عبد الونيس محمود الحاسي
ـ قصيدة الممرضة:
قد نتفق على توقيت السماح له بالذهاب إلى المستشفى، من أجل الكشف الطبي، بعد مرضه وهو داخل السجن.. وقد نتفق أيضا على إسم السجن الذي مرض به، والمستشفي الذي نقلوه إليه مخفورا وهو تحت الحراسة.. قد نتفق على ذلك وقد نختلف.. ولكن الأمر المهم الذي لا خلاف حوله، هو أن المبروك الزول في هذه القصيدة، يخاطب الممرضة التي طلبت منه الإذن، بأخذ عينة من دمه، من أجل التحليل الطبي.. فيستهل قصيدته مرحبا بطلبها بالعبارة الشعبية التالية (لا تلحقك غيبة)، ثم تتداعى القصيدة وهي تكثف المعاني وتنسجها بعمق على نحو غاية في الروعة والقوة والبلاغة:
(لا تلحقك غيبة الشيشة عبّي *** امعاك لذن من دمّي اخذي ما تبي
اخذيه كله كله *** دمي وما نبي بديل محلـّه
من حاشن اللي نبيه ما نوصله *** امعيشة صغا فالحبس كاتب ربي
ما وصلتلك والعين فيها بله *** حرس دوم متبندق احذاي امصبّي)
ثم تمضي القصيدة بصورة مرتبة وسلسة.. ويمضي الزول في تشجيع الممرضة على أخذ الكمية التي تريدها من دمه.. بل ويطمئنها بأن أحدا لن يطالبها بحق أو ثأر، أو أي شيء آخر.. لا أبوه ولا أمه.. ولا حتى إبنه الوحيد (تيسير) في ذلك الوقت، الذي تركه طفلا في رعاية والده ووالدته.. ؟!
وهكذا يحثها قائلا:
(اولا تهتمّي *** اخذي ما ينوبك بالوفا من دمي
لا يطالبوك بحق بويا وامي *** ولا يقصدك تيسير ثاري يبي)
ولولا خوفي من الإطالة على القارئ، لأوردت المزيد.. نظرا لجمال القصيدة وعمق مضمونها الوطني.. لهذا سأحاول الاختصار بقوله للممرضة:
(سوا انكان عندي ضغط والا سكر *** يا الوازنة طايع الرادة ربي)
ولكنه يشير إليها من طرف خفي، بأن مرضه ليس عضويا أو بدنيا.. وإنما يعاني من ضغط آخر، أو هم آخر جواني، لا يمكن الافصاح عنه:
(اونا اليوم يا زينة امغير انكابي *** مشكاي مو مرض بيّن.. مرض متخبّي)
ـ قصيدة (امرايف على قرية في برقة):
عندما اضناه الشوق والحنين إلى موقع رأسه.. وملاعب طفولته.. ومدارج صباه.. وهو في سجن الحصان الأسود لسنوات.. مع منع زيارات الأهل والأصدقاء والأحباب.. وخاصة على المحكومين بالاعدام، بحيث انقطعت عنه كلية أخبار أسرته.. فلا هو يعرف عنهم شيئا.. ولا هم يعرفون شيئا عن مصيره.. وفيما إذا كان لا يزال على قيد الحياة من عدمه.. وهو الذي يحتويه قسم الإعدام الممنوعين من الخروج من زنازينهم، على نحو موصول.. حتى للشمس والهواء والحركة.. ؟!.
أجل.. عندما طواه الحنين على نحو بالغ القسوة.. لم يجد أمامه من ملاذ.. سوى أن يرحل إلى تلك المرابع الحبيبة، فوق جناح القافية.. ويبثها حنينه المترع باللهفة والشوق.. إليها وإلى من يسكنها.. من سكنوا عنده حنايا الضلوع.. في عبارتنا الشعبية الدارجة (امرايف) التي تكثف كل هذه المعاني الإنسانية النبيلة.. والأحاسيس المرهفة.. والمشاعر الفياضة الدافقة دفعة واحدة وفي آن معا.. ؟!.
امرايف يقول المبروك الزول.. وهو يرسف في أغلاله ومن وراء قضبانه:
(امرايف على قرية في برقه *** في اوهام قرناده ومنها شرقه)
إنه هنا يحدد موقع اسرته بدقة متناهية.. فهو يقع شرق قرية قرنادة.. ولكن توصيف هذا الموقع بكلمة (قرية) لا يعني مدينة صغيرة، بقدر ما يعني مجرد (علوة) أو مرتفع تاريخي أو أثري، إسمه (أم احنيـّة) أو إسمه (صنب القراقشة).
