من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
قصة

مدمن الجزر

Fathia_Jeroshi (4)

استيقظ كأي يوم مع حكة في أرنبة أنفه.

إلا أن أرنبة أنفه لم تكن الأرنب الوحيد فيه.

كان ينط دون أن يدري لماذا داخل الحمام، وعندما نظر للمرآة انتابه الرعب، ذلك النوع من الرعب الذي تغطيه هالة من الخيال، رأى عينيه الدائريتين تلمعان وفراء أبيض يغطي وجهه، في البدء اعتقد أن لهلوسة ما تمازحه وأن الماريوانا التي تناولها الأمس الماضي لازالت تراود خياله إلا أن أذنيه البيضاويتين الطويلتين لم تكونا من صنعها، هو جربها مرات عديدة وكانت تأثيراتها تثير خياله لكن هذا فاق ما تخيله، أحس بتضائل في أعضاء جسمه، عضوه الذي كان يباهي أمام أصدقائه في وصف فحولته بدا منكمشاً، خاف جداً.. إذ ليس أسوء على الرجل من أن ينكمش عضوه، يداه أيضاً نبتت لهما مخالب.. كان يفكر وسط ذعره كيف آل الأمر إلى هنا، أن يصبح أرنباً.

انتابته نشوة لرائحة الفراء.. وخوف شديد من الماء.

وضحك فجأة لأنه لم يعد مضطراً لمضاجعة زوجته السمينة والتي سينتابها الرعب من منظره، ستهرب لبيت أهلها، تباً لها، قال لنفسه، ضحك أيضاً لأنه لم يعد بحاجة للذهاب في هذا الصباح للوظيفة المقرفة وتخيل نفسه وسط مؤخرات من الأرانب السمينة تبول لتجتذبه، يعانقها ثم يذهب لغيرها ببساطة، سيكون فحلاً بين الأرانب، إلا أنه عبس وتولى، لما تذكر أسنانه الطويلة والكبيرة ويديه الحيوانيتين، لن يستطيع الامساك بسيجارة، لكنه تذكر.. تذكر أنه لا يدخن كثيراً، ما يحب فعله حقيقةً هو أكل الجزر، الكثير منه.

حكّ أرنبة أنفه المتحركة.

تذكر رائحة الجزر، ملمسه، لونه وطعمه، أصبحت أفكاره تدور حول الجزر ولا يفكر في غير الجزر، بانت في ذاكرته أولى المرات التي تناولها فيها، كان صغيراً عندما اشترى والده تلك الخضروات البرتقالية في كيس كبير مليء بها، عندما كانت تتكسر وتتقرمش داخل بين أسنانه عرف عندها أن هذه هي الخضروات المناسبة له، جلس طول اليوم يأكل الجزر حتى صبغت يداه باللون البرتقالي، ظل يتشممهما طيلة النهار.

منذ ذلك الوقت، كان يسرق الجزر بأكمله حتى أن محاولات أمه في تخبئته لم تنجح، وعندما كبر صار أكثر التصاقاً به، رائحة الجزور تفوح من كامل جسده، وعندما أراد أن يتخلى عنه لم يستطع، كان كل شيء فيه يجذبه كالمغناطيس، تلك السعادة التي يستحضرها أكله له، ذلك الشعور بالضياع بعيدا عن العالم والحياة بأكملها كانا لا يقارنان، حتى أنه كتب كثيراً في مدح الجزر، وكان يريد إنشاء جمعية لمحبي الجزر إلا أنه فشل في ذلك إذ لم يكن هناك أعضاء بها غيره، وعندما يفتقده أو تنتهي الكمية كان يحك أنفه تعبيراً عن غضبه واستيائه، في نومه كان يحلم بجبال منه، جبال بجميع الأشكال والمسميات والأنواع، حتى أنه درس الزراعة من أجل استحداث طرق لتربية أفضل للجزر.

