طيوب عربية

موسم عشق أرض السواد

الفصل الأول من الرواية

إشبيليا الجبوري – العراق

إشراقة_من أعمال التشكيلي رمضان نصر
إشراقة_من أعمال التشكيلي رمضان نصر

 
في ظلال المقهى الخشبي، في برد شاطيء البحر، على جانب البحر، حيث المراكب وأصواتها، في رائحة البحر، المقهى، الحانة، الوجوه، الروائح، وبين الحقائب الغريبة ترعرع أبو يعقوب. أبن القرية الوسيم، الطالع السحنة، فتى مفتول العضلات، طويل القامة، تلمذ يومياته على يوميات المقهى صباحا، والمطعم بالظهيرة، والحانة مساءا، صوته عذب بحنجرته، والآهات المستخرجة من صدره العاري الذي لونته اشعة الشمس، والمغطى بسترته الداكنة وكوفيته البيضاء التي تغطي شعره الأشيب تعلو رأسه، محمولة أطرافها على كتفيه الفارعين. سترته الداكنة الرثة، كانت كمخزن متنقل، يخزن فيها علبة سجائره، والمفاتيح ورسائل المغتربين المودعة إلى أهاليهم المسافرين إلى المجهول، والفتحات الأخرى من سترته ، يختبيء فيها كعادته قنينة خمرة العرق البلدي المعتق، ومزته المفضلة، الفستق المحلي المالح ، المولع به.
 
عينينه السوداوين الواسعتين، مغرورقتان بحزن دفين، لوحت فيها تواريخ، ومحطات، وموانيء، وارصفة، ووجوه، وانتظارات لم تزل معاصيها دامية، حين يرفع صوته في آخر الليل عند شاطيء البحر، وهو يغني مخمورا، غناء نشيج ، وشيج، تتسرب في عذوبة الحان الأم والأب والحبيبة، والانتظار المؤبد الأليم.
 
تعلم ابو يعقوب الكثير من خلال أختلاطه بزبائن المقهى البحري، كان يشارك البحارة بالحديث عن البحر، ومشاكل الصيد والتأملات، في نهار المقهى البحري، كان يلوذ بعمله صامتا وهو يقدم خدماته لزبائنه الجدد الطارئين، وليلا مع ندمائه يتدرب على المجادلات الكلامية، وابتكار الحان الغناء بطريقته الخاصة في الاداء وبصوته الرخيم، الحزين… تسمعه وكأنه ينادي مناديا ما، يزداد تأملا بمساحات صوته وهو يستغرق بالاداء والاحتساء.
 
كان يتقن فن التعامل مع الآخرين، ويعرق لغات ولهجات، وأشخاص، ووجوه وأصدقاء من الجنسين. لا يكل من الحديث عندما تسأله عن فلان، يسرد لك وقائع وأحداث لا تمر في تاريخ فلان نفسه من تفاصيل ودقة ومتابعة، وان سألته عن امرأة يعرفها، يسرد لك قصة رحيلها وطلاقها وعشاقها، وقصصها الغرامية، أما غيرهن فيستجيب للصمت، أو لا يود الخوض في تفاصيل من لا يعرفهم. ولديه في زاوية المقهى صندوق خشبي قديم داكن، يخزن فيه مفاتيح من رحل عبر الميناء وترك له مفتاح داره عله يرجع في يوم ما، ليسترده من أبو يعقوب، وذلك ان احتمل الامر برجعوهم.! ولا يدلل من كثرة تراكمهن، وكثر قصص اصحابهن، أن أحد حاول العودة.!
 
رغم الصمت والهدؤ الذي يشهق به، إلا أن الحركة والرشاقة بالانتقال بين الطاولات، ترسم له عند مغيب الشمس غناء بزفير حزين. له نفس ساكنة، وجهه وشفتاه يبرقان بطيبة نفسه، وروحة المرحة، وتأملاته تدل على التفكير بما يعرف كيف يدرك، تأملاته للبحر، وعمق ذاته، وأأتمانات العابرون بكلماتهم الأخيرة، وسفرهم مع المطلق، ترسم أسفاره مع النجوم، والخمرة، والقمر وهو يسغرق في التأمل.
 
