في تلك الأيام وبداية نسجنا للخيوط الأولى للمسارات التي اعتمدنا عليها لاحقاً، كخطوط سير يشبه خطوط إنتاج سير السيارات، فالرحلة طويلة من قلم الكاتب إلى الخروج من رحم الطابعة، فالكل يدفع بك وفي كل المراحل إن كانت نواياك طيبة تجاه ليبيا، بأن ترمي كلمة الجماهيرية بعيداً، وتضع بدلا عنها اسم مفخرتك وأرض أجدادك، كما تعلمت من والدتك وليس كما علموك في كرسي البراعم والأشبال، ليبيا وليس الجماهيرية كما تعلم (المصححين) أن يصححوها، وإن خالفوا هذا نالهم سوء العقاب، وليس كما أراد مقص الرقيب، وسوف يساندك الجميع إلا أن كان سوء طالعك قد أوقع بك في واحد من كل ألف يسعده أن يضحك عليه الجميع ويشيرون أليه بأقبح الأوصاف، وينام مع كل هذا قرير العين. صحيح إن هاتف قلم الزعيم لم يكف في الليالي عن الرنين، لكنها مع ذلك كانت بداية موعودة بحلم بمؤسسة للصحافة، وصلت ألينا أخيراً بعد نضال طويل وجهد جهيد. فهنا مكان لنص من الشعر، وهنا مكان للوحة، هنا متابعة لمسرحية، وفي تلك الصفحة بعض التراجم، وأخرى فيها مانشيت عن مباراة للأهلي والاتحاد، وعلى غير العادة بعيداً عن أعين الرقيب.
كانت البدايات مفرحة خاصة وأن الدكتور “عبد الله عثمان” المثقف العتيد، وابن عم الزعيم اللدود، والذي لتوه خرج من الإقامة الجبرية، والذي لم يجد صدوداً من جمع الصحفيين والمثقفين، فهو المثقف الأقرب إليهم من منظومة الزعيم، ثم إنه لم يكن محسوباً على جوقة الزعيم وطباليه، كما إنه لا تخفى على الزملاء مشاكله غير المتناهية مع الزعيم الأوحد والوحيد، والذي بدوره لم يخفيها عنهم في أحاديثه مع الجميع، كان يصرح بدون وجل بإحساسه بقهر الليبيين وقسوة معاناتهم، لذا كان البديل الأفضل والذي يرضي به كل المثقفين، ثبت هذا حين وزر عليهم من كان وزيراً للتعليم، ذاقوا حينها الأمرين. كما إنه كان محملاً بأحلام صحافة منافسة حرة، لها القدرة على التعبير قدر المستطاع، وبمؤسسة قادرة على استيعاب طاقة و إنتاج كل المثقفين (حتى ذلك الحين، كان بعض الكتاب يصبر لعشرين عام حتى يصدر أول مخطوط له، وحدث أحياناً كثيرة أن يصدر الكتاب بعد رحيل صاحب المخطوط)!!!.
حدث كل هذا سريعاً، حتى إننا بالكاد لامسناه، ففي زمن الزعيم الأوحد، لا مجال لنيل الأحلام. فالأيام التي تلت كانت ملبدة بريح القبلي والعواصف الرملية والغيوم الصهباء اللون، فك مفترس كان يقترب، عرفنا فيما بعد إنه كماشة اسمها (لوكربي)، كانت بداية لأعوام عجاف، قاسى من هولها الليبيون كثيراً، حتى استشعر بعضهم أنه هو من كان يتسلى بتفجير الطائرات، ولم يكن تفجيرها هوس (الميت الذي يطير)، عانى الليبيون عشر سنوات عجاف، لذنب لم يرتكبونه، تحملوا فيها انعدام أقل حاجياتهم، حتى أن بعضهم ذهب بعيداً في السخرية والألم، فصور للذكرى بجوار عراجين الموز وسلال الفاكهة.
لذا وإن استمرت المؤسسة تشتغل تحت صفر مؤشر أحلامها، ففي أيام كتلك كان من أواخر ما يفكر فيه الزعيم ومنظومته الحاكمة، هو حرية للنشر وحرية التعبير، إلا أن الأمر لم يخل من بعض المقاومة لأجل القارئ، لأجل الحراك الفني والثقافي، لكن الحلم أصيب في الصميم وتشافت جروحه بعد زمن.
ومن هذه التكملة سنحكي عن الاحداث العجاف، التي مرت بها المؤسسة العامة لصحافة قريباً وفي تدوينتنا القادمة.
يتبع
زكريا العنقودي 2015