الذكرى الـ23 لرحيل الكاتب والناقد الليبي سليمان كشلاف
سليمان كشلاف
ينظر الإنسان إلى الخلف، يبحث وينقب في الماضي، القريب والبعيد، عندما يستثيره الحماس للبحث عن البدايات، وعندما يتعلق البحث بتاريخ الأدب العربي في (ليبيا) بتحديد أكثر، عندما يكون البحث عن بدايات جنس أدبي معينه يكن يشكل رصيداً، بل يعتبره بعض الباحثين نوعاً وافداً من الأدب، لم يستشعره الناس، ولم يهتم به القراء إلا لفترة قريبة جداً، يكون الأمر في منتهى الصعوبة، في غيبة الوعي والاهتمام لدى الكتاب والقراء على السواء، وفي غيبة نظام يوثق ويحفظ ما يتعلق بتاريخ الأدب والصحافة في (ليبيا).
تكون البداية صعبة في غيبة المصادر والمراجع والمعلومات.
تكون البداية صعبة في عدم الإلمام الكامل بالخلفيات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أثرت في نشوء وتطور أي نوع من أنواع الفنون أو الآداب.
تكون البداية صعبة على الكاتب الليبي في القيام بهذا العمل، لكنها تكون أصعب على الكاتب العربي من أي قطر عربي آخر، للتاريخ والتوثيق.
لكن الأديب السوري (سمر روحي الفيصل) استطاع أن يفعل هذا، ويقدم للمكتبة العربية بحثاً عن الرواية في (ليبيا) في وقت كان فيه الكثير من الأدباء والكتاب الليبيين لا يتصورون وجوداً لجنس أدبي يسمى (رواية) يكتبه أدباء ليبيون حاولوا قدر جهدهم تقديم شيء ما في هذا المجال، وحتى لوقر في خاطرهم هذا الهاجس، فإن ما نشر منها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة عدداً، كما أنها مجرد محاولات لا ترتقي إلى مستوى النقد.
لكن (سمر روحي الفيصل) فعلها، واستطاع أن يخرج علينا بكتابه دراسات في الرواية الليبية(1)، وأن يطرح سؤاله الذي لم يعن بطرحه والرد عليه الكثير من الأدباء والكتاب الليبيين:
(هل هناك شيء اسمه (رواية) في ليبيا…؟
حاول (سمر روحي الفيصل) أن يرد على هذا السؤال من خلال قيامه بدراسة تحليلية لبعض الروايات التي صدرت لأدباء ليبين، فكتب عن:
(منى يفيض الوادي) لـ : صالح السنوسي.
(العربة) لـ : ابراهيم النجمي.
(المطر وخيول الطين) و(عين الشمس) لـ: خليفة حسين مصطفى.
(المظروف الأزرق) ل : مرضية النعاس.
(ثلاثون يوماً في القاهرة) ل : محمد صالح القمودي.
(خيبة الأمل السعيدة) لـ : محمد عبدالرزاق مناع.
كما قدم في فصلين آخرين، الأول (مدخل إلى الرواية الليبية) أوضح فيه منهجه في الدراسة مع إضاءة لبعض الملاحظات، والآخر (بين طبيعة الرواية ووظيفتها) بينّ فيه خلاصة ملاحظات عامة عن الروايات التي قدم دراساته عنها.
وبرغم وجود ملاحظات حول كتاب (دراسات في الرواية الليبية) فإن ذلك لا ينفي عنه صفة الجدية والريادة، ومحاولة تقديم شيء ربما كان الكتاب الليبيون أنفسهم لا يعترفون بوجوده أو یتجاهلونه.