يرقص ابتهاجا في الليل حينما يسمع اصوات البواخر القادمة، يتعطش لمعرفة الأخبار مع رسائل القادمين، تستغرب وأنت تراه كيف يرحب بالقادمون عند الرصيف للمقهى البحري، وهو ينفخ بالحسرات تارة، مدمن مودة، ولهفة عناق، يزداد ترحيبا، يشعل سجارته بكانون الفحم، وهو يعد الشاي والشواء، يكون مفعم بالحركة حين يمرر يديه بالمصافحة لصديق له، تعلوه الابتسامة، يبدد لك كل ما كان مخبيء قبل مجيئهم، وهو يسأل الجميع دون أن يعرفهم احيانا عن مشقة السفر والبحر، تشعر بأن معاشرته للزبائن ليس بمشكلة، ترى مودتهم له من الجميع على محياهم، إلا انه لا ينسى قنينته حين يقتنصها بين الحين والآخر، وهو يضرم النار وروحه تتأجج بقنينة خمرته المتجددة.
 
لكن أحلامه أدمنت أن يكون أميرا للمعرفة، وحكيما بالعشق، ورجل ظليع بالغناء، وفيلسوف اخلاقي، وزير نساء لم ينجبه التاريخ بعد، وطاهي، كان يطلق أمانيه أثناء حوارات الليل المخمورة، وقلبه يتراقص بهجة لهذا الحلم.
 
حنينه الدائم يتراقص لذة لأمه، حينما كان طفلا في القرية، وهي تراه يقطف التين ويجمعه بالسلال، وحينما يلعب مع اصدقاء من ابناء القرية، وهو يتقافز السواقي والأحراش، أبو يعقوب، الوسيم، قوي البنية، رشيق الحركة، سريع الانتقال، وخص النظر، فائق ببداهته ولياقة لسانه.
 
أبو يعقوب يداعبه الحب، ومغازلة بنات قريته الشابات له، كان يطوف القرية عند المساء ليشم رائحة البخور، وهو يتطلع عن بعد لضؤ الفوانيس لغرف النوم الحجرية، كيف تتهافت، وهو متجه إلى بيتهم، ورائحة أزهار حقول الصيف المسائية، تنقله بحمية لألتقاط قنينة الخمرة، لإنهاءها قبل الوصول، بلسعة نفس وعين بارقة وروح غارقة بالدفء، يقضي عليها.
 
لكن أكثرهم حبا، هي (حميدة) جارته، كانت تحب صوته الرخيم، وهو يغني في باحة داره، وأمتع ما أحبته فيه شجاعته، وروحه المتوقدة ورجولته المتوهجة، وأفكاره الطموحة.
 
(حميدة)، كانت تدرك بان أبو يعقوب لن يكون كأبناء القرية الكسالى، ولم يمارس تجارته بأثمار المزرعة جشعا، ولم يكن تافها وفارغا، ولم يكن صاحب مهنة شريرا خبيثا وقحا، ولم يكن مبهرجا بالكلام ثرثارا غبيا كالقطيع.
 
(حميدة)، لا تود أن تصبح الا صورة من خيال أبو يعقوب، لا تود الانتماء إلى قريتهم إلا لما تراه في أبو يعقوب، فكانت محبوبة، رائعة، كأنها من وقد شمعة وتركها أبدية بوجهها المشرق، وعيناها المتوهجتين كالبريق، وهي تعرض عن ذلك ببهجة لأبو يعقوب عند الحقل وهو يحاول تتبعها عند الجدول، وهي حاملة جرة الماء على كتفها، كان يقع عندها ظلالا وبهجة ونشوة. كانت تتمنى بحلمهما أن تتبع أبو يعقوب اينما جاب الأرض معه، تكمل نصف دينها، بالحلال، على سنة الله ورسوله، وكيف ستناضل لادخال البهجة إلى ذاته العفيفة الرقيقة، عندما ستنتقل إلى بيتها الزوجي معه، وسترافقه زوجة، وصديقة، ورفيقة، مدافعة عن أفكاره وطموحاته، في حمل كلمة الحق مع محبوببها الرائع، لفك طلاسم القهر والاستعباد المشاع.
 
أحب وأغرم به أبناء القرية، وهو يدخل ظلالا شذريا من الحب والتأمل في نفوس الناس، وهذا ما كانت تسعد بسماعه (حميدة) عنه دائما وهي تتمايل بخصرها اللدن. ووجهها تغسله أيماءاتها الهادئة النبيلة، وجبينها يتوقد بأفكار أبو يعقوب اللطيفة السامية، وحياته الطاهرة، وكلمته الحكيمة، وطموحها ببلوغ حلمهما، وحيازة ظمأهما وآلمهما عن التيه الذي بلغ به أبناء القرية عن عدم أأتمان ويقظة ترويهم لما يكفي من الشهيق والزفير لدورة حياتهما المتبقية.
 