والزول في هذه القصيدة، ينسج على منوال شاعر العبيدات الكبير المشهور باسم (سالم البنكة)، وهو بمعتقل (البريقة) إبان الاحتلال الإيطالي، في قصيدته الشهيرة:
(امرايف على عكرمة والمدوّر *** البنكة تعوّر *** ادموعه اموازيب والسيل جوّر)*
ولأن الشاعر (سالم البنكة) يخاطب نفسه كما لو كان شخصا آخر.. مما جعل أحد رفاق الزول بالسجن يحاكي البنكة، ويغير المقطع أو الشطر الثاني على النحو التالي:
(امرايف على قرية في برقه *** الزول ابحرقه *** لوهام قرنادة ومنها شرقه)
أي أنه يتحرق شوقا، لتلك الأماكن التي يهيم بحبها.. ؟!.
ولعله هو صديقه ورفيقه داخل السجن (عبد العاطي خنفر) الذي لا يقل عن الزول حنينا وشوقا إلى تلك (لوهام) لأنه من منطقة (الغريقة) الواقعة بين مدينة البيضاء ومنطقة خنافس وقرية قرنادة.. وهو أيضا شاعر شعبي، وقد فاضت قريحته بعدة قصائد جيدة من داخل السجن.. ؟!.
انظر الرابط التالي:
http://www.libya-watanona.com/adab/amelhasi/ah18087a.htm
ـ سنوات المرض والرحيل:
بعد خروجه من السجن بنحو عام أو أكثر.. أي في وقت ما من عام 1989، تعرض المبروك الزول لحادث سير أليم.. تضررت منه رجله اليمنى ضررا بليغا، وكذلك جهازه العصبي العضوي.. ولقد سافر إلى فرنسا للعلاج على حسابه الخاص.. ولكن بعد رجوعه من العلاج بفترة، حصلت نتيجة للحادث مضاعفات وتداعيات أخرى سلبية، أثرت على بقية وظائف وأعضاء جسمه بالعجز والمرض.. حيث ظل طريح الفراش لفترة طويلة.. يعاني من المرض والعجز والشلل النصفي.. وربما أيضا من الإهمال والنسيان.. الأمر الذي دعاه لأن يقول قصيدته المغزولة بالعتاب:
(اللي ايطيح مو مالسريّة *** اولا ايسالوا عليه الرفاقــة
اولا ايبان فوق امعشيـــّة *** اولا عاد يحضــر املاقــة
اولا عاد ايكـــافي ابسيّة *** حتى لو امسك من اخناقــة
اوما عاد يســـوى وقيـّة *** راح ما العجــز في بـراقـة
يا الله يا غافر كل سيّــة *** خفــف اذنــــوب الرفاقــــة
أونا زاد خفـّـف عليـّـــا *** شــدة حســس هالعـــــــاقة)
يبدو عتاب الزول واضحا في هذه القصيدة، نحو رفاقه واصدقائه الذين ما عادوا يزورونه، أو يسألون عنه وعن صحته، منذ أن اصبح طريح الفراش قعيدا.. ثم يعدد مساوئ العجز.. وإلى أي مستوى يهبط بقيم الرجال.. ؟!.. لكنه لا يلبث بما جبل عليه من الشهامة والحلم والخلق الرفيع.. أن يصفح ويتسامح مع رفاقه واصحابه.. وأن يدعو لهم بالعفو وتخفيف الذنوب.. بنفس القدر الذي يطلبه لنفسه، باستعادة صحته وعافيته.. ؟!.
