قصة

الحاج مصباح

الوجه الآخر (من أعمال الفنان الساخر محمد الزواوي)
الوجه الآخر (من أعمال الفنان الساخر محمد الزواوي)

الحاج مصباح عجوز تجاوز السبعين، أو بالأحرى يكاد ينوش¹ الثمانين.

لكنه مشاكس، عنيد، لا يعجبه شيء، ينتقد كل ما يراه، وأحياناً يتدخل بعنف في شؤون الآخرين.

ذات رحلة ركب تاكسي، وكان صوت بوعبعاب² وسمسميته يصدحان: “يا العين جفوك، مشو فاتوك، شريتيهم لكن باعوك.. اعزاز خانو”

فأطفأ المسجل بعنف، وقال: والله ما خانك إلا عقلك يا العمى!.

عمك مصباح لا يحب من يكذب عليه، ليس لأنه صادق، وإنما رغبة منه في احتكار الكذب!.

فهو يكذب أكثر مما يتنفس، بل إن الصدق في حياته أندر من برق الصيف، إلى درجة أنه يُمكنك أن تؤرخ به، فتقول: عام صدق عمك مصباح، أو على رأي أحدهم فيه: “أكذب من يهودي مربوط”!.

سرق أحدهم منه ألف دينار، فقال: “ولد الحرام لو جا طلبني فيهم راني عطيتهم له”.

وهذا الادعاء لا يتوافق مع نهره وزجره للشحاذة عندما تمد يدها إليه، ولا يتوافق مع خصوماته المتكررة مع بائع الخضار، والتي غالباً ما تكون بسبب (ربع دينار) فقط لا غير!.

سمعته ذات مرة يقول لأحدهم: والله إنك غالي علي، وبوك غالي علي.

وعندما ابتعد الرجل قليلاً تفل في ظهره وقال: لعنة الله عليك وعلى بوك!.

“زمان لما كنت في عمرك”..

هذه المقدمة لا بد وأن يتبعها سيل من الكذب، خاصة وأن كل الشهود لقصصه وحكاياته وبطولاته هم حياة فلان وحياة فلان³، أي لا أحد منهم يُمكنك استنطاقه وسؤاله!.

ومع كل ذلك فإن جميع أهل القرية يحبون مجالسته، ويستمتعون بحكاياته، ويستعذبون حديثه، وخاصة عندما يكون غاضباً، بل ويتناقلون عباراته ومقتطفات من كلامه.

وفي المناسبات الاجتماعية يسيطر على المجلس، فلا أحد يتكلم معه، وإذا حاولت أن تقاطعه يلكزك بعكازه!.

كانت حكاياته طريفة وممتعة ومسلية، إلى درجة أنه لو أكمل تعليمه لربما كان من أشهر الروائيين!.

“ما يعرف دواه إلا بُرنيَّة”..

هكذا قال أحد شيابين القرية، وبرنية هذه هي زوجة مصباح، والحقيقة هي السلطة الوحيدة التي يخضع لها، وهي الوحيدة التي تعرف مفاتيحه، كيف لا؛ وهي التي صحبته ما ينوف على الخمسين عاماً، وعندما تكون حاضرة ينطفئ عمك مصباح تماماً، ويتحول إلى كائن آخر، من عالم آخر، مُعتم مُظلم، لا يتكلم كثيراً، ولا يغضب أبداً، ولا يقول إلا حقاً، ولا ينطق إلا صدقاً، بل إن معدل سرعة حديثه ينخفض من ألف كلمة في الدقيقة إلى بضع كلماتٍ في الساعة!.

لكن الحاج مصباح لم يكن الكاذب الوحيد في قريتنا، فالكذب في قريتنا ميراث وجينات، إلا أن عمك مصباح هو الذي حاز قصب السبق في هذا المضمار، وأخذ النورة!.

عندما توفي الحاج مصباح توقف الكذب في قريتنا، لأن الناس نزعوا أقنعتهم، وظهروا على حقيقتهم، وتوقفوا عن إخفاء أحقادهم، ولم تعد المُداهنة والمُصانعة والمُجاملة والمُداجاة أسلوباً من أساليب حياتهم، بل صار الناس يمتطون غلَّهم وبغضهم، ويُبرزون حقدهم وإحنهم، ويُشهرون ضغائنهم وكراهيتهم علناً، وفي وضح النهار، وصار العبوس بديلاً للتبسم، فلم تعد ترى سوى الوجوه اليابسة، ولم تعد تسمع سوى الكلمات الناشفة، ولم يعد ثمة حاجة للكذب، لأن الوضع وصل إلى الحد الذي قال فيه المتنبي:

تمنيتها لما تمنيت أن ترى … صديقاً فأعيا أو عدواً مُداجيا

رحم الله الحاج مصباح، فقد عرفنا أن وجوده لم يكن بذلك السوء الذي تخيلناه، وأن غيابه كان أسوأ بكثير من وجوده!.

ملاحظة:

اللي قرأ أغنية بوعبعاب باللحن يعترف 😁


1- ينوش = يتناول، يتعلق بـ.
2- بوعبعاب؛ فنان شعبي كفيف من بدو مصر، واسمه أبوبكر عبد العزيز، 1935 – 1991م.
3- من لطائف الليبيين عندما يذكرون المتوفى لا يقولون: (فلان)، وإنما يقولون: (حياة فلان).
4- الصورة المرفقة جزء من لوحة كاريكاتير للفنان الراحل محمد الزواوي.

مقالات ذات علاقة

المثلث

جلال عثمان

جنية “دزيرة” الملوك

محمد دربي

بائع الورود

محمد ناجي

اترك تعليق