لكن أبو يعقوب لم يبهج نفسه، ولم يكن راضيا بداخله عما كانت تستكشفه له تأملاته، كان هائما في الحقول، بين الاثمار، ولون الاشجار، يجلس عند الجداول، وظلالا الاشجار، وهو يمضي بالتأمل، مطهرا نفسه باستحمام في الجداول. كان يجالس بعض أبناء القرية تحت البرودة الشفيفة لظلال شجرة التوت، التي أعتاد الجلوس عندها، واللعب وهم صغارا، هادئا وحركاته بالحديث تزداد تهذيبا وهو يسمع الاخرين، جعل الاخرين أكثر حبا وشغف بحب لقاءه، يحمل البهجة في قلب من قابله، والاحلام والتأمل لا قرار لها، وهو ينظر إلى الشجر ونموه، وجريان النهر، وحركة الغيوم، وتعاقب الليل والنهار، وعظمة شموخ الجبال، والكواكب والنجوم. كان يقضي ساعات طويلة يتأمل بهذه التعاليم الدؤبة الصماء. كان أحيانا يشعر بالجوع وقت الظهيرة ويستسلم للرجوع إلى البيت وهو يتشهى وجبة طعام الغداء من أمه.
 
أبو يعقوب، أشرئب به الحزن والامتعاض، وهذا التأمل يتغذى به طوال الوقت. أخذ يفكر ببقاء أمه وحبه لأبيه وأبناء قريته و(حميدة)، بقاءهم الفاني، أخذت هذه الصورة من تأملاته تضاعف فيه الامتعاض، وهو يتحسس أن هذه اللا أبدية في بقاءهم، يزداد بها آلما وأوجاعا. بدأ يتوجس وجع أبناء قريته بشيوخها ونساءها، وهو يراهم كيف يتعذبون، في أعمالهم، وكدحهم الذي يذهب سدى بلا  عائد منفعة، ودون راحة بال لهم.
 
 أخذ يهجس بجلوسه مع أبيه الجليل، المعلم، الشيخ الوقور، ورفقة لقاء حكماء القرية الاجلاء في بيتهم، مساء كل يوم خميس، وهم بعد صلاة العشا، يتحدثون عن الفضيلة، والثواب، والصبر، وحسن الاخلاق، والضمير، والانتظار، وترقبهم ليوم أفضل من هذه الايام التي يتسامرون بها، بتبادل الحوار والحديث، كانوا ينعتونها بأيام قهر وجهل ومرض واضطهاد مر. وهم يرددون فرحين بأمل فيما بينهم، على أن هذه الايام زائلة، لا يودون البقاء والاستمرار بها طويلا لتحمل مزيدا من الآثام والفواحش، وهم يدعون الله صبح مساء، اثناء صلاتهم وتسابيحهم، ان الله يرحمهم منها، ويكرر لقائهم بحياة طاهرة أفضل، أبدية.
 
تصبب هذه الكلمات بذاته زيتا تأمليا غزيرا، لروح لم تنتهي من عطشها لمعرفة ما يدور بهذه الكلمات من جوهر، وهو يرددها بتأملاته، عن نصاب هذه الكلمات، وحكمتها، والرضا بها، وما هي علاقة النفس بهذا كله التي تأبي الحياة دون تحقيقها اخلاقيا.؟ ومن هم القرابين المنتظرة بهذا كله؟ وهل أباءهم تزوجو وانجبت امهاتهم ليكونوا قرابين؟ ماهي الخطيئة التي اقترفوها، ليكونوا في قوائم المذنبين؟ ومن هو سعيد الحظ، و روعة شده بأنتظاره اليهم ليرتوي ضمأه بدمائهم.؟!
 