وما من مرة تذكر فيها الزول.. خلال فترة مرضه الطويل.. عجزه وعدم قدرته على المشي والحركة، بسبب الشلل الذي أصاب رجله اليمنى.. إلا وخاطب هذه الرجل في أسى وألم ومرارة.. وهو يذكرها بماضيها وقوتها وجسارتها في السفر وطي الأراضي أثناء الليل:
(يا اكراع يا هولك اللي جاريلك *** ما من وطا قضيتي ساريا في ليلك)
ولكنه حين شعر بدنو أجله.. خاطبها شاكيا وشاكا في قدرتها على المشي من جديد.. بين تلك الأماكن الحبيبة التي يعرفها جيدا كما يعرف نفسه.. (صنب القراقشة.. أم احنيـّة.. علوة بطة.. والحنانة.. والمجاريس.. و..):
(ازعمه من جديد يا رجل تمشي *** بين الصّـنـــب والعلاوي
واللا في اقمــاش تنكمشـــي *** ما عـاد اتمدي خطــــــاوي)
* * *
يقول (بابلو نيرودا):
(إن طيور التمّ.. تموت دون احتضار.. حين تموت من الأسى)
يوم 29 سبتمبر عام 2003، توفي المناضل والشاعر المبروك عبد المولى الزول.. وانتقل من عذاب الدنيا، إلى رحمة الله وغفرانه.. ودفن بمدينة شحات الخالدة التي تتربع على اكتاف الجبل الأخضر الأشم الذي أحبه الزول.. والذي تحطمت على صخوره الصلبه جحافل الغزاة الطليان.. وتكاد تسمع في شعره، وقع سنابك خيول المجاهدين، وهم يترجزون خلال وطيس المعارك، فوق صهوات جيادهم:
(سيدك اعمر ياما لهد بحصانه *** وياما امعا لجواد شـال عنـانـــه
سيـــــــــدك عـــــــــــــــــــــدى *** لا يوم ذل اولا نهار اجــــــــدّى
ياما ظهر تحته احصان اوعدّة *** لا قوت عنده لا اركب سحوانه
عنده رفاقه يدّهم في يدّه *** لا اهربوا اولا رضيوا الوطنك هانه)
وتمضي القصيدة وتنثال على هذا النحو الرائع.. وهي تتغنى وتشيد بتاريخ الجهاد.. وبفرسان الجهاد.. ؟!.
وبعد… وأخيرا.. قال المبروك الزول في نهاية قصيدة (العيد) وهو يطلب من الله الإنصاف والقصاص العادل من الذين ظلموهم وقهروهم، وكانوا يسومونهم في السجن سوء العذاب… قال:
(اوهالحبس عالظالمين اتســدّه *** وايقاسوا تسـاخيرك اللي قاسينـا
اويمشوا على مثله زمان اومدّه *** شوك العذاب اللي عليه مشينا)
أجل… لقد استجاب الله لدعوته، فهي دعوة مظلوم، ولو بعد حين.. فالله يمهل ولا يهمل.. وتحققت أخيرا عدالة السماء الإلهية على أيدي ثوارنا البواسل.. فالمجد والفخار للثوار الأحياء.. والرحمة والخلود للثوار الشهداء.. والعزة والنصر لشعبنا الليبي العظيم.. ؟!.
يقول نشيد من التراث اليوناني:
(تسقط الحكومات.. ويزول الحكام.. وتبقى الشعوب.. فالنصر للشعوب دائما)
(إنتهى)
* نــــــــــــــــــــــــداء:
وبهذه المناسبة، فإنني أتوجه بدعوة ونداء حار إلى إبنه (تيسير) وأخيه الأستاذ والمربي (ذاوود عبد المولى الزول) وإلى أبناء إخوته الآخرين.. أبناء سالم وموسى وسليمان.. بل وإلى اصدقائه ورفاق سجنه ونضاله.. بالعمل على جمع شعر (المبروك الزول) وكتابته وتسجيله وتدوينه، وحفظه من الضياع.. حتى يتسنى نشره واصداره في ديوان، وذلك كواجب وطني، قبل أن يكون واجبا أو التزاما عائليا.. فشعر الزول هو جزء من نضال ابناء شعبنا.. وسعيه الدؤوب نحو الانعتاق والتحرر، من الظلم والاضطهاد والعبودية.. فهو من هذه الناحية، يعدّ وثيقة وطنية تاريخية مهمة، ضد حكم الدكتاتور امعمر بومنيار القذافي.. ؟!. فشعبنا الليبي كما عرف عنه خلال جهاده ضد الإحتلال الإيطالي، بأنه الشعب الذي كتب تاريخ جهاده بالشعر.. كما في اشعار: رجب بوحويش وحسين الحلافي ويوسف بونظارة وفاطمة عثمان وأم الخير العوكليّة، شاعرة معتقل البريقة وغيرهم كثيرون.
** شـــــــــــــــــــــكر:
أشكر الصديقين والأخوين العزيزين: محمود خليفة دخيل وزكري سعيد العزابي، على مساعدتهما القيمة لي في نشر هذا الموضوع. والشكر موصول للأخ الكريم الذي أرسل صورة المبروك التي وضعناها في صدارة الحلقة الثانية.. أرسلها إلى صفحة الأخ محمود دخيل على الفيس بوك، دون أن يذكر اسمه.
أثينا: في 23 يونيو 2012
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- عكرمة والمدوّر هي اسماء مناطق بالقرب من مدينة طبرق.
تعليق واحد
موضوع “الزول” دراسة قيمة واضافة للمكتبة الليبية، شكرا للكاتب ومزيد من هذه الكتابات.