قراءة في تجربة الشاعرين: عبد الرزاق عبد الواحد وكاظم الحجاج
د. أحمد الزبيدي – العراق
مرةً أخرى، أعدكم بغض الطرف عن المجازات وبنياتها الأسلوبية، والكشف عن مغرياتها الجمالية، مرةً أخرى أنظر برؤية ثقافية، تعري النص من المقدسات الجمالية والدينية والآيديولوجية، وستكون عند تجربتين مختلفتين: أسلوبيا، وثقافياً..
دعونا نتفق على بداية هادئة: ما من شاعر عراقي وظّف عليّ بن أبي طالب وأولاده وأقرباءه ومشتقاته، مثلما وظفه الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، بل يكاد أن يكون من أكثر الشعراء تناصاً قرآنيا وعلوياً!. يجيد العزف الشعري على الأوتار القرآنية، ويجيد طرب الطاغية على صليل سيف علي وصرخة الحسين، ويعرف جيداً مكانة ( العباس) عند الشيعة، وهو في كل ذلك يعضّد من نسب صدام حسين إلى ( آل البيت ).. الشعراء _ أحيانا _ يُصبحون نسّابين ثقاة _ فالشاعر الكبير لا يُكَذّب، وإن كان أعذب الشعر أكذبه، وعلى من اتّبع الهدى من الشعراء أن يحذو حذوه.. عليّ لا يُنسى عندما يحشد الطاغية شعبه للحرب!.. يقول عبد الرزاق عبد الواحد :
واليوم تسبق يوم سعدك برقة من سيف جدك وهو يلمع شاجبا
لا.. مثل لمعة ذي الفقار مهيبة ظلت بها الدنيا تميد جوانبا
النص هدية شعرية للسيد الرئيس بعيد ميلاده النيساني.. كم كان كريما يوم ميلاده!!.. تحوّل علي إلى شخصية نيسانية بعثية بالولاء! – فكل عراقي بعثي وإن مات قبل مئات السنين _ برمزية القوة الاعجازية ( سيف ذي الفقار ) فالتماهي الزمني الكلي المتحقق من تزامنية الموقف ادى الى ادلجة مغلقة، فلا فرق بين رمزية ذي الفقار وهيبة صدام.. الشفرة التي يريدها الطاغية ان تكون على لسان الشعراء المؤمنين تنطلق عبر الفوّهة الشعرية الأقرب إليه : ومَنْ أقرب من عبد الرزاق عبد الواحد ؟.. السلطة هي من تغذي الشاعر ثقافيا وهي من تحدد له الحلال والحرام، وربما تركت له قليلا من – المنزلة بين المنزلتين –
الشاعر الذي يزيف ذاته بالكلمات لا يعدو أن يكون ( سحّارا) بالبيان فيخدع المتلقي بالكلمات البهلوانية، وعلى قدر اختلاف عقول التلقي تختلف الحقيقة.
الشاعر الكبير كاظم الحجاج وظف الخليفة علي بن ابي طالب في قصيدته المشهورة ( حكاية وهب النصراني ) النص يرسم مشاهد من حياة وهب وسيرته داخل الكوفة في ظل حاكمها / الخليفة علي. ( سنفترض الكوفة أو كربلا، موطنا لوهب/ اذا كانت الكوفة تعني عليا عليه السلام / فلابد أن أبا وهب كان- وهو المسيحيّ- مؤتمنا من علي وبينهما ذمة.. / وكان الامام اذا الفجر اذن، يخرج من داره للقاء الإله: الصلاة. ) ويستمر الشاعر في سرد ( موضوعي ) يرسم مشاهد من حركة الحاكم والمحكوم، حتى يصل إلى ذروة النص بقوله : (( الكوفة صنفان : صنف غنيّ، وصنف ( علي!) )) ثم يقول ( أحبّ الناس إلى الله : نبي عريان وإمام عريان)…( الفقر يوحد أديان الفقراء )..
لا أنكر أن رؤية الشاعر الثقافية قد حققت تزامنية – أيضا_ ولكنها تزامنية غير مؤدلجة، فالشاعر يجسد ( الحاكم / الإنسان ) وليس من وحي خياله الشعري أو الرؤية الشيعية، بل من المدونة التأريخية وسردياتها المتعاقبة التي اتفقت على خلو الخليفة علي من ( الفساد الإداري والمالي ) ولاشك أن شخصية علي زاخرة بالمتناقضات الثقافية الرمزية : فالعروبيون لا يغادرون سيفه ( ذو الفقار ) والبعثيون أولى الناس بشجاعته وفحولته ونسبه، والصوفيون يحبون لباسه الخشن، البلاغيون يتغزلون بنهج البلاغة والخطبة غير المنقطة!!.. فمن أي شرك آيديولوجي يفلت الشاعر ؟ إن لم تؤسره السلطة، خدعته المعارضة.!!.. الشاعر الكبير كاظم الحجاج ( يعرّي ) عليا من النوازع الآيديولوجية ويوظفه بوصفه شخصية ثقافية هائلة برمزية توجه الأنظار إلى الضد السلطوي المتقنع به. إن رؤية الحجاج الشعرية متحرره من الأفكار الآيديولوجية السلطوية، وهو تحرر يعكس تحرره الثقافي،.. هذا لا يعني أن خطاب المعارضة متحرر آيدولوجيا!، لا أبداً، فالحجاج هنا ليس معارضا، إنما هو ( مثقف ) متجرد ( وإنسان ) يعبر عن انسانيته عبر رمزية ( انسانية الحاكم، مع انسانية المحكوم الذّمّي!) فوجد في علي تطابقا ما بين ( النص _ الخطاب ) ( الشعارات _ الواقع ) ( النظرية _ التطبيق ) وهنا يتحقق رد فعل على الزيف الخطابي السلطوي: قوميا – بعثيا – دينيا… ما أكثر البشر! ما أقل الإنسان! ما أكثر العبيد! ما أقل الأحرار! ما أكثر السحر! ما أقل الشعر!