كان مزدحم التأمل، متوهج بالأسئلة وهو يتناولها. لم هذا الخوف الذي يفوح به القلب؟ ولماذا العقل يختبيء من المواجهة، ويخفي نفسه عن القلب؟ هل العقل مخلوق آخر؟ هل بسببه أقترف القلب ذنوبا؟ أ لهذا يرتجف القلب ظاهرا ويخفي العقل نفسه باطنا عن جريمته، ما فعلته؟ وماذا فعل العقل، ومتى تظهر خطيئته؟ كي يستشف القلب سبب شدة أرتعاشاته واضطرابه الدائم، والتخلص من هذا الاحساس بالخطيئة؟ أم انهما مزحة أو أكذوبتان، والاثنان فانيان وليس لهما علاقة بالثواب والعقاب، والوجود والعدم؟ أم الاثنان يفقهان فن اللعبة؟ وما شأن القلب والعقل والخوف والخطيئة من خلق هذا الكون ونهايته.؟
 
صحيح ان مجلس الحكماء في بيت أبيه الجليل، تعلم فيها الكثير من تلاوة وتجويد القرأن وحفظه، والتواشيح، والاحاديث، وسمع فيها روائع السير والقصص والحكايات التاريخية، وعن حياة الرسل والانبياء، والخلفاء الراشدين، والزاهدين. وكثير ما أوقفته سير حياة الخليفة (عمر بن عبدالعزيز)، وهي تتكلم عن الزهد والارادة والضمير، والحق والثواب، وجزاء العقاب والخطيئة، والعقل والفكر، والموت والانبعاث، واليقظة المضطربة والنوم الهاديء النقي. كانت تلك الآماسي أوقظت فيه عمق التأمل وسبر الاغوار، وكيف ينتقل أحساس الرضا من خلال تأدية الأمانة بالصدق، وحفظ الارادة بها بأتمان.
 
كانت عند أبو يعقوب مجموعة مدونات، من كلمات مأثورة لفقهاء راسخون في العلم، وشعراء فطاحل في الحكمة والبلاغة، وله مزيدا من حكم الانبياء النقية، كانت تلك المدونات يراجعها، ويحفظها، وهو يتمتع بقراءة ملاحظاته، بروحه المزهوة، وكيف انتقلت هذه المعرفة، من الاقلام والاوراق وسلالات المعرفة التي تعلمها من مجالس ابيه الجليل إلى فكره الوقاد. لكن كان تواقا لمعرفة ما تعلموه هؤلاء الحكماء ـ اللغز، كيف؟ ولماذا هذا الرأي وليس ذاك؟. يوما ما، مما دعاهم للأعتراف بالذنوب، وأن يفيضوا بهذا الفيض الفكري الطاهر كله كتطهير ذاتي، وهل تغفر الخطايا والذنوب هكذا؟ على أعتبار ان الله غفور رحيم، وعفى الله عما سلف. وهل أشعرتهم فياضة وكياسة أبو يعقوب بطهارة حكمهم بالثواب، ام أنهم ادركوا حسن ايمانه العميق اليقظ الوهاج بتعطشه لمزيد من المعرفة من علمهم الغزير؟ وهل سعادتهم به، كأبتهاجه بما تعلمته (حميدة) من دروس الحكمة؟ كسعادته بقرأتها لمدوناته؟ كانت (حميدة) تقرأه بسحر وشغف عن نفسها، وهي تكتشف ما كانت تجهله عن اهم الامور المبهمة.
 
كانت (حميدة) جديرة الاعجاب بأبو يعقوب القروي، بكلماته، واسئلته الحكيمة، وخلف ما يتركه من فكر وقاد رائع بذاتها. كان يردد قوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). وكانت تراه أحيانا كثيرا يحسب نفسه قريبا من الخليفة (عمر بم عبدالعزيز) منه، وهو يتنقل بين زهد الدنيا وعالم الآخرة. لكن لم يستطع بلوغ مجالسة حكماء مجلس ابيه الجليل، الذي تعلم منها الفصاحة، والحكمة، والموعضة الحسنة، وهو يزداد يوميا شغفا بمعرفة العلوم والفقه، والمصير الابدي.
 
ذات يوم رأى (حميدة)، طلب منها ان تتبعه إلى الحقل، إلى حيث شجرة التوت مقر لقاءهم الدائم. فجلسا يتبادلان الحديث وهما يتأملان ببعض منذ العشرون عاما. تأهبا قبل مغيب الشمس، وهو يقول لها:
اسمعي حميدة، قررت أن اتزوجك على سنة الله ورسوله. بعدها نمضي نحقق أحلامنا. قال هذه العبارات وهو يردد كلماته بتقوى وايمان مع نفسه، وهي تسمعه كعادتها بهدؤ و روح رائعة، وهو يقول، قول الله ( .. يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.) وبعد صمت، التفت اليها قائلا مرة اخرى بصوته الخافت، الهاديء، الطاهر، النقي ” بلغي اهلك بالامر..” وخفتت خطوات كل منهما إلى بيته.
 
