يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.
الحلقه: 18/ المرحلة الثانية الأكثر معاناة ومواجهات
ثم استوت فوق موجك كل السفائن…. ولكن أي سـفائن هذه؟
تلك كانت مرحلة السجن بكل تفاصيلها، انتهت بخروجي من سجن درنة في ذلك الصباح الماطر وعودتي الى بيتي بين أسرتي وأحبابي.
وتزوجت في 30 يناير 1969م، زوجتي وأم أولادي، التي عانت معي كثيرًا طوال أكثر من نصف قرن مضى و ذلك من خلال مرحلة أشد معاناة وظلمًا، ولابد لنا أن نبدأ بالحديث عن مرحلة انقلاب الجيش على السلطة الذى استقبلناه بحمل الضباط الصغار (محمد نجـم) و(أحمد المقصبى) وغيرهم على أكتافنا في ميادين درنة، ونحن نهتف لهم مهللين فرحين وأنا أقول شعرًا يلتهـب حماسـًا وسط ساحة كتيبة درنة:
لا تسلنى كيف بعد اليأس
والإذلال والارهــاب ثــرنـا
كيف مـزّقنا حجـاب الليل
فازدان قمـرنا
لا تسـلنـى حســبنا إنـّا انتـصرنـا..
وبعد خـمس سنوات، انكشفت الخديعة بوجهها البشع فكتبت مستدركـًا صارخًا مفجوعًا من خلال قصيدة (وكان ذلك في عهد القذافي) ونشرت في ديوانى الذى صدر ووزع في الثمانينيات أقول في آخرها:
تراجعت
يا بحر
نكـّسـت أشرعــتي
عـُـدت أعـلنت صــمتي
تحرّجـت
حين شعرت بأن التـّسـرع يفسـد نضج السفائن
وأن التـّوجـّه نحـو الشـروق
الذي طـال شوقي إليه
سيأتي
إذا ما نـمـت
فـوق شـطآنـنا المشـرئبّـة
أشـرعـة الصـّـبر
ثم استوت فوق موجك كل السـّفائن
سنواصل السرد، لندخل مرحلة جديدة من المعاناة والمواجهات والرفض والصبر خلال مساحة زمنية تمتد من سبتمبر 1969م وحتى ثورة ـ 17 ـ فبراير ـ 2011م والتي رغم انها نضجت واستوت فيها كل السفائن كما تنبأت إلا انها خيبت ظننا بنتائجها الكارثية هذه.
كنا نقول على الثورة المصرية إنها الثورة الأم، ولكن من خلالها عرفت الجيوش العربية وضباطها المتأهـبون الحالمون الطامعون المراهقون ان الوصول الى السلطة سهل ما داموا يملكون السلاح والكتائب العسكرية المخدوعة التي تقـاد بعماء ودون مناقشة للأوامر العسكرية التي تصدر اليها مهما كـانت وهكذا توالت الانقلابات العسكرية المفاجئة في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا وبعد أن كان ضباط هذه الجيوش مغمورين لا يعرفهم أحد وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها يقام لهم طابور شرف لاستقبالهم عند سلم الطائرة ويسيرون على بساط المطارات الأحمر لكى يكون في استقبالهم رؤساء دول من كل العالم وتصفق وتهتف لهم الجماهير المغلوبة على امرها وتعلق صورهم في مكاتب الدولة وفي كل المباني الرسمية وهكذا أصبح كل منهم على استعداد ان يضحى بكل شئ في سبيل بقائه على كرسي الحكم.
تحدث الكثير من السياسيين والمحللين والصحفيين والمعلقين وتفننوا في تأليف الكثير من القصص عن الكيفية التي حدث بها انقلاب العسكريين الليبيين على ملك البلاد عام 1969م وقالوا آراء كثيرة وتحليلات وقصص شطح فيها الخيال كثيرًا حتى ان بعضهم سموها في ذلك الحين الثورة المعجزة.
ولكن بعيدا عن هذه الشطحات وعن أولئك الذين يرقصون للقرد في دولته لابد لنا ان نقر حقيقة واحدة كانت وراء نجاحهم وسيطرتهم وهى أن المملكة الليبية المتحدة لم تكن كما يجب ولم تكن قوية كان نظامها هشـًا وكانت شرطتها و (قوتها المتحركة) نمورًا من ورق مادام حفنة من صغار الضباط استطاعوا في ليلة واحدة السيطرة على مفاصل الدولة كلها (بضربة واحدة)؛ كما قال بيانهم الحماسي فجر يوم الاثنين الأول من سبتمبر 1969م.