فالملاحظة الأولى والتي يعترف بها الكاتب، والتي نجد له بعض العذر فيها، باعتبار عدم توفر النصوص الروائية وما كتب عنها من دراسات مبعثرة في الصحف والمجلات، هي تقديمه لبعض النصوص الضعيفة فنياً وعدم اطلاعه على الكثير من الدراسات التي كتبت حول القصة والرواية في (ليبيا) أي أن (سمر روحي الفيصل) اعتمد على ما هو موجود لديه، وما استطاع أن يتحصل عليه خلال أكثر من زيارة إلى (الجماهيرية) ولمثل هذه الدراسة قد يضطر الكاتب للتفرغ في سبيل الحصول على ما يمكن الاعتماد عليه من نصوص منشورة، إلى جانب البحث عما يعينه في بحثه من مصادر ومراجع لا تتوفر إلا في الصحف والمجلات التي لا يمكن الحصول عليها ببساطة، ولولا أن أساس البحث كان متوفراً في (ببليوغرافية القصة الليبية من 1951 – 1981م)(2) لاستخراج عناوين الروايات التي طبعت في كتب خلال ثلاثين عاماً، لأدباء ليبيين، سواء طبعت داخل أو خارج (ليبيا) مما أمكن له أن يقدم لنا هذه الدراسات.
والملاحظة الثانية أن المنهج الذي اتبعه الكاتب هو المنهج التحليلي الذي يلجأ إلى تحليل النص وتفسيره وإضاءته من خلاله بدون اعتبار للعامل التاريخي في كتابه ونشر النصوص موضع الدراسة، لمعرفة مدى التطور بالنسبة للكاتب أولاً وبالنسبة للرواية الليبية في حد ذاتها، واعتماده على تاريخ نشر النص في كتاب، في استخلاص بعض النتائج وإصدار بعض الأحكام، ورغم أن بعض النصوص نشرت في الصحف أو المجلات قبل نشرها في كتاب بعدة سنوات، ولنا بعد ذلك أن نتصور الزمن الذي كتبت فيه قبل نشرها لأول مرة.
لو عدنا لقراءة (اعترافات إنسان) (3) مثلا لما استطعنا الحكم على (محمد فريد سيالة) كاتبها من خلالها فقط، بل لا بد لنا من الرجوع إلى كتاب آخر له هو (نحو غد مشرق)(4) لنتعرف على وجهة نظره الاجتماعية التي تتحدد مفاهيمها من خلاله ومن خلال عمله الصحفي خلال عقدين من الزمن، كما لا يمكننا إغفال روايته الأخرى (الحياة صراع)(5) والتي لم تطبع في كتاب حتى الآن، لنخرج بحكم عن أول رواية ليبية تطبع في كتاب.
وإذا كان الفارق بين أول مجموعة قصصية تطبع في كتاب وهي (نفوس) حائرة)(6) وبين أول محاولة روائية تطبع في كتاب وهي (اعترافات إنسان) أقل من خمس سنوات، فما هي المدة الزمنية التي تفصل بدايات القصة الليبية القصيرة في الثلاثينات على يدي (وهبي البوري) و(محمد كامل الهوني) وبدايات الرواية الليبية على يدي (محمد فريد سيالة) في الخمسينات؟
من منا اختلف مع الناقد (سمر روحي الفيصل) في اختياراته للقصص التي تولى دراستها وتقويمها ليخرج بالتالي بانطباعاته وملاحظاته عن مجمل المحاولات الروائية المطبوعة في كتب لأدباء ليبيين. فكما أن الابتعاد عن نقطة الأصل، المحاولة الأولى المطبوعة في الرواية الليبية، وعدم التعرض لها بالنقد والدراسة يبعدنا عن متعة الكشف للحظات الميلاد، لهذا الجنس الأدي الجديد على الأدب العربي في (ليبيا) كذلك فإن إغفال الكتابة عن روايات (أقوى من الحرب)(7). و(من مكة إلى هنا)(14) و(شيء من الدفء)(9) و(نافذة على المطل الخلفي)(10) و(وميض في جدار الليل)(11) يفقد الدراسة المنهجية عاملا فهي في التتبع الزمني لصدور تلك الروايات منذ بداية المحاولة الأولى ثم تطوراتها والأشكال الجديدة التي حاول القاصون اتخاذها كبناء معماري للرواية في حد ذاتها وما تمثله خلال رحلة جيل كامل من الزمن.
سنكتشف في (محمد علي عمر) المحاولات المبكرة لكتابة الرواية، وسنعيش معه تصويره للحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في (ليبيا) خلال الفترة الزمنية بين بداية الغزو الايطالي الفاشي لـ (ليبيا) في أكتوبر 1911 م. وحتى بداية اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 م.