حل المساء، وحان موعد صلاة المغرب، دخل والده الجليل إلى مجلس الصلاة، داخل البيت، رأى أبو يعقوب يبسمل بمسبحته، وكان يدعو ربه بقلب خاشع، ونفس صادقة لله. نبهه بقيام الصلاة، وبعد أن أنهيا الفرض. أعدت أمه العشاء، نادت عليهما من وسط باحة الدار، جلس وعيناه في تأمل وأستغراق عميقين.
” ما بك يا بني..؟” قال الوالد
” قررت أن أكمل نصف ديني، من بنت جارتنا (حميدة)”. قال أبو يعقوب
قالها وجلس بنفس مستريحة، مستغرقا بخياله لـ(حميدة) وسعادته بها، وهما يطوفان العالم بهذا الحب، والبحث عن سر توارث الضعف والاستعباد.
 
مساء اليوم الثاني، تصاعدت الزغاريد، واذ أبو يعقوب مع حميدة يطوفان أرجاء القرية المضاءة بالفوانيس والشموع، وسط احتفالات ابناء القرية بهما، مع كبار أهالي القرية وحكماء مجالس ابيه الجليل، وكانت النساء ينثرن الحلويات والرز على رؤسهم واكتافهم، والاهالي تنحر الذبائح مكتوين بالفرح، والالفة تعلو هاماتهم بين ما تمنت لهم الدعوة لحضور هذا الفرح لابن الشيخ الجليل، حيث حضر الأقرباء والاصدقاء ومن اهالي القرى البعيدة والشيوخ، من كانوا من اصدقاء مجالس ابيه من الحكماء وغيرهم، حيث تتطاير من السنتهم الادعيه والتهاني، وعيناهم واياديهم مرفوعة إلى السماء بالدعاء لهم بحسن الذرية الصالحة، ويتعقب موكبهم شباب وشابات القرية، وروائح عبقة من البخور والعنبر ممزوجة بعطر أزهار الحقل القادمة من نسمات المغيب الشفيفة، تمليء الروح بالتعبد والخشوع والدعاء، وابو يعقوب وحميدة تملأ روحهما الطاهرة صدق الوعد، والطمأنينة ومستقبل أحلامهما الذي ينتظرهما. يمسك يدها برفق، ويدها اللدنة تجتمع بيده كعسل اجمعه النحل، وهو يشابك كفيهما كسلال تين القرية الربيعي في الصباح، تشع أبتسامتها السامية اللطيفة الراقدة على شفتيهما نقاءا، وهدؤا، وشابات القرية جديرات باعجابهن بقصة حبهما التي بلغا ثمارها، أمام جميع أبناء القرية، ورائعة روائح الأكل والقرابين التي صبو أبناء القرية غزارتهم بالروح الطيبة والرضا الذي يمليء نفوسهم الهادئة، وقلوبهم مرتوية بطهارة هذين القلبين النابضين بالحب السرمدي، ببواطن لا تهدم. أحلام بلا قرار لها، يدغدغ فيها النشوة والشكر لله. تتسرب لهم برودة الجداول والحقول عبق عطر الورد والحناء وعيناهما تلتمع بوسط البخور المتصاعد وهما يتقدمان للبيت الجديد، وبخطوات راجفة يدخلان، فيلتمع لهم الليل بالنجوم، والشمس بأشعتها، بدأ يحس أبو يعقوب حب أبيه، وأمه وحبه لحميدة، لن يشبع أبناء قريتهما ولا يرضيهم، الا انهم عرفوا ان السعادة أكتملت بهما بعد أغتسالهما ليلا وناما بسعادة. هكذا تمت حكمتهم وبدأت رحلة أحلامهم.
 
