طيوب عربية

كائن خرافي اسمه الشاعر..

اللوحة من أعمال الفنان العراقي جمال إبراهيم مدد
اللوحة من أعمال الفنان العراقي جمال إبراهيم مدد

قد يتساءل بعض النّاس في عصرنا هذا عن كائن خرافيّ اسمه الشاعر، وعن دوره في عالم النت، والاتصالات الحديثة التي تجتاح العالم، وتغزو العقول والمشاعر والقلوب لتطرح العديد من الأسئلة من هو الشاعر؟ وهل ما يزال للشاعر دور في حياتنا المعاصرة؟ أم أنّه ركن الى الوحدة والهذيان الأبدي؟ هي أسئلة ماتزال تعمّر في الكون لتشغل فكر الناس في هذا العصر.

لا بأس أن أحاول التعريف بالشاعر هو نبض الكون المتجدّد عبر العصور والأزمنة، وعبر الأمكنة في الأرياف وفي القرى وفي المدائن والحواضر، وهو دفق هائل من المشاعر لا تهدأ أنفاسه، ولا تتوقف ينابيع روحه التي تجري في فيافي النفوس الطاعنة في عالم التصحّر الهالكة في وجعها الأبديّ، وهو فيض إلهيّ القسمات قدسيّ الهمسات، وهو رسول الجمال إلى البشرية، صانع أفراح العشّاق وحامل دفقات الحب والمحبة إلى العالم الذي يقام على خراب المدن، وعلى بحار من دماء الأبرياء، ولا يكون الشاعر.. شاعرا إلاّ إذا طاف خلجان وتضاريس الحرّية في داخله، وتقصّى سبر أغوارها، والغوص في أعماق عوالم شتّى من الحزن والألم ليصل إلى أعماق أعماقه من أجل أن يتمكّن من صناعة الفرح في نفوس الآخرين بما يمتع من جميل الإبداع في شتّى المجالات، والشاعر الذي يخاف من المفردة والكلمة والجملة الشعرية، ويخاف من المعنى، هو شاعر يموت مصلوبا على بساطة القول وضبابيّة الصورة، وسذاجة الكلام المنظوم أو المنثور، فلذا ما يزال الشاعر يشغل الناس، وما يزال يسكن عواصم التاريخ الأبدية، هو وحده من علّم النّاس المسرّة والفرح اخل عوالم الأحزان، وأهدى للكون سرّ الحياة ذلك السرّ الكامن في الأفئدة وفي عيون الحالمين بغد أجمل.

لقد حمل الشاعر منذ البداية الأولى من عهد الغطارفة والمهلهل وابن ربيعة، والسليك بن السلكة وأوس بن حجر، والسموأل والحارث بن حلزة وامرؤ القيس، وعنترة العبسي وزهير بن أبي سلمى وغيرهم كثر، لقد حاولوا صناعة أفراح النّاس وتخفيف أحزانهم، والثورة ضدّ من عاداهم، وذلك من قديم الزمان إلى يومنا هذا، وقد ظن الكثير من الناس الذين تربّوا خارج دائرة الكلام الباعث على الجمال، والحامل لأسمى العواطف والمشاعر، والذائد عن حمى الحرّيات والمواقف- بأنّ دور الشاعر قد انتهى مع مطلع القرن الواحد والعشرين، وأصبح الميدان فسيحا أمام الناثرين والمتقوّلين، وغابت صورة الشاعر في ظلّ طغيان صورة” الكاميرا السينمائية”، ولكن الحقيقة التي تظلّ غائبة عن أعين الكثير من أبناء البشرية، هي أنّ الإحساس بالكلمة أقوى في كثير من الحالات من تلك الصورة المنقولة عبر الاجهزة والوسائط التكنولوجية الحديثة، فالكلمة لولاها ما كان للصورة معنى ولا كان لها شكلا، ولا قيمة فنيّة وحدها، فوحده الشاعر صانع الأحاسيس والمشاعر في نفوس النّاس، ووحده القادر على رسم الصورة بالكلمات، ووحده من يمنح سرّ تجانس تلك الأنغام والألحان التي تشكّلها المقطوعة أو المعزوفة الموسيقيّة الخالدة، وقد يغيب صوت الشاعر عن المنابر الكبرى، وعن الأمسيات الشعريّة الرّائعة التي تعجّ بالحضور، ولكن لن تغيب كلمات الشاعر عن ألسنة الدارسين والعشّاق، ودعاة الحريّة، وأصحاب الذكر في كلّ مكان، وقد تغيب أسماء الشعراء، ولكن تبقى أطيافهم تملأ الكون عبر العصور، وتزيد الذاكرة رونقا وجمالا في رحلة الحياة، وتؤنس أرواح الشعوب المغلوبة على أمورها التي تحلم بالفرح وبالثورة العارمة التي صنعتها القصائد الشعرية الخالدة في كلّ مكان. ولا أحد من العالمين ينسى اسم عنترة العبسيّ أو ينسى المتنبي أو ينسى بودلير أو بوشكين أو نزار قباني أو محمود درويش..، وهكذا يظلّ الشاعر الحقيقي المبد الموهوب يسكن ذاكرة التاريخ الأبديّة التي لا تغفل أسماء صنّاع تاريخ الشعوب والأجيال.

مقالات ذات علاقة

روز شوملي بين جدلية جبرا وفرس الغياب!

المشرف العام

الكاتب العربي بين شروط النشر وحقوق الفكر

منى بن هيبة

يا تراب الوطن

المشرف العام

اترك تعليق