سنلاحظ تأثير الثقافة الغربية على (صادق النيهوم) وكيف حاول أن يقدم (مسعود الطبال) كنموذج عربي لشخصية روائية عالمية (سنتياجو) عجوز (أرنست همنجواي) في (الشيخ والبحر).
سنرى في (مرضية النعاس) أول امرأة ليبية تخوض مجال كتابة الرواية لتكشف جزءاً من عالم المرأة وتقدم صورة لحيوات كثير من النساء مبررة أحاسيسهن ومشاعرهن وموقعهن من الحياة ومع الآخرين، في وقت لم يستطع فيه الروائي الليبي أن يغوص في عالم المرأة، ولم يستطع تمثله أو استيعابه بمثل ما فعلت (مرضية النعاس).
سيبرز لنا تأثير بدايات الرواية العربية في (مصر) على (محمد سالم عجينة) متمثلة في (الأيام) الرواية/السيرة الشخصية الأديب العظيم (طه حسين) وليتأكد لنا أكثر خسارتنا لمشروع روائي جيد كان له أن يستمر ويتطور لولا أن وافاه الأجل.
ومع (أحمد نصر) سنجد أول محاولة من نوعها في الرواية الليبية بتتبع خطى (فتحي غانم) في (الرجل الذي فقد ظله) و(نجيب محفوظ) في (ميرامار) و(اسماعيل فهد أسماعيل) في (المستنقعات الضوئية/ الحبل / الضفاف الأخرى/ كانت السماء زرقاء) و(إحسان عبدالقدوس) في (أنف وثلاث عيون) وقبلهم لدى (لورانس داريل) في (رباعية الاسكندرية) و(وليام فولكنر) في (الصخب والعنف) حيث اختار (أحمد نصر) شكلا لروايته تعدد الوجوه، بأن يروي كل شخصية من أبطالها القصة من وجهة نظره هو، وهو شكل صعب التناول ويعتمد على بناء دقيق لم يتيسر تحقيقه في هذه الرواية، كما أن هذه المحاولة لم تتكرر، لا من قبله ولا من طرف قصاصين آخرين.
لكن كل ذلك لم يتحقق .. وبرغم ملاحظاتنا حول هذا الكتاب، فإنه يبقى إضافة جيدة ومهمة تضاف إلى المكتبة العربية، ويبقى للناقد (سمر روحي الفيصل)، فضل الريادة، وفضل الاجتهاد.
(الرواية الليبية .. تطلع للوجود)، سليمان كشلاف، مجلة الناشر العربي، العدد: 6، 1 يناير 1986م، ص: 90 – 92.
هوامش:
(1) سمر روحي الفيصل – دراسات في الرواية الليبية/منشورات المنشأة العامة للنشر/ ط83/1 م.
(2) أسماء الطرابلسي وقائمة ببليوجرافية بالقصة الليبية من 1951 – 1981م / مجلة الفصول الأربعة/ العدد 17/مارس 1982م.
(3) محمد فريد سيالة اعترافات إنسان/منشورات دار الشرق الأوسط للطباعة الإسكندرية ط1/1/1969م.
(4) محمد فريد سيالة/نحو غد مشرق/ منشورات مكتبة الفرجاني طرابلس/ ط1/ 1958م.
(5) محمد فريد سيالة. الحياة صراع/رواية نشرت في مجلة (طرابلس الغرب سنة 1958م). وانتهى نشرها في فبراير 1959 م.
(6) عبدالقادر أبو هروس /نفوس حائرة/ منشورات مكتبة الفرجاني/ ط1 /1957م.
(7) محمد علي عمر/ أقوى من الحرب/ منشورات مكتبة النسر الذهبي. بنغازي ط11 /1962 م.
(8) صادق النيهوم/ من مكة إلى هنا/ منشورات دار الحقيقة. بنغازي/ ط7/ 70م.
(9) مرضية النعاس: شيء من الدفء: منشورات مكتبة الفكر. طرابلس. ط 1 /1972م.
(10) محمد علي سالم عجينة: نافذة على المطل الخلفي: منشورات إدارة الثقافة طرابلس: ط1 /1973م.
(11) أحمد نصر: وميض في جدار الليل: منشورات مكتبة الفكر. طرابلس/ط1/.