ملازمة أبو يعقوب لأبيه الجليل كواحدا من الذين قرأوا وكتبوا في مجتمع قريتهم الأمي، وحبه للعلم وشغفه به، جعل أصدقاء والده الجليل، ومجلس الحكماء منعم بمحبتهم له منذ صغره، وقد ثابر وهو يعيش منذ طفولته في كنف مجالس ابيه، فتربى على يديه وزادت عناية والده به بعد بلوغه، فكان والده الجليل الرافد القوى الذي أثر في شخصيته، وصقل مواهبه، وفجر طاقته، وهذب نفسه، وطهر قلبه، ونور عقله، وأحيا روحه، فقد لازم والده في المجلس داخل القرية وخارجها، وقد كان حريصا على التتلمذ على يديه، وعلى يد كبار رجال مجلس الحكماء، الذي كان يربي أصحابه على تعاليم القرأن الكريم، فقد كان هو الينبوع المتدفق الذي استمد منه أبو يعقوب علمه وتربيته وثقافته، وقد كان والده تزوره وفود من رجال العلم وكبار أهالي القرية على حسب الوقائع والأحداث، وكان يقرؤها على أصحابه في المجلس وبرفقته أبو يعقوب، مع الذين وقفوا على معانيها وتعمقوا في فهمها، وتأثروا بمبادئها، وكان له الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم، كان أبو يعقوب واحدا من الذين تأثروا بالتربية القرأنية على يدي والده الجليل، وتشرب تعاليمه وتوجيهاته الجليلة، وقد اهتم أبو يعقوب عنه منذ يقظ فكره بحفظ القرأن الكريم، وفهمه، وتأمله، وظل ملازما لأبوه يتلقى عنه ما سيقول عليه حتى تم له حفظ القرأن وجميع آياته وسوره، لقد حصل أبو يعقوب عنه ببركة صحبته لأبوه الجليل، وتربيته على يديه خيرا كثيرا، وأصبح من له مقعد بمجلس ابيه فيما بعد، فقد حرص على التبحر في الهدى والحكمة في القديم والجديد من المعرفة، وأصبح لأبو يعقوب أطلاع واسع ومعرفة غزيرة بالمعالم الجديدة، فقد استمد من أبيه الجليل علما، وتربية، ومعرفة بمقاصد هذا الكون العظيم. وقد جمع بين أبيه الجليل وأبو يعقوب حب شديد، وما يعتقده والده بأن الحب عامل مشجع ممتاز بين معلم المعرفة وتلميذه، يأتي بخير النتائج العلمية، والثقافية، لما له من عطاء متجدد. أبو يعقوب قد أحب والده حبا جما، وتعلق فؤاده به وبأمه. وقدر نفسه أن يقدم روحه الطيبة العفيفة فداء لهما، وأيضا يود أن يضحي في سبيل نشر حلم دعوته مع حميدة.
 
 لما حان الرحيل، نزل الموت بأبيه الجليل، الذي كان أخر ما تكلم به ابوه: ” توفني مسلما وألحقني بالصالحين”. وحزنت أمه لموت أبيه ووقعت مغشية عليها من شدة الحزن، فماتت من ساعتها، ودفنت بجوار أبيه في وقت واحد. وأرتجت القرية الدانية والقاصية لوفاتهما، ولم تر القرية يوما أكثر باكيا وباكية من ذلك المساء الحزين، وأقبل أبو يعقوب مسرعا، باكيا، وهو مسترجعا ما كانت صلته بوالديه، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، كانت هذه المودة والثقة المتبادلة، وكانت من متانة بحيث لا يتثور معها التباعد، فزوجته (حميدة) بنت القرية والحبيبة، بنت القرية الرقيقة القلب، من أحب الناس إليه مهما أحتدم الموقف. “رحمك الله يا أبي ويا أمي، كنتم إلفة أنس، وراحة، وثقتي وموضع سري، ومشاورتي، وكنتم أول القوم حبا، وأخلصكم يقينا، وأشدكم حنينا وتقوى، واخوفكم علي، وأعظمكم حبا الي، وأحوطكم حرصا بحلمي مع حميدة، وأحدبكم زلا على وجعي، وأحسنكم صحبة، وأكثركم من ستحبوني، وأفضلكم انتظار بسفري، وأرفعكم مودة، وأقربكم وداعة، وأشبهكم بحلمي متاعا لقلبي وترحالي مع حبيبتي (حميدة) يا أشرفكم منزلة، وأرفعكم عندي، وأكرمكم لي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه وسلمنا له أمره (هذا ما قاله أبو يعقوب لنفسه) وهو مطأطأ رأسه عند أكتاف حميدة في المساء بعد ان رحل المعزون.
 
