سرد

رباية الذايح

رواية الفندق الجديد الكاملة – مقتطفات رقم 2 من الفصل الرابع

من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه
من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه

كان الحوش يحوي غرفتين متصدعتين، ومطبخا متهالكا من تأثير الرطوبة القادمة من بخر تلك البحيرات الصبخية المحاذية للغوط، أما الحمام فهو من الطراز القديم يطلق عليه آنذاك اسما ليبيا قديما هو (الكنيف)، كان بمنتصف الحوش فناء كبير يبدو كصحن، يطلقون عليه مصطلحا ألا وهو (وسط الحوش)، حيث يترك بدون سقفا. أما أرضيته فهي عبارة عن (استاك).

هكذا يبني الحوش العربي في ليبيا، فترة ما قبل السبعينات، فتشاهد من خلال وسط الحوش السماء بشمسها وقمرها ونجومها حتي!! لكن في أحد زوايا هذا الحوش العربي غرفة مهملة، وهي مغلقة بإحكام من خلال صخرة كبيرة، وبه فتحة نسجت العناكب عليها شباكها عل مر الأيام والشهور بل السنين الطوال، يخال أن هذه الغرفة تؤدي لسرداب أو نفق طويل، يبدو أنها تؤدي إلي عالم من المجهول.

وما أن ولجت تلك الأسرة الجديدة، ذلك البيت القديم حتي بدأت أقدام شباب الحي تترك (الشوكات) وتنجذب، اقترابا، ليستطلعوا الأمر. كانوا فتية أشبه بمتسكعين جراء تقليعاتهم الغريبة، حيث يهملون عن عمد حلاقة رؤوسهم، فتتضخم شعورهم وتتلامع السلاسل في أعناقهم، أياديهم تزينها الخواتم والأساور التي تتدلي منها خمائس وقرون، كانوا من فرط إعجابهم ببعض المغنيين الأجانب يرغبون في أن يكونوا نسخة طبق الأصل من بعض أولئك المشاهير.!

الفضول لم يقتصر على أولئك المراهقين، والذين كانوا يهرولون ويوشوشون بأغنية مرعبة :

من يسكن الحوش المسكون .. متخوخم أهبل مجنون

من يسكن حوش عفاريت .. تعبان العيت شلاتيت!!

حينها صاح بهم، ابن المؤذن بمسجد الحي (سي أدم)، كان اسمه (محمد) وهو شاب يافع بهي الطلعة طويل القامة تظهر علي محياه صفات الصالحين، كان يعبر متوجها للمسجد، لأداء صلاة العصر بمسجد كان بناه والده (سي أدم) فصاح بهم باللهجة الليبية القديمة:

– هيا تباعدوا كل واحد يلعب قدام حوشه.                                                                                                                                          

فابتعد المراهقون، ولكن على مضض جراء احترامهم لصيت والده (سي أدم)، فهم يعلمون بأنه ابن رجل صالح ومحترم، حافظ لكتاب الله، وهو من تلامذة الأولياء الصالحين الذين قدموا لمدينة بنغازي من مدينة زليطن، منتصف الاربعينات، فأنخرط في القراية عندهم في خلواتهم الدينية، فتعلم أصول الفقه، والتلاوة والتجويد، كان (سي أدم) هو أول من وطأت أقدامه هذا الغوط والذي تطور حتى أصبح حيا سكنيا يتزايد بالسكان يوما بعد أخر.

نجح ابن الثلاثين ربيعا (محمد) ابن (سي أدم) في إبعاد المشاغبين الصغار، لكنه عجز عن إبعاد الشياطين الأبالسة الكبار، بل الأنكى من ذلك أنه لاحظ أن النوافذ العالية للبيوت المجاورة، بدأت تتفتح أيضا، لتتابع المستأجرين الجدد بفضول وترقب شديدين!!

أشاحت الشبابيك عن وجوها قبيحة فاجرة، فظهر من خلالها أكبر شياطين والعن أولاد الحي، كانوا أبناء (إدريس بوشرفيدة)؛ إنهم (ميلود، وربيع، ومسعود). كانوا يتقافزون بأنصاف أجسادهم الشبه عارية وأبخرة وأدخنة سيجاراتهم تتصاعد من بينهم ومن خلال الشبابيك. ومن بعيد كان الأبن الرابع الصالحين قادما علي الكاروا بسرعة منقطعة النظير ومن خلفه مجموعة من الكلاب كانت تنبح عليه وعلي الحمار أثناء ملاحقتها له!!  

حقيقة.. لم يقتصر الأمر علي أبناء ادريس الذكور فقط، بل كان هناك فتاتان جميلتان تتلصصان معهم كذلك، لكنهن كن يراقبن الوضع بسرية تامة، ولم يتفطن إليهن الأخوة الأشقياء خاصة، كانت (رتيبة) و(مريم) بنات (إدريس بوشرفيدة) كذلك، وقد شاركن في المراقبة، كن يتلصلصن بشغف من نافذة الكوجينة بل كادتا تلتهمان بنظراتهما زوج (نجوي) (قدري) التهاما، ولم تحيدان أعينهن من عليه لحظة البتة!

غادر (محمد) ولد (سي أدم) المكان مجرجرا أقدامه بثقل وحزن شديدين، فقد أدرك متأخرا أن والده قد أخطأ منذ بداية تأسيس الغوط السكني في منح (إدريس) موطئ قدم وقدر أكبر من حجمه، فمكنه من التملك بالحي، دون معرفه أصله وفصله حتى، فالأنكى أنه قام ببيعه عددا من الدكاكين! فأصبح من الملاك في هذا الحي.                                                                                                                                                                                             

كان محمد فصيح اللسان لتعوده حفظ كتاب الله، فهو يتكلم اللغة العربية الفصيحة وبينما كان يجرجر إقدامه تحدث في قراره نفسه قائلا:

يا ليت أبي ما فرط في الدكاكين يوما، فها هو الإبليس (إدريس)، وقد صار مستقرا بالغوط، وبدأ يفصح عن أسارير الشر، وها هو الخبث يلقي بظلاله علينا نحن سكان الغوط الأصليون، من فعائله وفعائل أولاده الأبالسة الشيطانية.

وأضاف:

الشر ينتشر عن طريقهم بطريقة أسرع من الخير الذي أراده، والدي لينتشر ببنائه للمسجد في الغوط! وهو سبب كان منطقيا لوالدي أجبره على بيع الدكاكين السبعة! فقد باع لمن يدفع أكثر خصوصا وأن المسجد، قد استوجب بنائه من الطوب الحجري والطفلة والقناطر الخشبية، ولكن الإبليس (إدريس) هو من كان منتظرا ومترصدا لفرصة البيع تلك فأشتري.

ثم أضاف متمتما وهو يسير متثاقل الخطي:

يا ليت السائق سيدي (جبريل) جلب بدلا من هذه العائلة البائسة عائلة محترمة بها أولادا شرفاء حتي يلقنوا معنا نحن أولا أدم، أولاد (إدريس بوشرفيدة) دروسا في التربية والأخلاق، ويساندوني وأخوتي في منع انتشار واستفحال الشر عن طريقهم في منطقتنا، و أن يوقفوا هؤلاء الأبالسة عيت الادارسة في التعدي والتمادي بسلوكياتهم القذرة.

مقالات ذات علاقة

دموع العابرين

مهند سليمان

ذكريات الماضي

المشرف العام

ثلاثُ نمْلات تعبرُ كِتابا *

مفتاح العماري

اترك تعليق