إلا أن شيئا ما تغير عندما استيقظ صباح ما ووجد نفسه يقفز دون أن يدري، كان ينط من مكان إلى آخر وعندما رأى صقراً يحلق في الفضاء من شرفة شقته انتابه الذعر دون أن يدري وقفز قفزة طويلة داخل الغرفة، ذات مرة تذكر أنه كان معزوماً لدى صديق عزيز عليه، قال له الصديق أنه سيطعمه نوع من اللحوم لم يذق مثلها في حياته، وعندما أكل وشبع سأله عن اللحم، أجابه صديقه بكل فخر أنه لحم أرانب قام باصطيادها بنفسه، شعر بالاحتقار اتجاه نفسه وصديقه، ولكي يغفر ذنبه ظل طول الليل يتقيأ ما أكله حتى لم يتبق له ما يفعله، ثم أراد أن يغفر ذنبه بأن أكل دزينة من الجزر. لم يكن يدري لماذا فعل كل هذا.

والآن وقد اتضح كل شيء، كان يتحول إلى أرنب يوماً بعد يوم جراء التهامه الشديد للجزر.

في البدء، أراد أن يحيا ويجرب حياة الأرانب إلا أن فكرة وجود صديق له يحب طعمها أربكته وقرر فوراً أن يقطع علاقته معه، كما أنه من المستحب أن يحفر حفرة الآن يضع فيها الجزر حتى لا يسرقه من أحد خصوصاً زوجته السمينة المليئة بالذهون، كان أيضاً يفكر في طريقة للحصول على لذة جنسية من أرنبة ما، ولكن كان صعباً عليه أن يجد طريقة مناسبة لذلك، فكر قليلا، هو لا يستطيع أن يخرج بهذا الجسم الأرنب الضخم للعالم دون أن يلفت الانتباه لنفسه، وحتى لو وجد طريقة لاخفاء نفسه لن يستطيع اخفاء قفزاته وتقززه من القطط، كما أن أذنيه ستربكانه وسيكون عليه بين الفينة والأخرى أن يحك أنفه، كيف له بعد أن زاد شعوره بحاجته للجزر من أن يتحصل على كمية كبيرة بعد أن ينفذ ما عنده.

وانتابه الذعر مجدداً.

ولم يكن له لينهي النقاش داخل عقله، هل يبقى أرنباً أم يعود إنساناً، وكيف سيعود إنساناً إن أراد ذلك؟ ولماذا عليه أن يفكر؟ من المفترض أن لا يفكر إذا أصبح أرنباً، إذاً قد تكون الماريوانا فعلت فعلها وأقامت عقله ولم تقعده، وهي الآن تضحك بما تبقى من أعقابها على عقله الملعوب به، عليها اللعنة، وربما على الجزر اللعنة أيضاً، ولأول مرة كره الجزر ورائحته ولونه، كرهه لأنه لم يعد يعرف ما يصنع، ورغم أن هذا الأمر لم يكن جديدا عليه ( أن لا يعرف ما يصنع) إلا أنه بدا متوتراً جداً.. شعر بأنه في حاجة لعصير الجزر، ولكنه لا يستطيع أن يخرج من الحمام، وللحظة حاول أن يتكلم ويخاطب زوجته لتحضر له كوب عصير ليهدأ أعصابه، لكن الكلمات لم تستطع الخروج من فمه، لعن كل شيء… لماذا تبقى له العقل الإنساني إن كان كل شيء قد اختفى فعلاً؟

أصابه الجنون.

وبدأ يقفز في ارتجاف في أرجاء الحمام ويصطدم بالأشياء محدثاً ضجة حتى نزف الدم من جسده وتلطخ فروه الأبيض بالأحمر القاني… كانت رائحة الدم تزيد من حالة الجنون داخله حتى فقد صوابه، وقرر أن يقفز من النافذة، قفز.

عندما صحى من نومه، كان لايزال أرنبا ولم يتحول لإنسان بعد!

مقالات ذات علاقة

خديجة وزينب

عزة المقهور

طفولة

جمعة الفاخري

لماذا لم يتسع حضنك لي؟

عبدالعزيز الزني

اترك تعليق