منذ زمن قد زار مجلس ابوه من (ارض السواد) مجموعة من الحكماء، الخطباء والعقلاء، والنبهاء، الذين يدعون أشاعة العدل، والحق، والمساوات، والحقوق والواجبات. كانت وجوه تجلب التوازن والدهشة، وخلابة الروح بالايمان تتوقد في محياهم، تضيء قسماتهم، تسطع اشراقات أبتسامتهم بقوة العدالة، وسلطان الرحمة، وغنى التواضع المتيقن بالحق، والقبول بالصفاء والانقياد إلى خلاص الرحمة والمحبة. كانوا كهولا وشباب، نساء وشابات، يملؤ نظراتهم نظارة التبصر، تتلامس فيهن النفس الراضية، حين تتأمل بعمق ترى ملأ الالم الاخير وهو يتراشق من وجع الرحلة، وأعينهم تخبب، تسري فيهم رعشة العطش الاخيرة، وشعور عميق ينهض بين الحين والاخر بوداعة تسيل من روحهم المطمأنة، وهم محاطين بالترحاب، وعزم الصبر، وظلال الاشجار تتطاير عليهم وهم في غمرة الاحساس العميق بنظارة الاستقبال، رغم أكتوائهم بالمسافة والشمس ووحشة الدرب، إلا ان عذوبة ملكوت الرحمة ينال هباءه لهم وهم ينصعون بصيرة ونبلا في أستغراقهم. واذا أحس أبو يعقوب بعد أن وعدهم بالزيارة بملمس روحي أشفق وأجزل وأشغف عليه، يرنو أعماق صدره و روحه المنشرحة، وقلبه يتنبع تعاليم بصلات حياتهم ومثل أفكارهم بما تمناه أن يشاركهم قدرهم وهو يتعلم فن الحب وطقوس اللذة بالعطاء ونكران الذات الدامي.
 
أنسل أبو يعقوب إلى رائحة غرفة النوم العابقة بالشغف الصامت، رأى حميدة تحدق عبر النافذة الحجرية المطلة على الحقول، وهي تروح وتجيء، وبقلب مهموم، تتوقف صامتة تتأمل بعمق، وقدميها الحافيين يتلألن لون ورديا فاتح اللون، تجمد في مكانه، لم ينصرف وقلبه يمتليء قلقا ومضضا نابضا في الاهتداء لتحقيق حلمهما. نظرت إلى الخلف، وبنصف ابتسامها، رأت، أبو يعقوب، واقفا صامتا يتطلع إليها كمعجزة، مكث جامدا، بلا حراك، هادئا، ساكنا، تماثلت فيه نظرة تضاهيها بنصف أبتسامتها، دغدغته أمنية حقيقية بالتأمل إليها جالسا وماشيا، ويقبلها قبلة حرة، قبلة جليلة، خفيفة، منشرحة، طفولية، ملغزة، مغمرة، قبلة قروية مكنونة بذاته وهو ينفذ لذاتها. لكن أبو يعقوب غمرته التعاليم ففضل أحترام لحظات تأملها ووجهها يتوهج كأشعة الشمس، وبريق عينيها في الظل تتلألأ بغلوهما بالفرح والسعادة العذبة، وثوبها يتكاسل على نهديها البهيين المتنافرين، الملهوفين، التائقين، المتألمين، الشجيين، الناضجين بالشوق، المرهفين بالرغبة، المغلوليين بالفرح والالم، وجسدها العامر بالسهر والشوق ينضح فيها كشلال تتآلف منه الجداول، والانهر، والينابيع، وساقيها المنتفضتان تبرما كجدائل قروية عامرة، يتألقان توقدا تحت ضفتي خصريها، تتراخى أزرار ثوبها الليلي فوق مفاتنها كجنائن ظليلة بنضج النحل، ثأرت فيه رغبة تنضج ببطأ لتقبيلها على خديها الناعمين الضاحكين، يرفق خصرها الضطرم ببهجة اللون والرونق، وهو يتأمل نسائم عذبة تستولي عليه، وقاع النشوة يراقصه زهوا في عطرها العبق.
 