وبعد اسبوعين فقط وقف الزعيم (القذافي) الذى كان ملازمًا أولا وعمره لا يتجاوز السابعة والعشرين (وتمت ترقيته بصورة عشوائية الى عقيد) يلقى أول خطاب له بين الجماهير المخدوعة أمام ضريح (عمر المختار ببنغازي) وشكلت بصورة متعـجــلة أول حكـومة اكثرها من القومـيين العرب مـثل (عبدالسلام الزقعار) وزارة البترول و(أحمد فيتور) وزارة التعليم وبرئاسة سجين انتفاضة عمال البترول عام 1967م (محمود المغربى)، وأغلبهم أخرجوهم العسكريون من السجن (وطعنوا بعدها في جنسية المغربي حيث شككوا في انه ليبي).
وهكذا وبعد هذا الخطاب الإنفعالى التمثيلي أصبح (القذافي) هو البطل والقائد والزعيم والمعلم والمخلص والملهم وبدأ يتخلص من خصومه بالاغتيالات والابعاد وأعفي الكثيرين من وظائفهم. لا أريد أن أخوض في الكثير من التفاصيل والمغامرات الخرقاء التي تجرأ عليها وفعلها دون رادع ولا إلى اولئك الذين طبلوا له حتى انتهى به المطاف إلى ان يتشبه بالملوك الذين ثار عليهم بل جعل من نفسه ملك الملوك.
لا أريد أن ابتعد كثيرًا عما أنا بصدده وهو ما أعرضه من أحداث وظلم حدث لي (على المستوى الشخصي) ففي بداية عام 1971م كان المرحوم (جمعه المهدى الفزانى) وهو من مساجين حركة القوميين العرب مديرًا عامًا للثقافة، فبعثت له طلبًا عارضًا عليه رغبتى في الانتقال من الكهرباء (حيث كنت كاتب فواتير استهلاك) بإدارة الكهرباء للعمل بالمركز الثقافي بدرنة، ووافق السيد “الفزانى” وفي بداية يونيو من نفس العام تم نقلى إلى العمل بالمركز المذكور، وكان من بين الموظفين العاملين به شاعر درنة الكبير “عبدالباسط الدلال” فكانت فرصة للتواصل معه والاستفادة من تجربته الشعرية المتميزة، وكان يزورنا يوميًا كل من: الشاعر على الخرم، والشاعر عمر المكاوى، والشاعر عبدالله كحيل، وغيرهم من الأدباء والفنانين بدرنة.
حيث حولنا المركز الثقافي الى شعلة من النشاط (أمسيات شعرية؛ وندوات ثقافية، وجلسات نقاش) ولم نكن ندرى ان هناك أيـد خفيـّة تعمل ضدنا وأن هناك تقارير تذهب يوميًا لمدير المراكز الثقافية بالمنطقة الشرقية في ذلك الحين وهو (سالم اكريم القطعانى)، ولكى يضع حدًا لهذه التقارير التي أزعجته انتهز فرصة تشكيل وزارة جديدة باسم (وزارة الشئون المحلية) التي عينوا (الخويلدى الحميدى) عضو الثورة وزيرًا لها وزج (الحاج سالم) بأغلب العاملين بالمركز الثقافي درنة في قائمة الزائدين عن الحاجة من موظفين الأعلام، وكـنت أنا واحدًا منهم ضحكت كثيرًا يومها حينما اكتشفت حجم هذه المفارقة الغريبة الظالمة (فأنا في منتصف عام 1971م نقلت للمركز الثقافي بدرنة لحاجتهم لخدماتي هكذا يقول نص قرار النقل، وفي بداية عام 1972م أى في أقل من ستة اشهر اكتشفوا أنني ضمن العمالة الزائدة عن الحاجة بوزارة الثقافة ولابد من التخلص منى).
حرت كثيرًا في تفسير هذه المفارقة ولم أجد من يفسر لى هذا النقل التعسفي حيث تم بعدها مباشرة ودون نقاش نقلى من درنة الى محافظة الخليج باجدابيا، وحينما حاولت الاعتراض هولوا الموضوع أمامي، وقالوا لي أن هذه أوامر السلطة الشعبية تسرى على الجميع و لا يجرأ أحد على مخالفتها وعليك التنفيذ بدون نقاش.
سنتحدث في الحلقة القادمة عن تنفيذي للنقل مرغمـًا، وبقائى في إجدابيا وغير ذلك من المفارقات الغريبة.