قالت له: ” لماذا تنظر إلي هكذا؟.” وشجى نبرة صوتها ملهوف كوداعة نبرة النهر.
“اتأملك حبيبتي. كم أنت جميلة.!” قالها أبو يعقوب متلعثما
أحمرت وتغير لونها خجلا ـ وهي تقاطعه ـ قائلة بشعور متلذذ “..هل وراءك من خبر يفرحني؟”
” أطمأني، سنحقق أحلامنا حبيبتي، سنغادر القرية..القرية لم تعد وطن لنا.”
حال سماعها ما ينطق، وسرها يلفظ أنفاسها، ورداءها الطويل يغوص بها أبتهاجا وفضول، تتفحص نظراته، ترمقه وهي هامسة: ” وأين سنتجه، يا أبو يعقوب؟.” قالتها وهي تبتسم كمن أنساب الورد وغسل وجهه في نهر، وتبدد الذبول وأنسرح بالسرور والانشراح، وهو أمها بوجهه الساكن، الطيب، النقي كما سره وقلبه. كانت تحس بأصغائه يلامسها بأحساس أقوى به يوما.
” إلى أرض السواد حبيبتي، ومن هناك ننطلق.” قالها، وشفتيه تنبض بالكلمات كقلب طفل صغير وهو يستعد لفتح هدية عيد ميلاده.
قالت، “هذا رائع، رائع جدا.” ومن دون أن يعرف حملت نفسه من دون جلبة إلى كم ثوبها الملفوف تحت ابطها، واستجدى بهم الصمت، وساورها بقبلة وثب إلى ثغرها المحمر كحبة كرز بلدي. فتأجل السفر بسبب وفاة والده.
 
في المساء، بعد اسبوع من وفاة والديه، وبعد تأمل في باحة الدار، ورائحة عابقة تلف به الشغف الصامت، متلفعا بالاستغراق، ساكنا، عيناه مثبتتان في زوايا البيت، واعماقه النقية تلتذع في الشهيق والزفير. كانت (حميدة)، عندها منزلة السامع والباصر، فيما تنزل بقلب أبو يعقوب من فاجعة، عانقته، وأتيه بها قلبها حين ضمته إليها، وقامت معه على البكاء حين قعد، وصحبته في شدة كرمها، صحبة الرفقة، والمحبة والحنان، منزلة علية السكينة والهدء الا من سواهما، ورفيقته في الرحلة هذه، وخليفته في الدين لذريته بحسن تربيتهم، وحين يرتون علما، انهضته من الأمر ما قام به، ونهضته حين وهن، وبرزت حين استكان، وعزمته حتى هدأ، ولزمت به إذ وهن وضعف، تشد بأسه، متواضعة في هم من في نفسها، عظيم شأنها، جليلة في أعين الناس، كبيرة في أنفس أبناء القرية، لم يكن لأحدهم فيهم مغمزا ولا مهمزا، ولا لمخلوق يخفف هوادته، وضعفه عند أقوى من عزيز يأخذ بحقه حقا، لا القريب ولا البعيد عند سواءها، وكانت أقرب الناس إليه وأطوعهم وأتقاهم… شأنها شأن الحق والصدق، والرفق، حبها وقولها اعتدال به، وقواها به ايمانا، وقلبها له أمر سبق الدفء سباقا عظيما، ولم تتبعه من بعد ما اتعب قلبها حزن حبيبها الشديد، وفازت بخير حبه لها فوزا رائعا. لن يصيبها وجعا بعد بمثله أبدا، فهو لها عزا، وحبيبا وزوجا، فألحقته بمحمل روحها، “…يكفي أبو يعقوب بعزة الله وجلالته ونبيك محمد… ” تنهدت، سكتت (حميدة) بعد ان قالت كلماتها الاخيرة وهي تغص بكلامها. عانقته… وجاء صوته إليها ” حبيبتي سنلحق بحكماء أهالي أرض السواد
فجر الغد”. بادرته لطفا وكمالا وهي تتطلع إليه ” أنا لك حبيبي، وآن الآوان لسماعها من فمك.. أيها الرائع”. أنحنت عليه وأطالت النظر إلى وجهه، وقبلته على جبينه بفمها الناعم وهو مغمض عينيه الواهنتين، مؤزرا شعرها الاسود الطويل، رائحته الزاكية تداعب أنفاسه الزاهدة. عرفت حميدة: ان مصير الاسفار والصوم ستبدأ، وسيغتنوا بقاع الذات السرمدي. وبملامح ساكنة، استغرقا بالتفكير وهما منطلقان بصوت الحق الالهي القادم من ينبوع صميم ايمانهم الخالص لله، وبصمت وتأمل راودهما النوم.
 
 
إلى الفصل الثاني
 
 
 
 
 

مقالات ذات علاقة

مات الكلام

سامر سالم أحمد (سوريا)

رحلت يا درويش

المشرف العام

الخط العربي يستعيد بريقه في ملتقى دولي بالقاهرة

المشرف العام

اترك تعليق